تثير الصورة السينمائية حشدًا من التساؤلات المجردة تكون بمثابة الأحجية الإبداعية، فالأسلوب البصري الواحد يظفر بمجموعة من الهموم والمشاعر والشكوك، في بعض التجارب لا تختزل في كونها عناصر وإحالات، بل تتجاوز أشكالها الأولية لتتحول إلى استجواب للماضي، كما في سينما المخرج التركي سميح قبلان أوغلو، الذي يؤسس “ثلاثية يوسف” على الماضي بمراكمته.
يراوغ قبلان أوغلو الزمن بإحماءات استعادية تفيض بالذكريات، في سردية تتجاوز الأنماط السردية والثنائيات المعهودة، وتسعى إلى تجربة أشد شمولية وانفتاحًا، بداية من اختياراته الفنية ومنهجيته في عرض الحياة الريفية كخاصية جوهرية تنطلق منها كل الخطوط، بالإضافة إلى انشغاله -مثل المخرجين التركيين الآخرين- بتيمة الحنين للوطن المعهودة، برقّة وشاعرية لا يضاهيه فيهما من أقرانه إلا المخرج نوري بيلجى جيلان.
بيد أن تصور قبلان أوغلو لتلك التيمة يختلف عن أي مخرج آخر، وتعاطيه مع الصورة يخلق له مكانة متفردة، فهو يشتبك مع عالم البراءة الريفية ونقاء الطبيعة بأسلوب يؤطر الإنسان داخل الطبيعة، كعنصر منقوص لا يكتمل تخيله أو تنتفض مشاعره إلا بتحسُّس لا إرادي للطبيعة.
الطبيعة هنا ليست عنصرًا مكمّلًا إنما كلية كونية، لهذا البحث عن الذات يكون في الداخل حيث حقل الذكريات المفعمة بالحنين، وأي حركة في الخارج تؤصّل لنوع من الاغتراب، والداخل هنا لا يقتصر على المعنى الحرفي للذات، إنما الداخل حيث الموطن، المناخ البيئي، ويصوغ المخرج صوره بلا يقين مادي.
فالعين المجردة تسطّح كل شيء، والأنماط البصرية السينمائية متجاوزة للضحالة ومنتمية إلى مساحة ملتبسة، مفتوحة على الرؤى والتأويلات، فالعالم من حولنا مكتظ بأجناس إبداعية ومادية مختلفة، غير أن التكوين السينمائي يعيد تشكيل الهوية البصرية داخل سياقها السردي، بحيث لا يكون ثمة إطار لفهم المتوالية البصرية، فهي متجددة في كل لحظة زمانية، في ضوء كل بيان وحركة مستحدثة.
يفرد قبلان أوغلو لنفسه مساحة من الشك والارتياب، ويبدأ في نسج أجناس من التخمين، فهو منقطع عن المستقبل ومنتمٍ إلى الماضي، يفتش في ذكريات أبطاله عن نفسه، واستقصاؤه لذاته لا يقع إلا في خانة الشبه، لا يرى كل شيء لكنه يطوّر أسلوبًا حدسيًّا، بحيث لا يمكن الاكتفاء بالحواس، ويجب الانتقال إلى مستوى أعلى من التلقي.
ذلك النوع من السينما منسوج من خلايا عاطفية، لذلك حتى أقسى الموجودات في “ثلاثية يوسف” هي أشياء رخوة داخل بيئتها، لأنها مفعمة بالماضي المطعّم بالعاطفة والإحساس، والإيقاع البطيء هو الاختيار الفني الموازي للطبيعة، فالحياة على هامش المجتمع الصناعي تتسم بالتباطؤ، وهو صفة أولية يمكن أن نراها كمدخل لسينما قبلان أوغلو، فهو مهتم بالتباطؤ والملل كسمة محفّزة للمشاهد، يمنحه الوقت للتدقيق في تفاصيل جانبية وغير ضرورية في الكثير من الأفلام الأخرى، بيد أنها هنا ضرورية لاستكمال تجربة المشاهدة، وقد ردَّ المخرج على هذه النقطة في إحدى المقابلات الصحفية:
“لا حرج في القليل من الملل. بشكل عام، أنا مهموم بخلق التناغم بين الإخراج والكاميرا والصوت وما إلى ذلك. وأسعى جاهدًا لتحقيق حسّ الانسجام بين جميع العناصر التي تكوّن الفيلم. وهذا يتعارض كليًّا مع سرعة السينما التي تمليها سرعة الحياة المعاصرة. على النقيض من ذلك، ما يهمني هو العثور على إيقاعي الخاص ووتيرتي الخاصة”.
