تمر اليوم (9 من مارس)، الذكرى الحادية والعشرين على انتقال شيخنا الغزالي إلى جوار ربه، تخللتها أهوال مرت بها أمة لم تحسن بعد الانتفاع من تراث كبار رجالها الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ويوافق هذا العام – تحديدًا في 17 من سبتمبر القادم، أيضًا، مرور مئة عام على مولد هذا الرجل الكبير.
في هذا المقال عن علامتنا المجاهد محمد الغزالي – رحمه الله -، بمناسبة ذكرى وفاته، نتبنى الدعوة لمؤتمر موسع يدرس أعمال وآثار الغزالي الفكرية والعلمية والعملية وما يمكن للأمة أن تفيد اليوم من فكره بعد مرور قرن كامل على ميلاده، باعتبار ذلك أمرًا ضروريًا، فهو حق الكبار على الأمة، وحفظ للحاضر، وصناعة للمستقبل، عبر الاستفادة من تراث كبارنا والبناء عليه.
الغزالي، في كلمة واحدة، هو عطاء القرآن المجيد، كان القرآن هو سر وسبب هذا القبول الذي تلقاه مؤلفاته والتقدير الذي يترافق مع شخصه واسمه
تراث الغزالي
ترك الغزالي لأمته تراثًا فكريًا غنيًا، يحتاج الأيدي الماهرة والعقول النيرة والقلوب الفاقهة التي تضفر منه مناهج وبرامج في جميع مجالات حياة المسلمين الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية، فكل كتاب من كتب الغزالي التي تربو على الستين بخلاف مئات المقالات والمحاضرات والبحوث، بالإضافة إلى قصة حياته الشخصية التي أسماه ا”قصة حياة” في كتاب لم ينشر منه سوى مختارات في العدد السابع من مجلة إسلامية المعرفة، لكن باقي الكتاب لم يطبع بعد، يمكن أن تكون مادة خصبة للدعاة والمربين وصانعي الساسة والمتطوعين للعمل الاجتماعي وقادة العمل الثقافي في بلادنا.
وقد كانت الدراسات الإسلامية قبل الغزالي وكتبه ومقالاته، لا تركز إلا على الشروح التقليدية والأساليب الجافة البعيدة عن متناول كل المستويات العلمية، والقضايا النظرية التي لا تلمس مشاكل الناس ومعايشهم وهمومهم، وفجأة بزع في أفق الفكر الإسلامي قلم رشيق يصل للفكرة من أسهل طرقها وأكثرها إقناعًا وأقربها لفظًا للفرد المسلم.
وليس هذا وحسب، لا، فقد اختط الغزالي خطًا فكريًا متفردًا اجترحه بعد مراجعات وجولات وسياحات متعددة في أرجاء عالم الفكر والواقع الإنساني و الإسلامي، وبتجرد تام وفقه رحب قام بجراحات جريئة لبتر البدع والأوهام والمراسم التي تغلغلت في حياتنا العامة والخاصة وأفسدت نظرتنا للدين والدنيا.
أكد الغزالي مرارًا وتكرارًا أنه لن يتم لهذه الأمة بعث جديد، ولا عمران حقيقي، ولن تنال حرياتها كاملة غير منقوصة، وتحيا حياتها مستقلة غير تابعة، ولن يهنأ إنسانها بطيب العيش إلا إذا تخلصنا من الفقه الضيق المحدود الذي عشنا به خلال القرون الأخيرة
فوضع تحت المجهر جميع التقاليد والمعاملات التي انتشرت بين المسلمين، يتعرف بواعثها وغاياتها ومشاربها في الحياة ويحكم فيها تعاليم الفطرة الإسلامية، ويدع الخداع والافتعال والصمت المريب، وألف الكتب وكَتَبَ المقالات وألقى الندوات موضحًا أمثل الطرق لغرس الصدق والأمانة والوفاء في النفوس وما يعترض هذه الفضائل لدى الأفراد والمجتمعات.
مؤكدًا – رحمه الله – أن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة – التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل -، قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور:
♦ إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف.
♦ وفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر.
♦ تضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل.
♦ معرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.
وأكد مرارًا وتكرارًا أنه لن يتم لهذه الأمة بعث جديد، ولا عمران حقيقي، ولن تنال حرياتها كاملة غير منقوصة، وتحيا حياتها مستقلة غير تابعة، ولن يهنأ إنسانها بطيب العيش، إلا إذا تخلصنا من الفقه الضيق المحدود الذي عشنا به خلال القرون الأخيرة، فإن هذا الفقه لم يعالج الخلل المتوارث في علاقة الحكومات بالشعوب، و لم يساند الحريات الصحيحة، ولم ينم القدرات على علاج الأخطاء السياسية والاقتصادية الشائعة في بلادنا، ولا بد من التمهيد الاقتصادي الواسع والإصلاح العمراني الشامل إذا كنا مخلصين حقًا في محاربة المعاصي والرذائل باسم الدين، أو راغبين حقًا في هداية الناس لرب العالمين.
ومشددًا على أنه لو كان للإسلام رجال يحسنون عرضه كما نزل فى أصوله الأولى لكان الإسلام دين الحاضر والمستقبل على سواء، ولكن الفكر الإسلامى وقع فى محنة رهيبة، وعلى العرب أن يعيدوا تشكيل نفوسهم وصفوفهم ومتقدميهم ومتأخريهم وفق القانون الإلهى العتيد {لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: 123).
