نشأ جون أتكينسون هوبسون (1858 ـ 1940)، كما كتب هو بعد ذلك، في أسرة مستقرة من الطبقة الوسطى، بمدينة دربي الهادئة، متوسطة الحجم، في وسط إنكلترا. ولم يكن ثمة ما يوحي في نشأته بما سيؤهله للقب «المهرطق الاقتصادي»، الذي حمله بقدر من الاعتزاز والثقة بالنفس، واختاره عنواناً لسيرته الذاتية.
تلقى هوبسون تعليماً جامعياً مميزاً في أوكسفورد، وعمل بعد تخرجه أستاذاً فيما كان يعرف آنذاك ببرنامج التعليم الملحق، الذي كانت الجامعة توفره خارج أسوار كلياتها (Oxford Extension Education). لاحظ هوبسون منذ نشأته الأحوال المتردية للعمال في بريطانيا، والآثار الاجتماعية غير السوية، التي تركها النظام الرأسمالي (الجديد، نسبياً) على الطبقات المتدنية في البلاد. وبالرغم من أنه تلقى تعليماً محافظاً، وأنه قرأ آدم سميث وريكاردو ومالتوس وجون ستيوارت مل، تولد لديه توجه عميق بإضفاء نزعة إنسانية على ما أصبح يعرف بعلم الاقتصاد.
نشر آدم سميث كتابه «ثروة الأمم»، الذي أصبح منطلق علم الاقتصاد، وأسس، بدون أن يقصد سميث، ربما، للعلاقة بين الاقتصاد، باعتباره مساقاً علمياً وفكرياً، والنظام الرأسمالي
كان قد مر ما يقارب المئة عام على نشر آدم سميث كتابه «ثروة الأمم»، الذي أصبح منطلق علم الاقتصاد، وأسس، بدون أن يقصد سميث، ربما، للعلاقة بين الاقتصاد، باعتباره مساقاً علمياً وفكرياً، والنظام الرأسمالي. خلال القرن الفاصل بين سميث وبداية اهتمامات هوبسون الاقتصادية، حقق دارسو الاقتصاد تقدماً ملموساً في التعرف على النظام الرأسمالي وآلية عمله. إحدى أبرز الإشكاليات، التي حاول الاقتصاديون فهمها، كانت الأزمة المتكررة في السوق الرأسمالي، والتبادل الدوري بين مرحلة من النمو والازدهار، من جهة، وأخرى من الركود والانحطاط.
أرجع مالتوس الأزمة إلى بحث الطبقات العاملة عن المتعة الجسدية، وعجزها عن التحكم في تناسلها السكاني، الذي توقع مالتوس أن يصل في النهاية إلى مستوى يصبح فيها من المستحيل تلبية حاجات المجتمع. أما ريكاردو فقال بأن المشكلة تكمن في أن الارستقراطية من ملاك الأراضي، التي لا تقدم أية مساهمة تذكر في عملية الانتاج، هي الرابح الرئيسي من عملية النمو الاقتصادي، نظراً لمحدودية الأرض والموارد الطبيعية. ماركس، الذي ليس من المؤكد أن هوبسون تعرف على أعماله بعد، قال أن أزمة النظام الرأسمالي موروثة، حتمية، وأنها تعود إلى التطور المستمر في وسائل الانتاج.
من وجهة نظر هوبسون ومومري، يعود السبب الرئيسي للركود الدوري إلى الادخار وتراكم الثروة، وليس لأي سبب آخر
في كتاب مشترك مع زميل له، يدعى أ. ف. مومري، نشر هوبسون كتاباً بعنوان «فلسفة الصناعة»، حاولا فيه تقديم تفسير آخر لأزمة النظام الرأسمالي. من وجهة نظر هوبسون ومومري، يعود السبب الرئيسي للركود الدوري إلى الادخار وتراكم الثروة، وليس لأي سبب آخر. أثار الكتاب ردود فعل واسعة النطاق في أوساط الأرثورذكسية الاقتصادية، كما في المجال العام. ففي حين نظر بريطانيو العصر الفيكتوري إلى نزعة الادخار والامتناع عن الإسراف باعتبارها واحدة من أبرز الفضائل، لم يكن غريباً أن يوصف هوبسون بالتمرد على القيم السائدة والهرطقة الاقتصادية.
الحقيقة، أن هوبسون لم يكن اشتراكياً ثورياً، أبداً، ولم يفكر حتى في إطاحة النظام الرأسمالي؛ وكان أقصى ما تصوره للتعامل مع العواقب الاجتماعية للنظام هو التوكيد على القيم الإنسانية الأساسية. وربما متأثراً بما اقترحه جون ستيوارت مل من ضرورة الفصل بين عمليتي الإنتاج والتوزيع، دعا هوبسون إلى استخدام الدولة لأداة الضريبة من أجل تخفيف الآثار غير الإنسانية للنظام الرأسمالي.
ولكن الضجة التي أثارتها نظرية الإدخار وتراكم الثروة لم تردع هوبسون، على أية حال. وبالرغم من أن فرصة تقدمه في المجال الأكاديمي أصبحت ضيقة، وربما حتى مستحيلة، فقد استمر في نشر آرائه الاقتصادية ـ الاجتماعية، سيما في الدوريات الليبرالية. وقد لفتت مقالة لهوبسون حول حرب البوير، التي اشتعلت بين القادمين البريطانيين الجدد إلى جنوب إفريقيا، بقيادة سيسيل رودس، والمستعمرين الهولنديين في مقاطعة الترانسفال، في 1899، اهتمام المحرر السياسي لصحيفة الغارديان (التي كانت تصدر آنذاك من مانشستر).