يتعرض أوغلو لتيمة التيه في عدة مستويات، هناك فراغ يؤرق أبطال عوالمه لا يمكن سدّه إلا بالحركة إلى الخلف، والبحث بين الذكريات عن أماكن لإعادة اكتشاف الذات، فأفلامه ذات وقع هادئ حتى في ثورتها وغليانها لا تتقدم تقدمًا خطيًّا، بل تخلق عالمًا أشبه بخفقات أو رؤى متناثرة مبتورة، بحيث لا يمكن فهمها إلا بجمع الثلاثة أفلام، ومحاولة إنتاج قوة عاطفية لخلق نسق مفهوم على المستوى الشاعري.
والحقيقة أن أوغلو يحب خلط الأوراق، الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة إليه اللحظة الآنية، بالإضافة إلى اختياره الطبيعة والريف كمجال ومساحة لتعزيز الشعور بالأفراد وترسيخ لغته وشخصياته الحسّاسة، ربما يكون متأثرًا بجوهر الفيلسوف روسو الذي ينادي بالعودة إلى الطبيعة، لكنه في الوقت نفسه لا يرتفع فوق الأشياء المادية المحسوسة، بل يرتبط بها ارتباطًا وثيقًا، لكن في نوعيات معينة.
المادة نفسها بالنسبة إليه تنتمي إلى الطبيعة، مادة عضوية بيولوجية تخرج من بيئة الريف كامتدادات للطبيعة، ليسمّي أسماء ثلاثيته بأسماء منتجات مادية حيوانية (بيض – حليب – عسل)، كلها أركان أساسية عضوية تقوم عليها بيئة الريف، ما يجعل ذلك اتصالًا وثيقًا بين البيئة والأشخاص وحتى المسمّيات الشمولية التي تغلّف الأفلام.
ويحدث أن يختزل الشيء في اسمه، كنائب عن المادة المصورة، يمثل نقطة معيّنة، يمكن أن تكون اتصالًا بالطبيعة، أو دلالات أخرى لها علاقة بماهية الاسم نفسه كطعام له دورة حياة يكتسب منها تفردًا طبيعيًّا ومذاقًا يكتسب منه تفردًا ماديًّا، والحقيقة أن تلك النقطة تفتح بابًا على تأويلات كثيرة، لكنها تؤكد أن الثلاثية مكثّفة بحشد من المعاني، فالتلاعب بالزمن والإيقاع والسرد غير التقليدي، بالإضافة إلى تأثير البيئة والخاصية الأدبية المؤثرة في تشكيل البطل، يمنح أفلام أوغلو شيئًا مثيرًا لما بعد الفرجة، محفزًا للانخراط أكثر في وعي البطل.
يقسم الكاتب أدريان إيفاخيف في كتابه “إيكولوجيات الصورة المتحركة: السينما، التأثير، الطبيعة” التجربة السينمائية إلى 3 طبقات:
“أولًا، الفورية الكثيفة للمشهد السينمائي، والنسيج المتلألئ للصورة والصوت عندما يصدمنا ويتردد فينا بشكل عميق وعاطفي؛ هذه هي الصورة المتحركة التي تثيرنا بشكل فوري ومباشر. ثانيًا، هناك الكشف المتسلسل لسردية الفيلم “الحدث”؛ الشيء تلو الآخر الذي نتبعه لمعرفة ما سيحدث بعد ذلك وإلى أين سيقودنا. ثالثًا، هناك تكاثر المعاني التي تنشأ عندما تتحرك عوالمنا الموجودة بالفعل، من خلال ما نراه ونسمعه ونتابعه أثناء مشاهدة فيلم أو مقطع فيديو. أنا أسمّي هذه الطبقات الثلاث من التنظيمات: مشهد السينما، تسلسلها أو سردها، ودلالتها؛ ونتائج كل منها من حيث تأثيرها علينا هي على التوالي: العاطفي، والسردي، والمرجعي أو السيميائي”.
وإذا حاولنا تفكيك “ثلاثية يوسف” طبقًا لهذه المنهجية، وهو شيء لن يكون بالدقة الكافية، سنجد أنه ينطلق من الطبيعة وينتهي إليها، الافتتاح المشهدي لفيلمه الأول “بيضة” وخاتمته في “عسل” يمنحانا هذا التأثير الأولي الذي يرصده إيفاخيف في فقرته، وفرة الصورة وثراؤها الطبيعي والريفي يشتملان فردًا ضئيلًا ضائعًا لا يعرف مكانه في العالم، كأنهما ملاذه الأخير.