مؤسسة محمد الغزالي
هذا التراث الفكري والعملي الكبير الذي تركه الغزالي أمانة بين أهل العلم والدعوة ووديعة لشباب وناشئة الأمة والذي جمع فيه شتى تجاربه وخلاصة معارفه وأفكاره لخدمة أمة عاش لها ومات في سبيلها، بحاجة إلى من يتدارسه ويستخرج منه معالم مشروعه للنهوض بأمتنا العربية المسلمة، وهي مهمة ثقيلة تحتاج استنفار عدد من شباب الباحثين لهذا الأمر في شكل تنظيمي يستمر ويدوم كنواة للقيام بحق أمتنا في حفظ تراثها والبناء على ما تراكم منه، بغية التجديد الدائم للفكر والعمل، وقيامًا بحق كبارنا الذين نهملهم لحظة يغادرون حياتنا، وكأنهم ما كانوا ملء السمع والبصر.
كان يرى أن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة قوة نفسية عظيمة
فأمتنا بحاجة إلى مؤسسة فكرية تحمل اسم محمد الغزالي وتدرس فكره وتنشر مشروعه الإصلاحي وتخرج رجالاً على شاكلته وأعمالاً من جنس عمله الفكري وجهاده العملي، تبني على ما تراكم من تراثه الفكري وجهوده العملية وتطور هذا كله وتنميه حتى يتم الله نوره علينا وعلى العالمين.
مؤتمر مئة عام محمد الغزالي
في سبتمبر من هذا العام، يمر مئة عام على ولادة عالمنا الكبير محمد الغزالي، وهي مناسبة طيبة للإعداد لمؤتمر كبير يحتفي بالغزالي ويحيي ذكراه بين الأجيال الجديدة، وينوه بجهاده في سبيل أمته، ويرسي سنة كادت تغيب بالشكل اللائق في تعاملنا مع كبارنا الذين يرحلون عن دنيانا.
مؤتمر يناقش ويدرس مقترحات الغزالي العملية وخبرته العملية في مصر والجزائر وغيرهما من البلدان التي علم فيها أجيالًا من المسلمين، ومشروعاته للنهوض بالأمة والدعوة والمجتمع، لنرى كيف نفيد منها اليوم، عبر ابتكار مناهج وبرامج مستوحاة من كتاباته، تناسب جميع الأعمار عبر تحديثها وتبسيطها أو تعميقها حسب حاجة كل مستوى ثقافي، وإتاحتها للجمهور بكل سبل نشر المعرفة المقروءة والمسموعة والمرئية والتطبيقات الحديثة الأخرى.
ويبدو لي أن هناك أربعة اعتبارات رئيسية ينبغي أن يضعها كل من يتناول حياة وكتابات شيخنا الراحل في هذا المؤتمر، هي:
أولاً: بيان أوجه التقدم في الفكر والواقع الإسلامي المتأثر بفكر الشيخ وتراثه.
ثانيًا: بيان الهجمات المضادة الجديدة ضد الإسلام والمسلمين، ومدى قدرة فكر الشيخ ومنهجه على تناولها اليوم.
ثالثًا: بيان المشكلات التي عالجها فكر الشيخ ومدى حاجتها للتطوير والإكمال اليوم.
رابعًا: بيان الأهمية الخاصة للنضال الفكري الذي تقوده مدرسة التجديد التي افتتح مسارها الغزالي.
موضوعات مقترحة لهذا المؤتمر
♦ شخصية الغزالي: دراسة في كتبه ومذكراته الشخصية من خلال شهادات معاصريه والمتأثرين بفكره.
♦ تجديد الفقه السياسي والاقتصادي في كتب الغزالي
♦ تطور رؤية الغزالي للمرأة والأسرة وأسباب ومعينات هذا التطور.
♦ مستقبل الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج، وما اقترحه من أفكار وأجهزة ومؤسسات مواثيق للقيام بها حق القيام.
♦ العلاقة بين العروبة والإسلام والوطنية وكيف عالجها في كتاباته.
♦ مستقبل الجماعات الإسلامية بين التقدير لإنجازاتها وكشف عوراتها وسلبياتها وترشيد مسالكها وتصرفاتها.
♦ التغيير بين الثورة والإصلاح في فكر الغزالي، وكيف يمكن استخراج رؤية متوازنة بينهما من كتابات شيخنا الراحل.
♦ مستقبل الأمة الإسلامية في رؤية الغزالي.
خاتمة:
ترك الغزالي لأمته تراثًا فكريًا غنيًا، يحتاج الأيدي الماهرة والعقول النيرة والقلوب الفاقهة التي تضفر منه مناهج وبرامج في جميع مجالات حياة المسلمين الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية
الغزالي، في كلمة واحدة، هو عطاء القرآن المجيد، كان القرآن هو سر وسبب هذا القبول الذي تلقاه مؤلفاته والتقدير الذي يترافق مع شخصه واسمه، والقرآن المجيد هو الذي أعطاه معنى إنسان الواجب والرسالة، فصيره رجل أمة بامتياز، فكان عابدًا مخلصًا، ومجاهدًا صامدًا، ومربيًا قديرًا، وداعيًا متفانيًا، يضنّ باللحظة من عمره أن تضيع في غير عمل للإسلام، وكان -رحمه الله – عالمًا ربانيًا وفقيهًا راسخ القدم وبانيًا منشئًا من كبار رجال الإسلام في النصف الثاني من القرن العشرين.
سلام على محمد الغزالي، في السابقين الأولين من المجاهدين الصادقين إلى يوم الدين