ترجمة: نون بوست
توفيت والدتي فجأة وأنا في عمر المراهقة، ودُفنت بجوار أجدادها في ضريح تاريخي بمدينة الموتى بالقاهرة، تُعد المدينة أقدم مقبرة إسلامية ما زالت مستخدمة حتى الآن في العالم، ويعود تاريخها إلى القرن السابع الميلادي.
اختار أجدادي أن يُدفنوا في هذا المكان ليجاوروا الإمام الشافعي – أحد رجال الدين المقدسين من القرن التاسع الميلادي – الذي يرقد في أحد الأضرحة المهيبة بالمدينة.
تمتلك عائلتي 5 أضرحة في المدينة، أقدمها يعود إلى عام 1790، من الخارج تبدو الأضرحة مثل منازل القاهرة في العصور الوسطى ذات الأفنية الفسيحة، ومن الداخل تضم حدائق وشواهد رخامية وغرف مزخرفة مُعلق بها ثريات مغبرة، حيث اعتاد الحزانى السهر طوال الليل هناك في الإجازات وليالي الأعياد.
اندثرت عادة السهر بين الموتى على الأغلب، لكن العديد من تلك الغرف ما زالت تسكنها بعض العائلات، حيث يعيش ما يقرب من نصف مليون من فقراء مصر بين المقابر، عاش في تلك المدينة حانوتية وخطاطون وبائعو زهور وبناءون ومُعدِّدات (سيدات تحترفن البكاء على الموتى وسرد مناقبهم) لأجيال عدة، لقد كانت المدينة للأحياء أيضًا.
اعتدت أن أزور قبر والدتي بانتظام لمدة 22 عامًا، وهناك تعرفت على العائلات التي تعيش هناك وترعى مقابرنا، وهناك رأيت الناس يعلقون ملابسهم وسط المقابر لتجف في الهواء الطلق.
هذه الزيارات وأعمال رعاية الموتى ساعدتني في إيجاد معنى وسط خسارة لا معنى لها، هناك زرعنا نبات الجهنمية وبنينا مظلات تمنح الظل للفناء حيث نصلي وندعو الله، في تلك الزيارات أصبحت مهتمًا بتاريخ عائلتي وتاريخ مصر.
ولأن أمن الدولة يمنع الوصول إلى الأرشيف القومي – فهي لا تريد الاعتراف سوى بالرواية الوطنية – جعلت من المقبرة أرشيفي الخاص، فمدينة الموتى لا تضم ذكرياتي الخاصة فقط، بل إنها واحدة من آخر الأماكن المفتوحة لذاكرة مصر التاريخية.
الآن تُنبش جثث الموتى ويُهجّر الأحياء وتُجرف المباني التاريخية التي ضمت كليهما، إن مدينة الموتى تُمحى لإفساح المجال لطريق سريع يُسمى ممر الفردوس، وهو عبارة عن سلسلة من الجسور التي تدعي الحكومة أنها ستخفف من وطأة الزحام في القاهرة.
هذا المشروع الذي بدأ منذ 2019 يبلغ ذروته الآن، وهذا الطريق السريع سيربط المدينة بالعاصمة الإدارية الجديدة التي بناها الرئيس عبد الفتاح السيسي بتكلفة تصل إلى ما يقرب من 59 مليار دولار.
كل هذا جزء من خطة السيسي لتطوير القاهرة؛ وهي سلسلة مشروعات تضمن إزالة عدد من الأحياء وتهجير مئات الآلاف من السكان وهدم مبانٍ يصل عمرها إلى قرون بهدف التنمية، إن غضبي من تلك الحملة العنيفة لمحو التاريخ لا يرجع إلى ارتباط رومانسي بالماضي أو احتمالية فقداني لقبر أمي، بل لأن هذا الهدم جزء من خطة أكبر لها تداعيات مروعة على الديمقراطية والديمغرافية كذلك.
خلال العقد الماضي، أصبحت سلسلة عمليات النزوح الجماعي غير الشعبية خطيرة لندرك أن رؤية الجنرالات للتنمية ونسخة التاريخ التي فرضتها الدولة تهدف إلى حرمان العائلات من منازلهم.