ومع تتابع الأحداث وتسلسلها في كلية متصلة عبر 3 أفلام، أو أجزاء منفصلة يمكن مشاهداتها بشكل فردي، يظهر تفرد المخرج، لأنه لا يهتم لتتابع الأحداث بالطريقة التي تجعل كل شيء مكشوفًا ومفهومًا، فطبيعة القصة ذاتها لا تؤصّل هذا النوع من التسلسل، بل تخلق مواقف -في الفيلم الأول- ذات بُعد نوستالجي، أي نوع من السرد الاستعادي لاستجواب الماضي.
فالبداية السردية للفيلم تقع في النقطة الزمانية الأبعد، خاتمة من المفترض أن تجسّد إغلاق حقبة كاملة، بيد أنها بالنسبة إلى أوغلو -كما كل شيء- غير مكتملة، فهناك العديد من الأسئلة المطروحة عند النظر إلى الخلف، حتى إذا لم ينطق بها البطل يوسف، بالإضافة إلى العديد من الإحالات الدينية، بداية من الاسم، مرورًا بالأحلام المستشرفة والبئر وغيرها.
كل هذا لا ينفي وجود التتابع السردي، إنما يمنحه حرية أكبر على المستوى الشكلاني، بحيث تصبح الأشياء بعيدة عن بعضها بدرجة معيّنة، تلك المسافات هي ما تخلق السؤال اتجاه الأرض والذات المجردة، وتنشئ نوعًا من الحميمية اتجاه الأفعال والحركات، إذًا الحركة ذاتها موجودة رغم المسافات، سواء كانت عن طريق إرادة حرة أو صدف عابرة، ما ينقلنا إلى المستوى الثالث الذي يمنح السردية ثراءها، حركة السردية، كونها تأملية في المقام الأول، تفتح الفيلم على التأويلات والربط.
فأوغلو متجاوز للمعنى الواحد، والثنائية القيمية المعروفة للخير والشر، بل يدفعنا للنظر بعمق داخل أعماله، وأن نردّها إلى شيء داخلي، ليس لتفسيرها بل للإحساس بها كمؤثر حقيقي يدفعنا بشموليته للتفكير في موقعنا وعلاقتنا بالعالم، كما في خاتمة فيلم “عسل” حينما يرقد الطفل يوسف فوق جذور شجرة متمادية في العمق والقدم، كأنما تكتنفه الشجرة في صورة أبوية، موازاة للصورتَين.
حيث صورة الأب متمثلًا في الشجرة القديمة تكثّف بأسلوب مشهدي لمشهد آخر، مشهد أولي ليوسف تائه رغم نضوجه في فيلم “بيضة”، فهو مع إيغاله في حياة المدينة فقدَ تلك القدرة على التواصل مع الطبيعة الأمّ، التي يمكن أن تتجسّد في أشكال أكثر حميمية، والحقيقة أن القصة تبدأ حين يحاول يوسف استعادة تلك القدرة على التواصل، حتى لو بشكل غير مباشر أو مقصود.
إذا دقّقنا النظر في الأسماء، فسنلاحظ أهمية أن تمسك بحالة شعورية داخل كنية عضوية، فكلمات البيض والحليب والعسل حين تسمعها في سياقات أخرى سيسيل لعابك، لأنها ببساطة وداخل السياق المديني تستحضر صورة الكيكة الإسفنجية أو الحلوى، بيد أن الأمر يختلف بالنسبة إلى أوغلو، فهو يسقط مسميات أولية يمكن بسهولة أن تتحول إلى مفتاح أو مدخل لفهم طبيعة القصة.
فالبيض مكون ذو طبيعة مراوغة، يختلف عن المكونَين الآخرَين، فيما يتخلى عن كونه مكونًا، ويستقل بإنتاجه حياة أخرى، خطًّا زمنيًّا جديدًا، لكنه على الجانب الآخر يمكن أن يتحول إلى مكون داخلي لوصفة طعام، وهنا يصبح سائلًا ذا طبيعة مادية، لكنه محدود وغير ممتد، أي أن الامتداد ما يخلق تصورًا موازيًا لإدراكات جديدة، تلك الاحتمالات تعتبر مدخلًا للفيلم ذاته.
