أدانت الولايات المتحدة الأمريكية – وبشدة – نشر روسيا منظومة صواريخ “كروز”، مشيرة أن ذلك يعد خرقًا واضحًا لمعاهدة القوة النووية متوسطة المدى المبرمة في 1987 بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، والتي وضعت حدًا نهائيًا لسباق التسلح النووي، كما أنه يحمل تهديدًا لمنشآت أمريكا داخل أوروبا.
الجنرال باول سيلفا نائب رئيس أركان الجيش الأمريكي، خلال جلسة عقدتها لجنة الخدمات المسلحة في مجلس النواب الأمريكي مساء أمس، اتهم موسكو بنشر هذه الصواريخ عمدًا لتهديد حلف شمال الأطلسي، خاصة أن مداها يصل إلى مسافات بعيدة، مما يشكل خطرًا على معظم منشآت الحلف في غرب أوروبا.
سيلفا أشار أيضًا أن قيادة الجيش الأمريكي أعربت للسلطات الروسية رفضها التام لهذه الخطوة، وضرورة إعادة النظر حيالها، منوهًا أن عملية تقييم يقوم بها البنتاجون الآن لدراسة هذه الخطوة، إلا أنه لم يوضح عما إذا كان قد تلقى ردًا من موسكو أم لا.
هذه الخطوة بلا شك ستنعكس بصورة أو بأخرى على مستقبل العلاقات بين موسكو وواشنطن خاصة في ظل حالة التوتر الذي تشهده في الآونة الأخيرة بعد تراجع دونالد ترامب عن العديد من التصريحات التي كان قد أدلى بها خلال حملته الرئاسية والتي حملت في معظمها عبارات الود والتعاون مع الإدارة الروسية.. ليبقى السؤال: لماذا تغير الخطاب الأمريكي تجاه موسكو؟ ومن يقف وراء هذا التغيير؟
مظاهر التحول
العديد من التصريحات والمواقف المتبادلة بين واشنطن وموسكو تعكس حالة التوتر المحتمل في العلاقات بين البلدين مستقبلاً، بما يتعارض بصورة كبيرة مع التوجهات السابقة لدونالد ترامب حيال روسيا والرئيس بوتين خلال حملته الرئاسية والتي تعرض بسببها إلى حملة هجوم من الديمقراطيين وبعض الجمهوريين.
أ- الموقف من شبه جزيرة القرم
جميع الترشيحات كانت تشير إلى تجنب ترامب التصعيد مع روسيا بسبب الموقف من شبه جزيرة القرم التي سيطرت عليها روسيا من أوكرانيا “شرق أوروبا” في مارس 2014، خاصة في ظل الخطاب الجاف الذي اعتمده الرئيس الأمريكي الجديد حيال أوروبا في الآونة الأخيرة، والذي كان باعثًا لقلق الاتحاد الأوروبي من انسحاب واشنطن من التزاماتها تجاه القارة العجوز.
ترامب في تصريحات سابقة له أكد أنه لا يمانع ضم روسيا للقرم حال التوصل إلى اتفاق مع أمريكا، وهو ما أثار حفيظة بعض دول أوروبا التي ترى القرم جزءًا من أوكرانيا وأن ما فعلته موسكو يعد احتلالاً يستوجب الرد عليه، إلا أنه وبعد أسابيع قليلة من هذه التصريحات فاجأ الرئيس الأمريكي الجميع بتغريدة له على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” انتقد فيها سياسات سلفه باراك أوباما تجاه قضية القرم، حين كتب متسائلاً: “روسيا غزت القرم خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق أوباما، فهل كان أوباما لينًا جدًا مع الروس”، مطالبًا موسكو برد شبه الجزيرة إلى السلطات الأوكرانية مرة أخرى.
Crimea was TAKEN by Russia during the Obama Administration. Was Obama too soft on Russia?
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) February 15, 2017
وصف ترامب لسيطرة موسكو على القرم بـ”الغزو” أثار حالة من الجدل داخل الأوساط الروسية، وهو ما دفع موسكو للرد الفوري على هذه التصريحات على لسان ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، والتي قالت في تصريحات لها: “شبه جزيرة القرم أرض روسية ونحن لن نتخلى عن أراضينا”.
