أضعف الانقسام الفصائلي بين مكونات الجيش الوطني السوري، المدعوم تركيًّا، القدرة العسكرية للحدّ من مساعي هيئة تحرير الشام الحثيثة، لإيجاد موطئ قدم لها في عمق مناطق سيطرة الوطني في ريف حلب الشمالي والشرقي، ما بات يعرف بمناطق عمليتَي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”.
واستغلت تحرير الشام جميع الوسائل الممكنة أمامها بهدف تحقيق اختراق في مناطق سيطرة فصائل الوطني، من خلال تحالفها مع فصائل القوة المشتركة (فرقة الحمزة وفرقة سليمان شاه) في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حيث فرضت تواجدها الأمني في منطقة عفرين وريف حلب الشرقي، إلى جانب ذراعها حركة أحرار الشام – القطاع الشرقي.
ذراع للهيئة في ريف حلب
مع عودة أحرار الشام – القطاع الشرقي إلى الهيكلية العامة لحركة أحرار الشام المتواجدة في منطقة إدلب، وبتنسيق مباشر مع حسن صوفان الذي يتمتع بعلاقة وثيقة مع قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، تحوّل القطاع إلى ذراع تابعة لهيئة تحرير الشام في مناطق شرقي حلب، استخدمته الأخيرة في ضرب الخصوم والتمدد تحت كنفه، وتحقيق هدفها في بسط النفوذ على معبر الحمران الاستراتيجي.
وفي محطة الخلافات الأخيرة، تعرضت أحرار الشام – القطاع الشرقي إلى انقسام داخلي، بعدما قرر قائدها أبو حيدر مسكنة العمل ضمن هيكلة الفيلق الثاني في الجيش الوطني، وإقالة وزارة الدفاع لنائبه أبو الدحداح وزكريا الشريدة أبو عمر القائد العسكري للقطاع، على خلفية نيتهما الانضمام إلى هيئة تحرير الشام بتخطيط وتنسيق من القيادة العامة للحركة في إدلب شمال غربي سوريا.
من جهتها، قررت القيادة العامة للحركة عزل أبو حيدر مسكنة من مهامه في قيادة القطاع، عقب انقلابه على مساعيها في تنسيق انضمام القطاع إلى هيئة تحرير الشام، بالتعاون مع أبو الدحداح الذي عيّنته مؤخرًا قائدًا للقطاع عوضًا عن مسكنة، الذي انضم إلى فرقة السلطان مراد في الفيلق الثاني التابع للجيش الوطني.
كادت تحرير الشام أن تخسر ذراعها في مناطق ريف حلب الشرقي، التي توفر عليها إمكانية التمدد في المنطقة بشكل غير مباشر، ما دفعها إلى إرسال مئات العناصر ضمن أرتال عسكرية قادمة من إدلب، للمشاركة في حرب العشائر محيط مدينة منبج الواقعة تحت سيطرة ميليشيا “قسد”.
وأكدت مصادر عسكرية من الجيش الوطني لـ”نون بوست”، أن تحرير الشام أرسلت عناصر مدجّجة بالسلاح والذخائر تحت غطاء العشائر والقبائل العربية، لكنها انتشرت في مقرات ومعسكرات الكتائب المتحالفة مع تحرير الشام في قرى عولان وثلثانة وعبلة قرب مدينة الباب وعلى تخوم خطوط التماسّ محيط منبج، مشيرة إلى أن الأرتال عادت إلى منطقة إدلب بسيارات فارغة عقب انتهاء المعركة، ما يؤكد إرسال تحرير الشام عناصر تابعة لها لمساندة كتائب الأحرار المتحالفة معها في ريف حلب الشرقي.
وأصدرت وزارة الدفاع التابعة للجيش الوطني، الخميس 21 سبتمبر/ أيلول الجاري، بيانًا تعلن فيه بدء حملة أمنية في مناطق ريف حلب الشرقي (درع الفرات)، بهدف حماية المنطقة من الاعتداءات الخارجية والداخلية التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار، حسب وصفها، مؤكدة رفع الجاهزية القتالية لدى جميع التشكيلات والوحدات العسكرية، مع بدء تنفيذ عمليات أمنية في المنطقة.