يوسف القادم من المدينة ليدفن أمه ويعود، معذب بقلق وجودي من مكانه في العالم، تداهمه القرية بحشد من الذكريات، وتعلقه أمه بوصية تجعله يمكث ويشتبك مع طوفان الذكريات، البيض هنا موازٍ للقدرة الإلهية على الخلق -كما أشار في مقال سابق الناقد أحمد شوقي-، الانفلات من العتمة والانغمار بالضوء.
قبلان أوغلو كان متأثرًا بفيلم “روح خلية النحل (The Spirit of the Beehive)” للمخرج الرائع فيكتور إريثيه، وهذا ليس تشابهًا رديئًا، إنما تماثلًا في الروح يرفع من جودة الفيلم
ثم يأتي في الجزء الثاني بالحليب، مصدر رزق الأم والابن يوسف، وهو ذو طبيعة حيوية لأنه متجدد باستمرار وبطريقة آلية وآمنة، كما أنه سنوات شبابه الذي يحاول فيها معرفة ذاته، هل سيمكث أم سيغادر؟ هل سيكمل كتابة الشعر أم سيقضي حياته عاملًا في منجم أو مصنع؟ ثمة شيء غامض حول تلك السردية، شيء محزن ومقلق يوضّح أن الأمور دائمًا لا تسير كما نرغب، وأن أحلامنا ستبقى مجرد أحلام، ثم ستتحول إلى ذكريات وحكايا، آلية صنع اللبن تخلق حدودًا وروتينًا يثقلان من وطأة الحكاية.
ثم يصنع المخرج جزءه الثالث “عسل”، والأمر بالنسبة إلى العسل مختلف قليلًا، أو كما يقول الكاتب ويليام لونجود: “تدجَّن النحلة لكن لا يمكن ترويضها”، فطبيعة الخالق تؤثر بشكل جوهري على المخلوق، إذًا جمع العسل -مهنة الأب- يحتاج الكثير من الشجاعة، ليس آمنًا مثل جمع البيض من العش أو حلب الأبقار، إنه مخاطرة أودت بحياة صاحبها.
والعسل مكون مناسب للإمساك بسنوات الطفولة، الدهشة الأولية والخيبة البكرية، إلى جانب كونه يلتصق بالطبيعة كمكان، فيخلق رابطة مقدسة بين الطفل والطبيعة الأم، ما يجعل تيمة الحنين للوطن موجودة بقوة في الثلاثية، العسل مرادف للموت في أفلام أوغلو، والموت هنا لا يحضر بطبيعته الكابوسية، إنما بقدرته على تشكيل وعي الطفل، إلى جانب ذلك من الواضح أن قبلان أوغلو كان متأثرًا بفيلم “روح خلية النحل (The Spirit of the Beehive)” للمخرج الرائع فيكتور إريثيه، وهذا ليس تشابهًا رديئًا، إنما تماثلًا في الروح يرفع من جودة الفيلم.
يستخدم أوغلو اللقطات الطويلة والكاميرا الثابتة، يموضع الكاميرا في أكثر الأماكن حساسية، ولا يحركها إلا ببطء ونعومة، يقتنص روح الزمن ويفجّر قوة الطبيعة، كأنه يصنع بورتريهات بالكاميرا بلقطاته الواسعة التي تحفّز شعورًا مأساويًّا بالضياع، يجمّد الصورة لنقترب أكثر ونراقب ماهية الأشياء الصغيرة، من هو ذلك الشخص وكيف جاء إلى هنا؟ إنه لا يخلق التتابع التقليدي، لكنه يكثف الشعور داخل اللقطة، فتخلق كل لقطة تتابعًا مستقلًّا بذاته.
وشيء مثل هذا لا يفعله إلا أساتذة السينما الشاعرية، تساي مينغ ليانغ وإدوارد يانغ وتاركوفسكي، وغيرهم من الذين استخدموا الكاميرا الثابتة بحرفة وحساسية، ووظفوها داخل أفلامهم ليخلقوا تتابعية بصرية مجدية على المستوى العاطفية، والحقيقة أن كاميرا أوغلو يمكن أن تملأ صفحات بل كتبًا كاملة لدراستها وتحديد مواطن قوتها الجمالية، فهي أشبه بذاكرة بديلة للمشاهد، سحر يجذبنا جميعًا لنتوحّد ونرى نفسنا “يوسف”.