القوات الروسية تفرض سيطرتها على القرم منذ 2014
ب- تسويف رفع العقوبات على روسيا
كان دونالد ترامب على قائمة من تصدوا للرئيس الأسبق باراك أوباما حين صدق على توقيع حزمة من العقوبات ضد روسيا بسبب قرصنتها الإلكترونية على بعض مرشحي الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية، مما اعتبرته واشنطن تدخلاً غير مقبول يستوجب فرض العقوبات.
تعهد ترامب حينها برفع العقوبات على موسكو حال وصوله للبيت الأبيض، وهو ما رحبت به الأوساط الروسية معتبرة أن رفع هذه العقوبات مسألة وقت، إلا أنه وبعد فوزه في الانتخابات ومرور قرابة الشهرين ونصف على تنصيبه رئيسًا لأمريكا لم يتطرق إلى مسألة العقوبات المفروضة على روسيا وهو ما أثار حالة من الجدل.
ترامب خلال رده على سؤال عما إذا كانت تنوي إدارته إلغاء العقوبات التي فرضتها بلاده سابقًا على روسيا، على هامش المؤتمر الصحفي الذي عقده مع رئيسة وزراء بريطانيا يناير الماضي، أجاب “الحديث عن ذلك سابق لأوانه“.
يذكر أن عضو مجلس الشيوخ الأمريكي جون ماكين، قد حذر في وقت سابق، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، من رفع العقوبات المفروضة على روسيا، متعهدًا في بيانه له أنه سيضمن إعادة فرض الكونغرس للعقوبات في حال تم رفعها، من خلال لقائه مع أعضائه.
ودعا السيناتور الأمريكي، ترامب، إلى “عدم القيام بتصرف غير مسؤول”، وقال في هذا الصدد “أثق بأن الرئيس ترامب سوف يضع حدًا للشائعات بهذا الخصوص، باسم أمن الولايات المتحدة وحلفائها”.
ترامب خلال رده على سؤال عما إذا كانت تنوي إدارته إلغاء العقوبات، التي فرضتها بلاده سابقًا على روسيا، أجاب “الحديث عن ذلك سابق لأوانه“.
ج- دلالات استقالة مايكل فلين
جاءت استقالة مستشار الأمن القومي الأمريكي مايكل فلين، بعد أربعة وعشرين يومًا فقط على توليه المنصب على خلفية تورطه في اتصالات سرية بينه وبين بعض المسؤولين الروس بشأن مسألة رفع العقوبات المفروضة عليهم، لتعمق التصدع في إدارة ترامب، وتضعه في موقف حرج أمام الكونجرس الذي طالبه بضرورة إعادة النظر في توجهاته حيال روسيا.
الضغوط التي مورست على ترامب من قبل الكونجرس وبعض الجمهوريين دفعته إلى قبول استقاله مستشاره للأمن القومي، المحسوب على روسيا، دون أن يبدي أي امتعاض على هذه الخطوة، في مقابل تعيين هربرت ماكماستر، جنرال حرب الخليج، بدلاً منه، والمعروف عنه تحفظه على التقارب الأمريكي الروسي لا سيما وهو يرى في الأخير تهديدًا للأمن القومي الأمريكي، مما تسبب في إثارة حالة من الغضب داخل موسكو، كون هذا الاختيار رسالة غير مطمئنة من ترامب لروسيا.
الضغوط التي مورست على ترامب من قبل الكونجرس وبعض الجمهوريين دفعته إلى قبول استقاله مستشاره للأمن القومي، المحسوب على روسيا
مايكل فلين، رجل روسيا الذي أطاحت به فضيحة الاتصالات السرية
د- المشهد السوري
ثم تأتي التطورات التي شهدها الموقف الأمريكي حيال المشهد السوري لتزيد الهوة بين موسكو وواشنطن، فبعد التصريحات التي خرجت عن ترامب سابقًا بشأن دعمه للموقف الروسي ونظام الأسد في مواجهة المعارضة الثورية والتحالف الخليجي، إذ به يقلب الطاولة على الجميع عقب دخوله البيت الأبيض.
ترامب عبر مقترح المناطق الآمنة يسعى للعودة إلى الملعب السوري بصورة كبيرة، التي ربما تهدد التحالف الروسي الإيراني هناك، حتى وإن لم يتم الإعلان عن ذلك بصورة واضحة، خاصة في ظل التقارب الملفت للنظر بين واشنطن ودول الخليج وتركيا، وهو ما تعتبره موسكو انقلابًا على المواقف السابقة والتي أعطت الفرصة للقوات الروسية لتشكيل الخارطة السورية وفق مصالحها السياسية.
