ترجمة وتحرير نون بوست
في 23 آب/أغسطس؛ توفي زعيم ميليشيا فاغنر الروسية، يفغيني بريجوزين، عندما تحطمت طائرته في طريقها من موسكو إلى سانت بطرسبرغ؛ حيث أثارت وفاة الأوليغارشي عددًا من التساؤلات حول مستقبل مجموعة فاغنر، وخاصة أنشطتها في أفريقيا.
وجاءت وفاة بريجوزين في وقت مضطرب بشكل خاص بالنسبة للقارة الأفريقية، وخاصة مع الانقلاب الأخير في النيجر، والذي أعقب الانقلابات الأخرى في دول الساحل في السنوات الأخيرة، وخاصة في مالي وبوركينا فاسو.
ويُنظر إلى مجموعة فاغنر بشكل متزايد على أنها الذراع العسكري القوي للكرملين في منطقة الساحل ووسط أفريقيا، كجزء من إستراتيجية تزيد – بشكل غير مباشر – من وجود روسيا وقوتها في القارة.
وفي الوقت نفسه؛ يبدو أن الجهات الفاعلة التقليدية غير الأفريقية في المنطقة، وخاصة فرنسا، بدأت تفقد تدريجيَّا موطئ قدمها داخل هذه البلدان، وهو أمر أساسي للأمن الإقليمي.
ما الذي يحدث حقًّا؟ هل هذا تحول جيوسياسي دائم ولا رجعة فيه لميزان القوى في أفريقيا؟ تُـرى هل هذه نهاية سياسة فرنسا في أفريقيا أم أنها مجرد تحول نحو نظام متعدد الأقطاب؟ وهل يمكن أن تكون هذه فرصة للدول والمؤسسات الأفريقية لتأخذ زمام المبادرة في إدارة القضايا الأمنية، وخاصة في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل؟
القوى الأمنية في أفريقيا
وبعيدًا عن اختفاء بريغوجين ــ وهو ما لا يعني بأي حال من الأحوال نهاية مجموعة فاغنر، نظرًا لفائدتها للكرملين ــ فإن إلقاء نظرة على توازن القوى الجديد بين الجهات الفاعلة الخارجية في أفريقيا يشكل خطوة أولى مثيرة للاهتمام.
منذ عام 2013 على الأقل والتدخل الفرنسي في مالي – الذي أطلق عليه عملية “سيرفال” – وتلعب فرنسا دورًا مهمًا كقوة أمنية في إفريقيا، فقد حظيت عملية “سيرفال” بالقبول على نطاق واسع واعتراف بشرعيتها، سواء من قبل المجتمع الدولي أو من قبل الجهات الفاعلة الأفريقية نفسها، بدءًا من دولة مالي.
من ناحية أخرى، فإن عملية “برخان”، وهي توسيع عملية مالي إلى أربع دول أخرى في منطقة الساحل – بوركينا فاسو والنيجر وموريتانيا وتشاد (التي تسمى مجتمعة مجموعة الخمس في الساحل) – اختبرت صلابة وتماسك وجود السياسة الفرنسية على مدى السنوات الثماني من انطلاقتها.
وانتهاءً في عام 2022، لم تحقق “برخان” النتائج المرجوة؛ وهي تعزيز أمن منطقة الساحل ودولها الرئيسية، وذلك من خلال القتال العسكري ضد الجماعات الإسلامية المسلحة؛ بل على العكس من ذلك، فق\ أدى الانسحاب العسكري من مالي، وبوركينا فاسو ــ وربما الآن من النيجر ــ إلى خسارة النفوذ الفرنسي في البلدان التي كان نفوذها فيها قويًّا تاريخيًّا.
وتميل وسائل الإعلام والسياسيون الفرنسيون إلى إرجاع أسباب هذا الانسحاب إلى أنشطة مجموعة فاغنر في المنطقة فقط، ولكن هناك عوامل أخرى أثرت في اللعبة.
