في كتابه الأهم على الإطلاق “إدارة التوحش” لبيان استراتيجية السلفية الجهادية للانتقال من )النكاية) إلى )جهاد الجبهات) وإدارة مناطق شبه كاملة خارج الدولة المركزية؛ كتب أبو بكر ناجي -الشخصية المثيرة للجدل، والذي لا يُعرف إن كان هذا اسمه الحقيقي أم لا-، بحثًا مُختصرًا فيما يزيد عن 100 صفحة بقليل، لكنه كان واضحًا ووافيًا لأن تُنفذها داعش بحذافيرها في العراق وسوريا ثم في ولاية سيناء الآن.
عرّف “أبو بكر” إدارة التوحش باختصار على أنها “إدارة الفوضى المتوحشة”، حيث تتلخص الفكرة في خطوتين: الأولى؛ خلق الفوضى أو التوحش من خلال عمليات نكاية مستمرة في الأطراف التي لا تُسيطر عليها الدولة المركزية، وذلك وِفقًا للقاعدة العسكرية: الجيوش النظامية إذا تمركزت؛ فقدت السيطرة، وإذا انتشرت؛ فقدت الفعالية. ومن ثم تُدير هي ذلك التوحش إدارة كاملة حيث يُصبح الناس بحاجة لمن يُدير ويوفر لهم حاجاتهم الأساسية؛ فيقبلون أن يدير هذه التوحش أي تنظيم أخيارًا كانوا أو أشرارًا!
بيّن أبو بكر الصورة المثالية التي يريدها وحدد مهمات أساسية لإدارة التوحش في عدة نقاط منها نشر الأمن الداخلي، توفير الطعام والعلاج، إقامة “القضاء الشرعي” بين الناس، رفع المستوى الإيماني ورفع الكفاءة القتالية أثناء تدريب شباب منطقة التوحش وإنشاء المجتمع المقاتل بكل فئاته وأفراده عن طريق التوعية بأهمية ذلك، بث العيون واستكمال بناء جهاز الاستخبارات المصغر، وغيرها من المهام التي هي بالأساس تهدف إلى توفير بديل كامل للدولة المركزية.
السلفية الجهادية هي أكثر الحركات الإسلامية القادرة على إنفاذ أفكارها ومشاريعها على الأرض خارج إطار الدولة الحديثة وهيمنة النظام العالمي، وكتاب )إدارة التوحش( لأبي بكر ناجي مثالاً واضحًا على ذلك
- تجارب تاريخية ومعاصرة لإدارة التوحش
ساق أبو بكر بعد ذلك سوابق تاريخية ومعاصرة لإدارة التوحش حيث اعتبر“تأسيس المدينة“ للنبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة نموذجًا لإدارة التوحش، ثم على مدار التاريخ الإسلامي خاصةً في عصر الحروب الصليبية كتجربة نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، حيث يرى كما يرى أيضًا أن: “الإنهاك الذي كان يقوم به من عرفوا بـ “طائفة العلم والجهاد” هو الذي حقق النصر في المعارك الكبرى لا المعارك الكبرى ذاتها.”
ومن التجارب المعاصرة التي استشهد بها في ذات السياق )حركة الإمام السيد (التي جددت ما يُعرف بـ “دعوة التوحيد والجهاد” بالمربع السني في منطقة الهند وكشمير وباكستان وأفغانستان، رغم قصر هذه الحركة ككيان حيث استمر فقط من بداية القرن التاسع عشر إلى بعد منتصفه بقليل إلا أن تأثيرها ممتد حتى الآن..
لم تقتصر السوابق التاريخية التي ساقها أبو بكر على التجارب الإسلامية؛ فهو يعد )معاهدة سايكس بيكو (وما نتج عنها من دول وتقسيمات جغرافية نموذجًا ناجحًا لإدارة التوحش التي خلقتها ثم أدارتها بريطانيا وفرنسا بعد سقوط الخلافة العثمانية.