تغير الموقف الأمريكي.. لماذا؟
“ترامب المرشح شيء وترامب الرئيس شيء آخر” ربما تجسد هذه المقولة ملامح التغير التي انتابت التوجهات الخارجية للرئيس الأمريكي الجديد مقارنة بما كانت عليه إبان حملته الانتخابية والتي عكستها تصريحاته التي وصفت في معظمها بـ”العدائية”.
العديد من التساؤلات فرضت نفسها عن دوافع هذا التغير في توجهات ترامب، ففريق يرى أن هناك ضغوطًا من جهات سيادية داخلية مورست عليه لإثنائه عن بعض التوجهات، خاصة أنها تهدد علاقة أمريكا بحلفائه في أوروبا والشرق الأوسط، فضلاً عما تحمله من إثارة للعنصرية داخليًا، بينما يرى فريق آخر أن نصائح بعض المقربين منه دفعته إلى التخلي – مؤقتًا – عن بعض المواقف الشخصية من أجل تجنب الإضرار بمصالح بلاده الخارجية.
ويمكن من خلال نظرة سريعة على خارطة القوى المؤثرة داخل الإدارة الأمريكية الوقوف على أبرز الكيانات التي من الممكن أن تؤثر في صناعة القرار، في ضوء ما تمتلكه من عوامل ضغط وتأثير على الرئيس ترامب، وهو ما كشف عنه التقرير الذي نشره موقع FiveThirtyEight“” تحت عنوان: “مراكز القوى الثمانية في إدارة ترامب”.
التقرير قسم خارطة القوى المؤثرة في الإدارة الأمريكية إلى ثماني قوى، أولها: التحالف الذي يقوده مركز كبير المحللين الاستراتيجيين لدى ترامب ستيف بانون، ثانيها: التحالف الذي يقوده نائب الرئيس مايك بنس، ثالثها: التحالف الذي يقوده السيناتور الأمريكي جون ماكين، رابعها: تحالف الأصدقاء والعائلة المقربين من ترامب، خامسها: تحالف الحزب الجمهوري ورجاله، سادسها: تحالف رجال الأعمال والمسمى بـ”وول ستريت” والذي يقوده وزير المالية ستيفن منوشين، سابعها: تحالف البيروقراطيين بقيادة 1.8 مليون عامل في الوكالات الفيدرالية المختلفة، ثامنًا وأخيرًا: تحالف الوجوه المهمة يتقدمهم مستشارة الرئيس كيليان كونواي، مستشار البيت الأبيض دونالد ماكغان، وزير الخارجية ريكس تيلرسون.
توجهات تحالف “ماكين” تتعارض بصورة نسبية مع مواقف ترامب حيال عدد من القضايا، أبرزها الموقف من روسيا والنظرة العامة للإسلام، كذلك الموقف من الصحافة والإعلام
ومن خلال القراءة المتأنية لتوجهات كل مركز من هذه المراكز الثمانية، وتأثيره على صناعة القرار الأمريكي عامة وحيال روسيا بصفة خاصة، نجد أن التحالف الذي يقوده جون ماكين – من خارج الإدارة الأمريكية – هو الأكثر حضورًا في إحداث التغير في موقف ترامب من موسكو، فالتحالف “الأمني” المكون من وزير الدفاع جيمس ماتيس ووزير الأمن الداخلي جون كيلي ومستشار الأمن الوطني ماكماستر، يعمل على تحقيق أجندة خاصة محورها الاعتماد على السياسة الخارجية التقليدية لواشنطن، وتفادي أن تعكس تصريحات ترامب تجاه حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وروسيا، – والذي تطرق لها خلال حملته الرئاسية -، السياسة الخارجية الأمريكية، نظرًا لما تشتمل عليه من تهديد لأمن أمريكا القومي.
توجهات هذا التحالف تتعارض بصورة نسبية مع مواقف ترامب حيال عدد من القضايا، أبرزها الموقف من روسيا، والنظرة العامة للإسلام، كذلك الموقف من الصحافة والإعلام، وهو ما دأب فريق هذا التحالف على تصحيحها بشكل إيجابي، فنجد ماتيس خلال زيارته لبعض البلدان يندد بالتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، كذلك يؤكد أيضًا أنه لا يوجد لديه أدنى مشكلة مع الصحفيين، أما ماكماستر فقد ناهض وبشدة استخدام ترامب لعبارة “الإرهاب الإسلامي المتطرف”، ودعاه لتجنب اعتمادها في خطاباته.
