يبدو أن المأساة التي تعرضت لها مدينة درنة ومناطق الشرق الليبي جراء الإعصار الذي ضربها في 10 سبتمبر/أيلول الحاليّ، وأطاح ببنيتها التحتية، وخلف وراءه 11470 قتيلًا و10100 مفقود، و40 ألف نازح، ليس كافيًا لنخبة البلاد السياسية للتوحد من أجل إنقاذ ما تبقى من تلك المناطق المنكوبة.
تشير التقديرات الأولية إلى انهيار معظم البنى التحتية والمرافق العامة بسبب هذا الإعصار، حتى أضحى معظم الشرق الليبي رسميًا مناطق منكوبة تتطلب إغاثة إنسانية عاجلة، الأمر الذي يتطلب ميزانيات مكلفة لا تستطيع الدولة الليبية وحدها الوفاء بها، وسط تحركات فردية من الحكومة المكلفة من مجلس النواب الليبي (شرق)، برئاسة أسامة حماد، من جانب، وحكومة الوحدة الوطنية (غرب) المعترف بها أمميًا برئاسة عبد الحميد الدبيبة، من جانب آخر.
معركة تكسير عظام جديدة من المتوقع أن تواجهها المدينة وجيرانها جراء الصراع المحتدم بين حكومتي الشرق والغرب على كعكة إعادة الإعمار، وسط تبادل اتهامات وسجالات لا تتوقف، ومحاولة الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية والسياسية في الوقت الذي لا تزال آلاف الجثث عالقة تحت الأنقاض لم تُستخرج بعد.
تدمير معظم البنى التحتية
الإعصار المدمر تسبب في انهيار نحو 70% من البنى التحتية للمناطق المنكوبة، وأكثر من 50% من إمكانات الطرق العامة، بحسب رئيس غرفة الطوارئ بمصلحة الطرق والجسور التابعة لوزارة المواصلات بحكومة الوحدة الوطنية الليبية، حسين سويدان.
وأضاف المسؤول الليبي أن الفيضانات تسببت في انهيار 11 جسرًا، من بينها جسران يربطان درنة بمدينتي سوسة والقبة، إضافة إلى 6 جسور أخرى داخل مدينة درنة، و3 جسور في الطريق الممتد بين شحات وسوسة، فيما قدرت شبكة الطرق المنهارة في درنة وحدها بـ30 كيلومترًا، وفق تصريحاته لوكالة الأنباء الليبية.
الفاجعة تسببت في نزوح داخلي ربما يكون الأكبر في المنطقة منذ الأزمة التي شهدتها البلاد عام 2011/2012، بينما اختفت قرى وأحياء بأكملها من على الخريطة مثل قرية “الوردية” بالجبل الأخضر، والشارع الرئيسي الذي يقسم درنة، فضلًا عن الإطاحة بمئات البنايات الشاهقة، بجانب عزل عدة مناطق أخرى عن محيطها بسبب التدمير الذي حل بشبكة الطرق والجسور وخطوط الاتصالات.
#درنة.. أحد الناجين من سيول درنة ينوه إلى عمليات ردم طالت منازل بها جثث لعائلات يتم الآن السير عليها بالآليات واعتبارها شوارع. pic.twitter.com/dq4MqaQgUa
— ليبيا لايف (@libyalive218) September 23, 2023
كما تعاني معظم تلك المناطق من ظلام دامس جراء الأضرار التي حلت بشبكة الكهرباء على خلفية الإعصار، حيث تعطلت 169 محطة أرضية، إضافة إلى 3860 محولًا هوائيًا كهربائيًا، وفق ما أعلن المكتب الإعلامي لـ”الشركة العامة للكهرباء” في ليبيا.
الوضعية الصحية هي الأخرى في انهيار تام، فالوحدات الثلاثة التي تغطي درنة وأجوارها تعرضت لأضرار بالغة وسط ندرة كبيرة في الطواقم الطبية، ولولا الإغاثات والفرق الطبية القادمة من بعض البلدان لربما وصلت الأمور إلى أسوأ مما باتت عليه، إضافة إلى تعرض شبكة المياه والصرف الصحي لتلفيات هائلة تسببت في اختلاط مياه الصرف بمياه الشرب، ما أدى إلى إصابة العشرات بالتسمم خاصة في مدينة درنة التي يعتمد معظم سكانها على شبكة المياه العامة المتهالكة.
إعادة الإعمار.. انقسام سياسي
خيم الانقسام على المشهد الليبي رغم أن الكارثة واحدة والجرح واحد، حيث بدت كل حكومة كأنها تتحرك بمعزل عن الأخرى في التعاطي مع الأزمة، سواء فيما يتعلق بجهود الإغاثة المقدمة أم تبرير ما حدث أم حتى السجال بشأن مسؤولية تفاقم الوضع إلى هذا الحد غير المسبوق في تاريخ الكوارث الطبيعية في ليبيا.