وحشدت هيئة التحرير قواتها مع كتائب أحرار الشام – القطاع الشرقي بقيادة أبو الدحداح، بهدف بدء هجوم على مواقع قوات تابعة لأبو حيدر مسكنة، للسيطرة على معبر الحمران الذي خسرته لصالح الفيلق الثاني بعد التحالفات الجديدة، فضلًا عن انتشارها في قطاعات عسكرية في منطقة الباب، ما دفع وزارة الدفاع في الجيش الوطني إلى الوقوف في وجه أي هجوم تبدأه تحرير الشام على مناطق سيطرتها.
وتشهد القرى والبلدات الواقعة على تخوم خطوط التماسّ مع قوات نظام الأسد وميليشيا “قسد”، قرب منطقتَي الباب ومنبج بريف حلب الشرقي، اشتباكات بالأسلحة الثقيلة والخفيفة منذ أيام بين فصائل الفيلق الثاني بقيادة فرقة السلطان مراد (مقربة من تركيا) من جهة، وكتائب مسلحة تابعة لحركة أحرار الشام – القطاع الشرقي (متحالفة مع تحرير الشام) من جهة أخرى.
ويعدّ معبر الحمران المخصص لنقل الفيول من الجزيرة السورية (تحت سيطرة “قسد”) إلى ريف حلب الشمالي والشرقي (تحت سيطرة الوطني) ومنهما إلى إدلب، إضافة إلى معابر التهريب بالقرب من مدينة الباب شرقي حلب، وصولًا إلى محيط مارع؛ السمةَ الغالبةَ على أسباب الاقتتال الحاصل، إلا أنه يمهّد لمرحلة جديدة في المنطقة تفرض من خلالها تحرير الشام وجودها.
وتتجدد المعارك بين حين وآخر كلما وصل طرفا الصراع في تفاهماتهما إلى طريق مسدود، وسط إصرار تحرير الشام على إبقاء تواجدها العسكري في المنطقة تحت راية حركة أحرار الشام، ورفض فيالق الوطني، وعلى رأسها الفيلق الثاني، لوجودهما، داعية إلى خروج الفصائل المتحالفة مع الهيئة من المنطقة نحو إدلب.
بداية الخلافات والمواجهة
في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، قررت ألوية أحرار الشام – القطاع الشرقي، العاملة في مناطق الباب وجرابلس، الاندماج مع الجبهة الشامية -كبرى فصائل الفيلق الثالث في الجيش الوطني- بموافقة قائد أحرار الشام حسن صوفان آنذاك، تحت مسمّى الفرقة 32.
وانضمت كتائب القطاع الشرقي إلى مكونات الجيش الوطني، بعدما فقدت اتصالها الجغرافي مع مناطق تواجد حركة أحرار الشام في إدلب، التي خسرت سلطتها بعدما حُجّمت من قبل تحرير الشام، في قتالها الذي استهدف معظم الفصائل العسكرية في منطقة إدلب.
وإلى ريف حلب الشرقي، نشبت خلافات القطاع الشرقي مع الفيلق الثالث مطلع العام 2022، بعدما طالب القطاع تغيير مندوبين عنه في مجلس الشورى وإدارة منطقة الباب وجرابلس، والحصول على مبالغ مالية مقابل مصاريف وتكاليف صيانة للمركبات خلال السنوات الماضية.
ومع اشتداد الخلاف وتكشّفه للعلن، أضاف القطاع الشرقي مطلبًا بإقالة قائد الفيلق الثالث آنذاك أبو أحمد نور، إلى جانب السيطرة على معبر الحمران، ما تسبّب في تطور الخلافات إلى مواجهات مسلحة في منطقة عولان شرقي حلب مطلع أبريل/ نيسان الماضي، ما استدعى قيادة الفيلق الثالث إلى عزل قياديين في القطاع الشرقي بينهم أبو حيدر مسكنة وأبو عدي البوغاز، إلا أن القرار قوبل بالرفض من قيادة القطاع الشرقي.
دفع تمرد القطاع الشرقي إلى إعلان الانشقاق عن الفيلق الثالث، ما دفع الأخير إلى شنّ هجوم على مقرات تابعة لأحرار الشام – القطاع الشرقي في عولان وعبلة وعدة مناطق أخرى محيط الباب، حيث استمرت لأيام حتى تقدم القطاع بطلب للانضمام إلى هيئة ثائرون في الفيلق الثاني، إلا أنها رفضت مطلب القطاع الشرقي حتى الحصول على “براءة ذمة” من الفيلق الثالث.