التقرير ربط بين قدرات تحالف ماكين وعدم رفع ترامب للعقوبات المفروضة على روسيا حتى الآن على الرغم من تصريحاته السابقة بأنه سيقوم برفعها حال وصوله البيت الأبيض – كما تم ذكره سابقًا – بأن هذا دليل واضح على قوة هذا التحالف وتأثيره على صناعة القرار داخل البيت الأبيض.
السيناتور جون ماكين، المناوئ لتوجهات ترامب حيال روسيا
ماذا عن موسكو؟
لم تقف روسيا مكتوفة اليدين حيال تغير موقف ترامب تجاهها والذي اتضح بصورة كبيرة في المشاهد سالفة الذكر وما تخللها من تصريحات دفعت موسكو إلى إعادة تقييم لعلاقاتها مع واشنطن.
صحيفة “لوفيجارو” الفرنسية، نشرت تقريرًا أشارت فيه أن حكومة روسيا أصدرت أوامرها للقنوات التليفزيونية، بإيقاف التغطية الإعلامية “المليئة بالتملّق” للرئيس الأمريكي، لا سيما بعد المواقف الأخيرة والمناوئة لسياسات ومصالح روسيا في المنطقة، حيث تطرقت إلى سؤال طرحه مقدم إذاعي في راديو “صدى موسكو” على المفكر الاقتصادي الروسي ميخائيل خازين، عن ماهية هذا التحول الجذري والأسباب الكامنة خلفه، حيث قال: “كيف يمكن لترامب الذي كان يحسب علينا أن ينفصل عنا؟ ما تفسير هذا التحول المفاجئ؟”.
التقرير أشار إلى أن الرد على هذا السؤال جاء عمليًا وذلك حين أصدر الرئيس فلاديمير بوتين تعليماته مؤخرًا إلى اتحاد القنوات التليفزيوني الروسي بالتخفيف من التغطية الإخبارية لكل ما يتعلق بالرئيس الأمريكي، فلم يعتبر رده وديًا كالسابق، حسب وصف الصحيفة.
حكومة روسيا أصدرت أوامرها للقنوات التيلفزيونية، بإيقاف التغطية الإعلامية “المليئة بالتملّق” للرئيس الأمريكي، لا سيما بعد المواقف الأخيرة والمناوئة لسياسات ومصالح روسيا في المنطقة
الصحيفة استعرضت بعض المواقف التي بررت من خلالها ضرورة إعادة النظر في طريقة التعامل مع ترامب، أبرزها تصريحاته الأخيرة بشأن جزيرة القرم وانتقاد سياسة سلفه باراك أوباما، كذلك قبول استقالة مستشاره للأمن القومي مايكل فلين، رجل روسيا الأول في الإدارة الأمريكية، وتعيين هربرت ماكماستر المعروف بتوجهاته المعادية للتقارب الروسي الأمريكي.
وقد خلص التقرير إلى ثقة الكثير من الروس في قدرة ترامب على تخطي هذه العقبة والعودة مجددًا لمزيد من التقارب مع موسكو، معربين عن خيبة أمل حيال هذا التغير الواضح في التوجهات إلا أنهم أرجعوها إلى وجود ما أسموه “مؤامرة ديمقراطية تحاك خلف أسوار البيت الأبيض”.
الحديث عن صدام بين موسكو وواشنطن بسبب تغير مواقف ترامب حديث تكسوه المبالغة وعدم الواقعية، فكلا القوتين على دراية حقيقية بعمق الأزمة التي تواجهها المنظومة الدولية، ومن ثم ليس من الحكمة والكياسة أن ينجرف الطرفان إلى مستنقع من المواجهات التي قد تكلفهما أعباء تفوق قدراتهم الحالية في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الجميع.
كما أن حاجة كل طرف للآخر في التصدي لـ “التطرف والإرهاب” فضلاً عن التعاون في بعض المسائل الإقليمية كالحفاظ على أمن الكيان الصهيوني والخروج من المأزق السوري بأكبر المكاسب للطرفين دافع قوي يجعل من التنسيق بينهما قرارًا وليس خيارًا، حتى وإن لم يكن على المستوى الذي كانت تأمله روسيا أو ترامب نفسه.