الأول يتعلق بتوجه السياسة الفرنسية في أفريقيا على مدى السنوات العشرين الماضية؛ فلقد أدى انفتاح أفريقيا على العولمة إلى توازن جديد للقوى في العديد من بلدان القارة، وخاصة في البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية.
وقد مكن وصول لاعبين سياسيين واقتصاديين جدد مثل الصين والهند وتركيا وروسيا من تطوير منافسة حقيقية مع فرنسا، التي من الواضح أنها لم تعد تمتلك الوسائل اللازمة لتحقيق طموحاتها في القارة.
الأزمات السياسية الكبرى
أما العامل الثاني، وهو نتيجة مباشرة للعامل الأول، فيتعلق بإعادة تعريف سياسة فرنسا في أفريقيا ذاتها. وكانت هذه السياسة تميل، تحت ضغط المنافسة من جانب القوى الأجنبية في أفريقيا الناطقة بالفرنسية، إلى الاعتماد على النفوذ العسكري الفرنسي، وهو ما يتطلب الالتزام بنجاحات عسكرية فرنسية ملموسة وملحوظة مع مرور الوقت.
ومع ذلك، فإن هذه السياسة – بشكل عام – لم تلبِّ التوقعات والوسائل اللوجستية التي استثمرتها باريس؛ حيث تباطأت وتيرة نشاط الجماعات المسلحة في منطقة الساحل لبعض الوقت، خاصة في عام 2013، لكنها أعادت ترسيخ نفسها في نهاية المطاف في المناطق التي كان الوجود العسكري الفرنسي فيها أقل وضوحًا.
والأخطر من ذلك أن مالي وبوركينا فاسو – والآن النيجر – شككت في الوجود الفرنسي في بلدانها، وخاصة من خلال المطالبة بانسحاب الجنود الفرنسيين؛ وهذا وضع غير مسبوق بالنسبة لفرنسا، التي أصبحت منذ إنهاء الاستعمار معتادة تمامًا على التعاون الذي لا جدال فيه في المسائل الدفاعية.
العامل الثالث في هذه الأزمة الجيوسياسية يكمن في التطور الداخلي للعديد من دول الساحل؛ حيث تشهد مالي وبوركينا فاسو والنيجر اليوم أزمات سياسية كبرى، تتسم بخصائص مختلفة ولكنها متشابهة: رفض النخب الحاكمة السابقة التي تعتبر “موالية لفرنسا” بشكل مفرط؛ والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية المستمرة على الرغم من البرامج الكبيرة للمساعدات التنموية (التزم الاتحاد الأوروبي وحده بتقديم أكثر من 4 مليارات يورو من المساعدات لدول مجموعة الساحل الخمس بين عامي 2014 و2020)؛ وزيادة انعدام الأمن الإقليمي (خاصة في منطقة الحدود الثلاث بين مالي وبوركينا فاسو وكذلك النيجر)، مما يشكك في قدرة هذه الدول على حماية مواطنيها.
وهذا الوضع في المنطقة ليس جديدًا،؛ فقد استمر لسنوات عديدة. لكن التتابع السريع للانقلابات في الآونة الأخيرة يثير تساؤلات حول هشاشة الأجهزة السياسية في الدول المعنية، فضلًا عن قدرة نخبها العسكرية على الاستيلاء على السلطة مع الاعتماد سياسيًّا على رفض الوجود الفرنسي وصناع القرار التقليديين.
وفي هذا الصدد؛ ربما كانت خدمات مجموعة فاغنر – وأبرزها على صعيد الدعاية وحرب المعلومات – مفيدة في حالات معينة، حتى لو كان علينا أن نبقى حذرين بشأن مدى تأثير هذا التأثير في زعزعة الاستقرار السياسي لتلك الدول.
الانتهازية الروسية في أفريقيا؟
هذه العوامل تجعل من الممكن أن نفهم جزئيًا الفشل الحالي لسياسة فرنسا الإفريقية، وهو فشل لا يُعزى إلى حكومة معينة، بل إلى ديناميكية هيكلية كامنة طويلة المدى أثرت على اتجاهها منذ بداية القرن الحادي والعشرين.
