بدأت العلاقة بين التيار الديني والتيار السياسي في المملكة العربية السعودية منذ أن تأسست الدولة السعودية الأولى بموجب التحالف الذي تم بين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب في العام 1744م، وترسّخت هذه العلاقة في عام 1934م، بعد إعلان قيام المملكة العربية السعودية بقيادة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود على أنقاض عدد من الإمارات والممالك المنتشرة في أنحاء شبه الجزيرة العربية.
قام التحالف بين التيّارين لتحقيق مصلحة متبادلة، فجرى الاتفاق بينهما على أن يكون للأول وذريته من بعده السلطة الزمنية أي الحكم، وللثاني وذريته من بعده السلطة الدينية، وهذا ما يفسّر تماسك العلاقة بينهما على مدى فترة طويلة من الزمن، على الرغم من مرور العديد من التقلبات السياسية التي تعرضت لها الدولة منذ تأسيسها.
هذه العلاقة مكّنت رجال الدين من ممارسة أدوار ثقافية واجتماعية ضخمة وواسعة، في ظل المؤسسة الدينية الرسمية، فساهم ذلك في تقويتهم، وظلت نشاطاتهم تتمتع بنوعٍ من الاستقلالية لفترة طويلة، فهي كانت تخضع لإشراف اسمي من جانب الدولة، كما هو الحال في جهاز “هيئة الأمر بالمعروف” أو ما يُعرف بـ”الشرطة الدينية” الذي بدأ دوره بالانحسار تدريجيًا، منذ صعود نجم الأمير محمد بن سلمان نجل الملك سلمان بن عبد العزيز.
الأمير الشاب بعد أن جمع تحت يده مناصب ولي ولي العهد ووزير الدفاع ورئاسة الديوان الملكي ورئاسة مجلس الشؤون الاقتصادية، أظهر حماسًا كبيرًا لجعل المملكة العربية السعودية على أعتاب مرحلة جديدة، “الانفتاح” عنوانها العريض، لكن هذه المرحلة لا يمكن الولوج فيها دونما قرارات جريئة على حساب المؤسسة الدينية التي تمتلك جذورًا راسخة في المجتمع، وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل.
بن سلمان يدرك تمامًا بأن كل خطوة يخطوها نحو الانفتاح تعني تراجع المحافظين خطوة إلى الوراء
ولأنه يدرك تمامًا بأن كل خطوة يخطوها نحو الانفتاح تعني تراجع المحافظين خطوة إلى الوراء، وأن خصومه لن يسمحوا بذلك بسهولة، فقد عمد إلى وضع استراتيجية لمواجهة اعتراض رجال الدين المعارضين لخطته الإصلاحية، وفقًا لتصريحات نقلتها عنه مجلة “الفورين بوليسي” الأمريكية.
بدا ابن سلمان صارمًا في معركته، وجادًّا في تنفيذ تهديداته، فبعد أن قلّم أظافر التيار الديني بإلغاء صلاحيات جهاز “هيئة الأمر بالمعروف”، نفّذ سلسلة اعتقالات لرموزٍ تحظى بشعبية واسعة، لمجرد اعتراضهم على قراراته مثل عبد العزيز الطريفي وإبراهيم السكران وسليمان الدويش، وكثيرون غيرهم، إلا أن هذه الإجراءات لم تحطم الجسور الممدودة بين المؤسستين بشكل كامل حينها.
غير أن إنشاء “هيئة الترفيه”، وتنظيمها حفلات موسيقية – وهو أمر لم يحدث منذ نحو 25 عامًا – مثّل نقطة تحول مهمة في تاريخ العلاقة بين المؤسستين، فانزعاج المؤسسة الدينية بلغ حد الغليان بعد إدراكها أن ما يحصل معركة تهدف لحسر نفوذها وصولًا إلى إنهائه، فبالأمس تقليص صلاحياتها، واليوم التعدي على هيبتها، باعتماد برامج ترفيهية لا تتوافق مع الضوابط الشرعية التي تقوم عليها أسس هذه المؤسسة التي تتشارك الحكم مع ندها المؤسسة السياسية الحاكمة.
قابل ابن سلمان الأصوات المعترضة بقسوة، فلم يَسْلَم منه حتى أولئك الذين كانوا من أهم أذرع الدولة في السيطرة على المجتمع وتوجيهه إلى حيث تريد، فتحولوا من مقربين لدى وزارة الداخلية إلى متهمين لديها.
الداعية المعروف عصام بن صالح العويد أحد هؤلاء، إذ لم تمضِ ساعاتٍ على انتقاده لنشاطات هيئة الترفيه قبل أيام حتى تم اعتقاله والزج به في السجن بتهمة دعم الإرهاب، ولم تشفع له عضويته في “لجنة المناصحة” التابعة لوزارة الداخلية ولا كتبه ومؤلفاته التي هاجم فيها تنظيم داعش وحارب فكره، ولحقه بعد ذلك سعد البريك الذي دعا في عام 2011 الدولة لسحق جماجم المتظاهرين ضدها من شمال المملكة حتى جنوبها.
استراتيجية التكديس في السجون التي يتّبعها الأمير محمد بن سلمان، رغم قسوتها فإنها زادت من جرأة الناس وحدّتهم في انتقاد الدولة بشك غير مسبوق
استراتيجية التكديس في السجون التي يتّبعها الأمير محمد بن سلمان، رغم قسوتها فإنها زادت من جرأة الناس وحدّتهم في انتقاد الدولة بشك غير مسبوق، وهذا الأمر بات يهدد فعليًا بوقوع الحكومة السعودية فيما خشيت منه طويلًا، وهو “الخروج على ولاة الأمر”، وهذه الفكرة لطالما عمل “أصدقاء الأمس، أعداء اليوم” جاهدين على تحذير الناس منها، وبذلك تكون الحكومة قد أوجدت الثغرة التي تُمكّن الخلايا المتطرفة على أراضيها من التلاعب في عقول الشباب ذوي التوجه المحافظ تحديدًا، وإقناعهم بذلك، خصوصًا إذا ما لعبوا على وتر إفساد المجتمع وتغريبه.
خلاصة الأمر هو أن التضييق على المؤسسة الدينية يزداد يومًا بعد آخر، وبدأت دائرة تأثيرها تنحسر شيئًا فشيئا، وتبدّل حال رموزها، فبعد أن كانوا يدخلون السجون ناصحين، أصبحوا يدخلونها مُتَّهَمين، حتى بدأت تغص بهم، وبذلك تكون قد دخلت مرحلة الأفول القسري، لكن تبعات ذلك ربما تكون صعبة.