وعقب الخلافات، شُكّلت اللجنة الوطنية للإصلاح (مؤلفة من مشايخ وشرعيين في الفصائل) بهدف حل الخلاف بين الطرفَين، وهما الفيلق الثالث وأحرار الشام – القطاع الشرقي، وطلبت اللجنة حينها من مقاتلي أحرار الشام في منطقة الباب تسليم سلاحهم ومقراتهم للفيلق الثالث، والانضمام إلى الفيالق الأخرى في الوطني، إلا أن القرار قوبل بالرفض من مقاتلي الحركة واعتبروه مجحفًا، ما دفع الفيلق إلى شنّ هجوم على مقارّ أحرار الشام – القطاع الشرقي في عبلة وعولان وأخترين، حيث سيطر الفيلق على عدد من المقار تنفيذًا لقرار اللجنة حسب زعمه.
مجددًا، حاول القطاع التقرب من هيئة ثائرون للانخراط في صفوفها، إلا أن الفيلق الثالث هدد بالتصعيد ما استدعى تدخل الجانب التركي لحلّ الملف، من خلال عدم قبول انضمام القطاع الشرقي ضمن صفوف مكونات الوطني والالتزام بقرارات لجنة الإصلاح الوطنية.
ومع تصاعد حدة التوترات في المنطقة، أرسلت أحرار الشام في إدلب، منتصف العام 2022، أرتالًا عسكرية إلى ريف حلب الشمالي لمساندة قطاعها الشرقي بمشاركة قوات من هيئة تحرير الشام، حيث دخلت الأرتال العسكرية من محورَين، الأول من الغزاوية وصولًا إلى قرية قرزيحل جنوب عفرين، والثاني كان من منطقة جنديرس وصولًا إلى قرية كفر صفرة.
شكّل تدخل القيادة العامة لحركة أحرار الشام لصالح القطاع الشرقي، بدفع من حسن صوفان الذي تربطه علاقات ومصالح مع قائد هيئة تحرير الشام، تغيُّرًا في المعادلة، بعدما تبنّى صوفان القطاع عقب انشقاقه عن الفيلق الثالث، معربًا عن رفضه لما صدر عن لجنة الإصلاح، ومؤكدًا عدم تخليه عن القطاع المذكور مهما كلف الثمن.
وجاءت الاتهامات لصوفان بعد خلافات واشتباكات بين قيادة الحركة استمرت لعدة أشهر، ممثلة في القائد السابق للحركة جابر علي باشا وحسن صوفان اللذين توصّلا لاحقًا إلى تعيين عامر الشيخ “أبو عبيدة” قائدًا عامًّا للحركة، حيث قام بتشكيل مجلس قيادة موحّد منحاز لصوفان، لتنتهي القضية بانشقاق ألوية في أحرار الشام تضم مئات المقاتلين والانضمام إلى الفيلق الثالث، ومغادرة إدلب إلى ريف حلب الشمالي في 9 يوليو/ تموز 2021.
تحرير الشام تستغل الخلافات
لم تترك هيئة تحرير الشام أي فرصة أمامها للانقضاض على فصائل الوطني وفرض نفسها كأمر واقع في المنطقة، وكلما نشبت معركة وخلافات بين فصائل الوطني، كانت تسعى إلى التمدد في المنطقة عبر فصائل أخرى متحالفة معها.
وتكررت محاولات تحرير الشام في التمدد إلى ريف حلب في أكتوبر/ تشرين الأول من العام المنصرم، بعدما أرسلت تعزيزات عسكرية لدعم فصائل القوة المشتركة التي دخلت في خلافات وتوترات في مدينة الباب ممتدة إلى منطقة عفرين في ريفَي حلب الشمالي والشرقي، على خلفية اتهام عناصر تابعة لفرقة الحمزة اغتيال ناشط إعلامي.
وفي التفاصيل، تفجّر الخلاف في مدينة الباب بين الفيلق الثالث وفرقة الحمزة بعد اغتيال الناشط أبو غنوم وزوجته في مدينة الباب، وإلقاء القبض على القتلة من الفيلق الثالث، وتقديمهم للقضاء واعترافهم بأنهم يتبعون لفرقة الحمزة التي حاولت التهرُّب من التهمة الموجهة ضدها، ما أدّى إلى توترات واشتباكات مسلحة بين الفيلق الثالث وفرقة الحمزة في الباب وبزاعة وقباسين في ريف حلب الشرقي.