في حين لا يعتبر أبو بكر حركات مثل حماس والجهاد الإسلامي بفلسطين والجماعات الإسلامية بمصر في فترة التسعينات وكذلك الجماعة المقاتلة في ليبيا قد أقاموا بعد إدارات توحش وإنما كانوا – وبعضهم مازال– في مرحلة قبل إدارة التوحش أسماها )شوكة النكاية والإنهاك) وهي مرحلة تسبق في العادة إدارة التوحش بشرط أن تضع الفئة المقاتلة أنها تقوم بمرحلة النكاية للوصول إلى إدارة التوحش بحسب رؤية الكاتب.
- طريق التمكين
في مبحثه الثاني من الكتاب وبعدما عرّف وعرض أمثلة تاريخية ومعاصرة لإدارة التوحش؛ بدأ أبو بكر في رسم طريق التمكين للوصول لـ “الدولة الإسلامية المنشودة” عن طريق 3 مراحل أساسية قسمها إلى:
مرحلة النكاية والإنهاك.. ثم مرحلة إدارة التوحش.. ثم مرحلة شوكة التمكين أي قيام الدولة.
ولم يكتفي بذلك التقسيم حيث قسّم الدول إلي مجموعتين: مجموعة رئيسية تمر بالمراحل الثلاثة من النكاية وحتى قيام الدولة، ومجموعة أخرى تمر بالنكاية والإنهاك وتنتظر التمكين والفتح من الخارج لعدم قدرتها على إدارة توحش إما لضعف شوكتها أو لبسط الدولة المركزية سيطرتها على الأطراف.
عرّف “أبو بكر” إدارة التوحش باختصار على أنها “إدارة الفوضى المتوحشة”
قسم أبو بكر الدول على عدة مقومات مهمة تحدد ترشيحها لإدارة التوحش وهي:
♦ وجود عمق جغرافي وتضاريس تسمح في كل دولة على حدة بإقامة مناطق بها تُدار بنظام إدارة التوحش.
♦ ضعف النظام الحاكم وضعف مركزية قواته على أطراف المناطق في نطاق دولته. بل وعلى مناطق داخلية أحيانًا خاصة المكتظة.
♦ وجود مد إسلامي جهادي مبشر في هذه المناطق.
♦ طبيعة الناس في هذه المناطق ومدى تهميش الدولة لهم.
♦ انتشار السلاح بأيدي الناس فيها.
ورأى أبو بكر في المناطق المرشحة لذلك ميّزة أخرى أن أغلب هذه الدولة في جهات متباعدة مما يصعب مهمة أي قوات دولية في الانتشار في مساحة واسعة في عمق العالم الإسلامي.
الأهداف الرئيسية لمرحلة شوكة النكاية والإنهاك بحسب الكتاب:
1- إنهاك قوات العدو وتشتيت جهودها والعمل على جعلها لا تستطيع التقاط أنفاسها بعمليات وإن كانت صغيرة الحجم أو الأثر إلا أن انتشارها وتصاعديتها سيكون له تأثير على المدى الطويل.
2- جذب شباب جدد للعمل الجهادي عن طريق القيام كل فترة زمنية مناسبة بعمليات نوعية تلفت أنظار الناس.
3- إخراج المناطق المختارة من سيطرة الأنظمة ومن ثم العمل على إدارة التوحش الذي سيحدث فيها.
نستطيع أن نفك اشتباك خطة أو بكر ناجي في نقاط محددة حيث تحتاج خطته إلى استراتيجيتين أساسيتين:
♦ استراتيجية عسكرية: تعمل على تشتيت جهود وقوات العدو وانهاك واستنزاف قدراته المالية والعسكرية.
♦ استراتيجية إعلامية: تستهدف وتركز على فئتين: فئة الشعوب بحيث تدفع أكبر عدد منهم للانضمام لـ “الجهاد” والقيام بالعمل الإيجابي والتعاطف السلبي ممن لا يلتحق بالصف، الفئة الثانية: جنود العدو أصحاب الرواتب الدنيا لدفعهم إلى الانضمام لصف المجاهدين أو على الأقل الفرار من خدمة العدو.
نلاحظ اهتمام شديد من أبي بكر على الإعلام ومخاطبة الشعوب باعتبارها هي الرقم الصعب حيث لا تستطيع السلفية الجهادية أن تخلق ومن ثم تدير توحشًا بعيدًا عن حاضنة شعبية مؤهلة لاستقبال ناظم جديد لحياتها غير الدولة المركزية، وهو ما أصبح متوفرًا في حالة سيناء بعد الانقلاب العسكري واضطهاد أهالي سيناء وتهجيرهم ورصد العديد من حالات القتل خارج إطار القانون.