واختتم المشهد الانقسامي بدعوتين مقدمتين من الحكومتين، كل على حدة، للمجتمع الدولي بالتدخل لإعادة الإعمار وتمويل كلفة الجهود المتوقع أن تكون باهظة في ظل حجم الدمار الكبير، حيث أعلنت حكومة الشرق على لسان رئيسها المكلف من البرلمان أسامة حماد، عن تنظيم مؤتمر دولي في 10 أكتوبر/تشرين الأول المقبل في مدينة درنة المنكوبة.
ودعا حماد المجتمع الدولي للمشاركة في فعاليات هذا المؤتمر لتقديم “التصورات والرؤى الحديثة والسريعة لإعادة إعمار المدينة والمناطق المتضررة، بما في ذلك إعادة بناء الطرق والسدود التي تحمي المدن من أي كوارث طبيعية، مثلما حدث في الأيام القليلة الماضية”، بحسب البيان المنشور على صفحة الحكومة على فيسبوك في 22 سبتمبر/أيلول 2023.
وأوضح رئيس حكومة الشرق الخاضعة لقوات الجنرال متقاعد خليفة حفتر أن حكومته “اتخذت جميع الإجراءات اللازمة لمعالجة التداعيات المدمرة التي نتجت عن العاصفة دانيال”، لافتًا إلى أن تلك الدعوة استجابة لرغبات أهالي درنة قائلًا: “نزولًا على رغبة سكان مدينة درنة المنكوبة والمدن والمناطق المتضررة من (دانيال) فيما يتعلق بإعادة تهيئتها للعيش فيها مجددًا وبشكل آمن وطبيعي، تدعو الحكومة المكلفة من مجلس النواب المجتمع الدولي إلى المشاركة في أعمال المؤتمر الدولي”.
دعا رئيس الحكومة الليبية المفوضة من البرلمان أسامة حماد ، إلى عقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار المناطق المنكوبة جراء إعصار دانيال. وذكر بيان صادر عن مكتبه، أن المؤتمر سيعقد في الـ 10من أكتوبر/ تشرين الأول بمدينة درنة، بهدف إعادة بناء الطرق والسدود التي دُمرت بشكل كامل.#ليبيا #درنة pic.twitter.com/pxnxLZyJyl
— BBC – نقطة حوار (@Nuqtat_Hewar) September 22, 2023
في سياق مواز، قدمت حكومة الوحدة الوطنية بطرابلس، عبر وزير ماليتها خالد المبروك، طلبًا رسميًا إلى البنك الدولي، من أجل المساعدة في توفير الأموال اللازمة لإعادة إعمار درنة، بجانب تقديم يد العون في مجالات أخرى منها تقييم سريع للأضرار الناجمة عن الفيضانات وإنشاء برامج للتحويلات النقدية السريعة والطارئة للمتضررين بالمناطق المنكوبة.
وحث الوزير الليبي في طلبه المقدم للممثلة المقيمة لمجموعة البنك الدولي في ليبيا، هنرييت فون كالتنبورن-ستاتشاو، في 12 سبتمبر/أيلول الحاليّ، أي بعد يومين فقط من الكارثة، المؤسسة المالية الدولية على “تقديم الدعم الفوري للشعب الليبي خاصة أولئك الذين يعيشون في الجزء الشرقي من البلاد الذين تضرروا بشدة من الكارثة الأخيرة التي سببتها العاصفة دانيال”.
صراع على قيادة المشهد
منذ الوهلة الأولى لوقوع الكارثة بدا واضحًا رغبة السلطتين في توظيف المشهد لصالحهما، حيث حاول مجلس النواب الليبي وحكومته الشرقية استباق الأحداث بتقديم المساعدات خاصة بعد تصاعد خطاب الانتقاد الموجه لها وتحميلها مسؤولية ما حدث بسبب الفساد والإهمال.
البرلمان وبعد أيام قليلة من الإعصار أجاز تخصيص مبلغ 10 مليارات دينار (مليارا دولار) لجهود إعادة الإعمار، كما حاول تقديم يد العون عبر جهود الإغاثة المقدمة من قوات الجيش وبعض أفراد الدفاع المدني، لتلحق به حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس بتخصيص ملياري دينار لإعادة الإعمار بجانب 500 ألف دينار لتوفير الدعم للمنكوبين.