انضمت عدة فصائل إلى القتال إلى جانب فرقة الحمزة، من بينها حركة أحرار الشام – القطاع الشرقي وفرقة سليمان شاه، نتيجة الخلافات السابقة بهدف القضاء على الفيلق الذي كان يسيطر آنذاك على مناطق استراتيجية في ريف حلب الشرقي، من بينها معبر الحمران.
وامتدت الاشتباكات إلى مناطق واسعة في عفرين وأخترين وجرابلس، وسط توترات أمنية بين مكونات الوطني، ما دفع تحرير الشام إلى توجيه أرتال عسكرية إلى مناطق سيطرة الوطني في عفرين، بهدف مساندة فصائل القوة المشتركة (فرقة الحمزة وفرقة سليمان شاه) ضد الفيلق الثالث، تحت راية حركة أحرار الشام – القطاع الشرقي وفرقة الحمزة.
احتدت المعارك على خلفية دخول تحرير الشام إلى خط المواجهة بين الفيلق الثالث وفرقة الحمزة، ما دفع الفيلق إلى سحب قواته من منطقة عفرين إلى منطقة أعزاز في ريف حلب الشمالي، باعتبارها منطقة واقعة تحت إدارته، في المقابل قامت تحرير الشام وفصائل القوة المشتركة في السيطرة على معظم منطقة عفرين، ووصلت تحرير الشام إلى أعتاب مدينة أعزاز.
بقيَ الفيلق الثالث في الجيش الوطني وحيدًا في مواجهة تحرير الشام، وسط غياب شبه كلّي لفصائل الفيلق الثاني، من أبرزها فرقة السلطان مراد وفرقة المعتصم اللتان وقفتا محايدتَين رغم دخول تحرير الشام إلى خط المواجهة، ما ساهم في زيادة الشرخ وتبادل الاتهامات بين فصائل الوطني.
وعلى خلفية سيطرة تحرير الشام على منطقة “غصن الزيتون”، والتهديد في اقتحام منطقة “درع الفرات” والوصول إلى مدينة الباب بريف حلب الشرقي، شهدت عدة مدن احتجاجات شعبية رافضة لدخول تحرير الشام إلى المنطقة، وسط حالة استنفار وتوتر أمني من قبل جميع فصائل الوطني، بعدما وصلت مبادرات الحل إلى طرق مسدودة.
تسبّب الاقتتال الحاصل آنذاك في تدخل الجانب التركي الذي فرض اتفاقًا في 18 أكتوبر/ تشرين الأول، يقضي بوقف الاقتتال وانسحاب أرتال تحرير الشام من مدينة عفرين وكفرجنة ومريمين وقطمة وجنديرس، ورغم انسحابها من المنطقة شكليًّا إلا أنها أبقت أعدادًا من العناصر الأمنيين التابعين لها في المنطقة، في ظل إصرارها على إثبات وجودها في مناطق سيطرة الوطني.
واليوم، رغم أن المعركة وجودية بالنسبة إلى فصائل الوطني، فهي غير مدركة للمخاطر التي تحدق بوجودها العسكري في ريفَي حلب الشمالي والشرقي، ذلك في حال استطاعت تحرير الشام الحفاظ على ذراعها، وسط مساعيها الرامية إلى السيطرة الكلية على المنطقة لاحقًا، في وقت لا تزال المعارك دائرة بين فصائل الفيلق الثاني بقيادة فهيم عيسى وكتائب أحرار الشام – القطاع الشرقي المتحالفة مع تحرير الشام، وتغييب شبه كلي لباقي مكونات الوطني.
ختامًا، أفسحت الانقسامات والخلافات الفصائلية في البيت الداخلي لمكونات الجيش الوطني المجال أمام هيئة تحرير الشام، للدخول إلى مناطق ريفَي حلب الشمالي والشرقي، ما يمكّنها من ضرب خصومها الرافضين لدخولها إلى المنطقة، وتعزيز سلطتها بشكل تدريجي كما فعلت سابقًا في محافظة إدلب، حيث قضت على معظم فصائل المعارضة السورية، وحجّمت دور فصائل أخرى.