- قواعد وسياسات إدارة التوحش
في المبحث الثالث انتقل أبو بكر إلى أهم القواعد والسياسات التي يجب اتباعها لتحقيق مرحلة شوكة النكاية والانهاك وأهداف مرحلة إدارة التوحش بصفة خاصة حيث قسمه إلى عدة فصول ضمت عدة قواعد أهمها:
♦ إتقان فن الإدارة: فعلى من سيديرون مناطق التوحش امتلاك القدرة على إدارة وتوفير كل احتياجات الناس لتكون بديلًا كاملًا عن الدولة المركزية.
♦ ومن يقود ومن يدير ومن يعتمد القرارات الإدارية الأساسية؟ بموائمة الجانب الشرعي والواقعي وتنزيل الأحكام على الواقع، كقضية) الإعذار بالجهل) حيث يرى أبو بكر القاعدة: “مجهول الحال بدار الكفر يجوز قتله تقصدًا للمصحلة” ومن هنا يُفهم حكم مجندي الجيش والشرطة بالنسبة لولاية سيناء حيث يرى أنهم في أفضل الأحوال مجهولي الحال إن لم يكونوا مرتدين كالجيش المصري في وجهة نظرهم!
ثم انتقل أبو بكر إلى استعراض عدة قواعد عسكرية مجربة لإرشاد العمل العسكري الجهادي في مرحلة النكاية مثل القاعدة الهامة: “الجيوش النظامية إذا تمركزت فقدت السيطرة، وعلى العكس إذا انتشرت فقدت الفعالية.” ومن هنا نستطيع أن نتفهم استراتيجية العمل العسكري لولاية سيناء حيث تعمل منذ مبايعتها للدولة الإسلامية بالعراق والشام على تشتيت قوات الجيش وانهاكه بضربات متتالية ومتصاعدة في أماكن متفرقة في كل المساحة السيناوية بغرض تشتيته وافقاده السيطرة والفعالية.
لم تقتصر السوابق التاريخية التي ساقها أبو بكر على التجارب الإسلامية؛ فهو يعد )معاهدة سايكس بيكو (وما نتج عنها من دول وتقسيمات جغرافية نموذجًا ناجحًا لإدارة التوحش التي خلقتها ثم أدارتها بريطانيا وفرنسا بعد سقوط الخلافة العثمانية
ولكي يُتفهم الأعمال الوحشية التي يقوم بها التنظيم مثل حرق أقباط والذبح وخلافه؛ فهي من استراتيجيات أبي بكر حيث خصص لها عنوانًا في فصل كامل باسم) اعتماد الشدة( فهي من أهم ملامح المرحلة حيث لابد من إظهار الشدة والقوة للعدو والجنود حتي ينتابهم الرعب والفزع من مواجهة المتوحشين فتنزاح أمامهم مساحة يديرون عليها توحشهم، بحسب ما ورد في الكتاب.
وبناء على هذا يرى البعض أن السلفية الجهادية هي أكثر الأيديولوجيات قدرة على إنفاذ أفكارها ومشاريعها على الأرض خارج إطار ما يُسمى بـ “الدولة الحديثة” وهيمنة ما يُطلقون عليه اسم “النظام العالمي”، وكتاب )إدارة التوحش( لأبي بكر ناجي مثالاً واضحًا على ذلك، حيث استطاع التنظيم من إقامة شبه دولة كاملة خارج إطار الدول المركزية سواء في العراق وسوريا والآن في) ولاية سيناء( والتي ستكون طفرة كبيرة في مسار السلفية الجهادية، إذ لأول مرة تتحكم مجموعة مسلحة في منطقة مصرية رغمًا عن الدولة المصرية.
ومع استمرار تشتيت سيطرة الدولة المصرية، وقبض يدها عن الأطراف، وتهميشها قطاعات سكانية وجغرافية مثل مطروح والوادي الجديد؛ فستكون بعضها، إن لم تكن كلها، مناطق مرشحة وبقوة لأن تكون مناطق التوحش القادمة للتنظيم إذا ما نجحت في إتمام نموذج ولاية سيناء كما هو متوقع.