إن هذا الوضع الفعلي للانسحاب القسري – رغم أننا لا يتعين علينا بالضرورة أن نعتقد أنه نهائي – يترك المجال أمام جهات فاعلة أخرى ترغب في ملء فراغ السلطة الذي خلفه رحيل فرنسا.
يمكن للولايات المتحدة أن تستفيد من هذا الوضع الجديد من خلال مراجعة وجودها وتعاونها في منطقة الساحل لأنها لا تتلقى انتقادات – على عكس باريس – لوجودها الذي يظل متحفظًا إلى حد ما (ولكنه ضروري، لا سيما فيما يتعلق بالموارد اللوجستية والاستخبارات العسكرية).
ومن الواضح أن روسيا سارعت إلى ملء الفراغ الذي تركه الجيش الفرنسي من أجل اكتساب نفوذ أكبر في مجموعة الساحل الخمس، خاصة على المستويين السياسي والعسكري.
وتكمن قوة روسيا هنا في قدرتها على استغلال وسائل النفوذ والقتال غير المباشرة التي تخلت عنها القوى الغربية تدريجيًا – وخاصة فرنسا – لأنها كانت تعتبر ضارة للغاية: استخدام المرتزقة (كما كان الحال في ذروة سيطرة فرنسا الأفريقية)؛ ومراقبة المعلومات بين البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية؛ ونشر الدعاية لإضفاء الشرعية على الجهات السياسية الفاعلة أو نزع الشرعية عنها.
لقد كانت “الحرب المعلوماتية” – على وجه الخصوص – سلاحًا استخدمته فاغنر بشكل جيد من أجل توليد رأي مناهض للغرب ومعادٍ لفرنسا داخل العديد من دول منطقة الساحل وغرب أفريقيا ووسط أفريقيا.
لكن هذا الوجود الروسي، من خلال مجموعة فاغنر وأيضًا الشركات العسكرية الأخرى التي تسيطر عليها موسكو – مثل “سيوا للخدمات الأمنية” و”مجموعة موران الأمنية” – يظل في الوقت الحالي محفوفًا بالمخاطر ولا يمكن مقارنته بأكثر من نصف قرن من السياسة الفرنسية في أفريقيا.
ولم تنشر روسيا حتى الآن أي عمليات عسكرية واسعة النطاق في القارة، كما أنها لا تمتلك بنية تحتية وحضورًا يضاهي تلك الموجودة تحت سيطرة فرنسا.
ولا تزال سياسة التعاون والتنمية التي تنتهجها روسيا في القارة غير محددة على المدى الطويل، كما أن اختراقها للنخب السياسية الأفريقية لم يصبح هيكليَّا بعد كما كان الحال مع أفريقيا الفرنسية.
وبدلًا من ذلك، فإن هذا الوجود يجعل من الممكن شن حرب غير مباشرة ضد المصالح الغربية في القارة من خلال إضعاف مصادر قوة الجهات الخارجية التقليدية.
وعلى هذا النحو، فإن فرنسا تتأثر بشكل خاص، وسوف يستغرق الأمر سنوات عديدة لاستعادة نفوذها في القارة، على المستوى السياسي والعسكري والثقافي والاقتصادي.
الاستجابة الأفريقية للتحديات الأمنية
ولكن بعيدًا عن القضايا الجيوسياسية، فإن الجهات الفاعلة الأفريقية هي التي تجد نفسها في وضع غير مسبوق بالنسبة لمستقبل أمنها؛ حيث إن الحاجة إلى استجابة أفريقية للتحديات الأمنية الأفريقية أمر ملح.
تاريخيًّا؛ لم يحدث هذا بسبب التوصيف الأولي لمنظمة الوحدة الأفريقية، التي تأسست في سنة 1963؛ حيث ولم تكن منظمة الوحدة الأفريقية تتمتع بسلطات قانونية للتدخل سياسيًّا أو عسكريًّا في شؤون الدول التي تم إنهاء الاستعمار فيها حديثًا.