وحاولت سلطة الشرق الليبي الاستئثار بالمشهد عبر الوجود المستمر وتوجيه سهام النقد لحكومة الدبيبة التي وجهت هي الأخرى انتقاداتها اللاذعة لإدارة حفتر وحكومته بسبب تقاعسها عن لهفة المتضررين والتسبب في تفاقم الكارثة بسبب بعض الإجراءات الإدارية والأمنية التي كان لها دورها في وصول الضحايا إلى هذا الرقم المفزع.
رئيس حكومة الوحدة الليبية عبدالحميد الدبيبة: اكتشفنا أن عقود صيانة سدَّي #درنة لم تُستكمل#ليبيا #الحدث pic.twitter.com/BdoJcsCncK
— ا لـحـدث (@AlHadath) September 15, 2023
وتحاول كل حكومة أن تعمل بشكل منفرد من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من ميزانية إعادة الإعمار المقترح اعتمادها من المانحين الدوليين، دون أن تكون هناك رؤية مكتملة عن حجم الأضرار وما تحتاجه من ميزانيات، فضلًا عن افتقاد الخطط الإستراتيجية للتعاطي مع هذا الملف.
هذا الهدف يعيد للذاكرة ما حدث في البلاد منذ 2011، حين فشلت كل الحكومات السابقة في إنجاز أي نجاحات في ملف إعادة الإعمار في المناطق المتضررة بسبب النزاع، فيما كان اللهث خلف الأموال لخدمة المكاسب السياسية في معركة صراع النفوذ بين السلطتين في الشرق والغرب، أما الشعب فخارج دائرة الحسابات بالمرة.
درنة وأهلها.. هل يدفعون الثمن مرتين؟
في تقرير سابق لـ”نون بوست” تطرق إلى حجم الفساد الذي تعاني منه درنة ومناطق الشرق الليبي، هذا الفساد الذي فاقم خسائر الإعصار الأخير، الذي رغم قسوته، ما كان له أن يخلف كل تلك الخسائر إلا في حضور الحالة المزرية التي تعاني منها أحياء درنة وبنيتها التحتية الهشة وتردي الخدمات الصحية، فضلًا عن تكريس السلطات الحاكمة هناك لكل جهودها للعمليات العسكرية والهيمنة على السلطة فيما تجاهلت حياة المدنيين، ليدفعوا ثمن الفساد الذي نخر في جسد الدولة، فهوى بها إلى هذا المستنقع.
ودفع أهل درنة ثمن هذا الفساد باهظًا للغاية، تدمير لأكثر من ثلثي البنية التحتية لمدينتهم، فضلًا عن انهيار شبكات المرافق العامة من كهرباء مياه ومواصلات، بخلاف الأضرار البالغة التي حلت بشبكات الاتصالات فعزلت المناطق عن محيطها الجغرافي، بجانب الأعداد الكبيرة للضحايا ومثلهم في عداد المفقودين.
مظاهرات عارمة الآن في #درنة مطالبةً بمحاسبة المسؤولين عن ما حدث في المدينة من كارثة. pic.twitter.com/hI1WySZM6C
— جوهر علي (@JOHRALI) September 18, 2023
رغم الألم والانشغال بالفاجعة، فإن أهالي درنة كانوا أكثر انخراطًا في المشهد، موقنين أن ما حدث كان سببه الأول الفساد والانقسامات السياسية بين أضلاع الدولة وتكتلاتها، ففي 18 سبتمبر/أيلول 2023 خرج المئات من السكان في تظاهرات حاشدة طالبوا فيها بمحاسبة المتورطين عن الكارثة على رأسهم رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح والسلطة العسكرية التي تنهش في جسد الدولة وتسلب مواردها لخدمة أجنداتها الخاصة.
لاقت تلك التظاهرات التي عبرت عن المزاج الشعبي العام تأييد أكثر من 90 حزبًا سياسيًا في البلاد، أشادوا في بيان مشترك لهم بما أسموه “الهبة الشعبية” لدعم ومؤازرة المنكوبين، معتبرين أن ذلك دليلًا على لحمة الليبيين الوطنية، ورسالة مباشرة للفرقاء بضرورة إنهاء الانقسام السياسي الذي أودى بالبلاد إلى هذا المستنقع السحيق.
دعوات عدة أطلقها خبراء ومحللون بضرورة توحيد الجهود الرسمية الليبية بين حكومتي الشرق والغرب بشأن إعادة الإعمار، وتغليب البعد الإنساني والوطني في الصراع على تلك الكعكة، إذ ليس هناك أفجع مما حدث لتوحيد تلك الجهود وطي الخلافات السياسية جانبًا.. فهل تلقى تلك المناشدات صداها أم يدفع أهالي درنة والمناطق الشرقية الثمن مرتين، ثمن الكارثة وثمن الفساد والانقسام؟