وكان أن كلفت الغارديان هوبسون بالسفر إلى جنوب إفريقيا لتغطية الحرب. ولد اهتمام هوبسون بحرب البوير من محاولة بحثة عن صلة ما بين الحرب وآلية عمل النظام الرأسمالي؛ وليس ثمة شك أن فرصة تغطية الحرب، بما في ذلك اللقاء الذي أجراه مع رودس، تركت اثراً عميقاً على فهمه لطبيعة النظام الرأسمالي وأزمته المتكررة. في 1902، نشر هوبسون كتابه «الإمبريالية: دراسة»، العمل الأول، على الاطلاق، الذي يربط بين التوسع الإمبريالي وأزمة النظام الرأسمالي.
التفاوت الفادح في توزيع الثروة يصل في النهاية إلى مستوى يصبح فيه كل من الفقير والغني غير قادرين على المزيد من الاستهلاك؛ الأول، لأنه لا يملك ثمن المنتجات التي يشتهيها؛ والثاني، لأنه وصل إلى أقصى درجة ممكنة من الإشباع الاستهلاكي
الرأسمالية، قال هوبسون في كتابه، تعاني من أزمة هيكلية، لا فكاك منها، تنبع من سيادة مبدأ الربح، وبالتالي، من التوزيع غير المتساوي للثروة في المجتمع، التفاوت الفادح في توزيع الثروة يصل في النهاية إلى مستوى يصبح فيه كل من الفقير والغني غير قادرين على المزيد من الاستهلاك؛ الأول، لأنه لا يملك ثمن المنتجات التي يشتهيها؛ والثاني، لأنه وصل إلى أقصى درجة ممكنة من الإشباع الاستهلاكي.
لاستمرار الآلة الرأسمالية في العمل، لابد من الاستثمار خارج نطاق السوق الأصلية، أي خارج البلدان الرأسمالية. بهذا المعنى، رأى هوبسون الإمبريالية ليس باعتبارها مجرد تجل لسعي الأمم الغربية إلى توكيد الذات والقوة، بل أداة النظام الرأسمالي الرئيسية لحل أزمته المستحكمة، عن طريق الاستثمار في أسواق خارجية، إنتاجاً وتوزيعاً. ولكن هوبسون ذهب حتى أبعد من ذلك؛ مؤكداً على أن الحرب، كما حدث في الترانسفال، هي الناتج الطبيعي للإمبريالية. كان أقصى ما توقعه ماركس أن أزمات النظام الرأسمالي ستؤدي في النهاية إلى تدمير النظام ذاته. أما قراءة هوبسون للإمبريالية فتذهب إلى أن النظام الرأسمالي يدفع نحو إشعال الحروب وتدمير العالم بأسره.
ترك كتاب هوبسون أثراً بالغاً على لينين وروزا لوكسمبورغ وكاوتسكي، وحتى على هانا أرنت، كما تعرض لانتقادات واسعة النطاق. فيما بعد، كشف دارسون عن أن عدداً من المعطيات التي ارتكز إليها هوبسون لم يكن دقيقاً، وأن فرضيات أخرى لنظريته لم تؤسس على أرضية صلبة. ولكن جوهر اكتشاف هوبسون للصلة الوثيقة بين الإمبريالية وأزمة النظام الرأسمالي لم يزل من الصعب تجاوزه.
بعد الحرب الثانية، لم يعد من الممكن استمرار الإمبراطوريات الغربية في مواجهة حركات التحرر الوطني
في العقود التي تلت وفاة هوبسون، سيما بعد الحرب الثانية، لم يعد من الممكن استمرار الإمبراطوريات الغربية في مواجهة حركات التحرر الوطني. كما شهدت آلية عمل النظام الرأسمالي متغيرات متسارعة، بداية من العولمة الحثيثة للأسواق، التي جعلت المنافسة عالمية الطابع، إلى التطور الهائل في وسائل الإنتاج، الذي جعل من الممكن لعمالة غير عالية التدريب القيام بالمهمات التخصصية، محدودة المجال، للآلة الصناعية الحديثة. للحفاظ على مستوى الربح والمنافسة لصناعة الملابس البريطانية في السوق العالمية، وليس في السوق البريطانية، وحسب (تنتشر أغلب المتاجر البريطانية عبر العالم بأسره)، تصنع الشركات البريطانية الملابس في بنغلاديش أو فيتنام.
وللحفاظ على قدرة شركات السيارات الأمريكية، أو اليابانية، على المنافسة والاستمرار في تحقيق الأرباح، يمكن زرع مصانعها في المكسيك والبرازيل، أو تايلند وإندونيسيا.
وهذا ما يجعل صرخات ترامب من أجل إعادة توطين الصناعات الأمريكية مجرد حرب دينكوشيتية. لقد تغير نسق العلاقات الإمبريالية بالفعل خلال نصف القرن الماضي، وأصبح على النظام الرأسمالي أن يتغير معها. ولكن بقاء الرأسمالية واستمرارها لم يزل وثيق الصلة ببقاء العلاقات الإمبريالية واستمرارها. ما لا يريد معسكر ترامب رؤيته أن المشكلة ليست في مصداقية الولاء الوطني للرأسمالية الأمريكية، بل في النظام الرأسمالي ذاته. وهي مشكلة ليست مستحدثة بالتأكيد.