تمت معالجة هذه المشكلة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من خلال الإصلاح التنظيمي. فمنذ سنة 2002، تضمن القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي الاعتراف بـ”حق التدخل” في شؤون الدول الأعضاء في حالة وقوع جرائم حرب، والإبادة الجماعية، وما إلى ذلك.
واعتمد الاتحاد الأفريقي أيضًا هيكلًا أفريقيًا للسلام والأمن يتضمن، من بين أمور أخرى، مجلسًا أمنيًا بالإضافة إلى قوة احتياطية أفريقية؛ ومع ذلك، فإن القضايا السياسية تعني أن هذا الأخير لم يبدأ العمل على الإطلاق.
وبالتالي فإن توسيع التعاون الأمني المعزز مع الجهات الفاعلة الخارجية مثل فرنسا أو الأمم المتحدة كان مفضلًا كلما كانت هناك حاجة لقوة تدخل سريع.
وفي منطقة الساحل؛ كان هذا الاعتماد على الجهات الخارجية واضحًا بشكل خاص. ففي سنة 2013؛ تدخلت فرنسا في مالي بناء على طلب دولة غير قادرة بمفردها على صد تقدم قوات التحالف المكونة من حركة تحرير أزواد والجماعات المسلحة المختلفة.
ويشير إنشاء مجموعة الساحل الخمس في سنة 2014 إلى أن دول الساحل تتولى أخيرًا مسؤولية أمنها الإقليمي، لكن لم يتغير سوى القليل في الممارسة العملية حيث كانت المنظمة لا تزال تعتمد بشكل كامل على النظام العسكري الفرنسي المرتبط بعملية “برخان”.
وعلى نطاق أوسع؛ تظل مسألة تمويل هياكل الأمن الجماعي الأفريقية مثيرة للمشاكل. على سبيل المثال؛ تعتمد ميزانية مجموعة دول الساحل الخمس إلى حد كبير على المساعدات الخارجية، وخاصة من الاتحاد الأوروبي.
ويبدو أن الانقلاب الأخير في النيجر يُظهِر رد فعل جديداً من جانب بلدان المنطقة، وخاصة في إطار المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)؛ ففي آب/ أغسطس الماضي، أعلنت المنظمة الإقليمية أنها تعتزم حشد قوة تدخل لإعادة رئيس النيجر المخلوع محمد بازوم.
ولم يحدث هذا التدخل حتى الآن وسيتطلب القيام بذلك مساهمة بشرية ولوجستية ومالية كبيرة من دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا.
الضرورة المطلقة
يبدو الوضع الحالي في منطقة الساحل مثيرًا للقلق بشكل خاص، لكنه مع ذلك يوفر الفرصة لتحديد موقع جديد للمؤسسات الأمنية الأفريقية، على المستويين الإقليمي والقاري.
ويأخذ الفراغ الجيوسياسي في التزايد، وسوف تحتاج إلى استجابة سريعة واستثمارات كبيرة من كافة الأنواع لضمان قدرة الدول الأفريقية على أداء مهامها السيادية والدفاع عن مصالحها وحمايتها، كما أنه يؤثر على توزيع السلطة على الجهات الخارجية.
ويتعين على فرنسا أن تعيد النظر في سياستها الأفريقية من خلال تنويع وسائل عملها ــ وليس الاكتفاء بالاعتماد على الأدوات العسكرية وحدها ــ، ومن خلال تنفيذ علاقات أكثر مساواة وتوازناً مع شركائها في القارة. وبدون ذلك؛ ليس هناك شك في أن الجهات الفاعلة الأخرى، مثل روسيا، سوف تستغل هذه الأزمة لكسب النفوذ والقوة في القارة.
ويتعين على الدول الأفريقية، وخاصة تلك الموجودة في منطقة الساحل، أن تفهم مدى إلحاحية تولي مسؤولية أمنها بشكل جماعي، وإلا فإنهم يخاطرون بإحالة مشاكلهم من الباطن مرة أخرى إلى جهات فاعلة أجنبية، عامة أو خاصة، لديها مصالح وأهداف مختلفة.
المصدر: ميدل إيست آي