منذ عام 2017، تحاول حكومة السيسي تهجير نحو 200 ألف مواطن من جزيرة الوراق – بعض هذه العائلات تعيش في الجزيرة وسط النيل منذ مئات السنين – لإفساح المجال لبناء ناطحات سحاب فخمة، وزعم المسؤولون أن السكان سكنوا الجزيرة بوضع اليد رغم أن الكثير من العائلات تملك وثائق قانونية تثبت حقهم في البقاء بجزيرة أجدادهم.
بالمثل، وفي 2018 طُردت بالقوة أكثر من 4 آلاف عائلة من منطقة مساحتها 86 فدانًا وسط القاهرة، حيث سويّت المنطقة بالأرض لأغراض تجارية لصالح شركة معمار عالمية.
وبدعوى حماية السكان من المنازل غير الآمنة، أدت عمليات الإخلاء والهدم إلى إزالة مساحة شاسعة من المباني التاريخية في القاهرة التي تعود إلى القرن الـ19، وبناء عقارات باهظة الثمن.
تعبر الدولة عن الرؤية الاستبدادية العنيدة للجنرالات باستدعاء ثقافة قديمة كان الملوك فيها آلهة
بالنسبة لي، فالرابطة بين التاريخ وبيئة المباني في القاهرة لا يمكن أن تنفصم، لقد تعلمت من الأضرحة المزخرفة في مدينة الموتى بالقاهرة في أثناء مراهقتي عن تجارب مصر الفاشلة وقصيرة المدى مع الديمقراطية.
وسط مقابر عائلتي، دُفن أحد أجدادي الذي انتُخب لحكم مصر في عهد نابليون عام 1790 وهناك آخر ساعد مصر على نيل استقلالها من الاستعمار البريطاني عام 1922، وفي الجوار أحد من أشرفوا على كتابة دستور 1923 الذي أسس الديمقراطية في البلاد لأول مرة.
أما جد والدتي – الذي أحبته كثيرًا وأرادت أن تُدفن بجواره – فكان أحد أفراد مجلس الوصاية المكون من 3 رجال عام 1952 وأشرف على تحول مصر من الملكية إلى الجمهورية.
إن السيسي لا يبالي بتاريخ مصر الحديث، ومستاء منه أيضًا، فالتاريخ الذي تعلمته من مدينة الموتى يقف في وجه الماضي الفرعوني، في عام 2021 قدم السيسي عرضًا عسكريًا للممياوات الملكية لحشد الدعم للحرب المحتملة ضد إثيوبيا.
أما النخبة العسكرية الحاكمة فتمحو أي أثر للربيع العربي من ميدان التحرير وذلك بوضع نصب تذكارية عسكرية ومسلات منهوبة من مواقع تاريخية قديمة، ومؤخرًا أعلنت بلدية القاهرة أنها تنوي إعادة تسمية جزيرة الوراق على اسم الإله المصري القديم “حورس”.
ربما يستلهم السيسي من الفراعنة، لكن حكمه أشبه بفترة أقل روعة في تاريخ مصر الحديثة، فمشاريعه الضخمة مثل العاصمة الإدارية الجديدة تشبه مشاريع الحاكم العثماني إسماعيل باشا من القرن الـ19 الذي انخرط في أعمال بناء واسعة النطاق واقترض أموالًا كثيرة من الدائنين الأجانب فتعرض للعزل بعد انتفاضة شعبية.
بالنسبة للسيسي، يجب محو القرنين الـ19 والـ20 المرتبطين بالسياسات الثورية والمعركة من أجل الديمقراطية ومقاومة جهود التحديث، وبدلًا من ذلك تعبر الدولة عن الرؤية الاستبدادية العنيدة للجنرالات باستدعاء ثقافة قديمة كان الملوك فيها آلهة.
ورغم العنف الذي يواجهه النشطاء في مصر باستمرار (قدّرت إحدى جماعات حقوق الإنسان المصرية وجود 65 ألف معتقل سياسي ومقتل ألف معتقل على الأقل في أثناء احتجازهم في عهد السيسي)، فهناك غضب شديد ومقاومة بطولية ضد هدم مدينة الموتى.
تحدى عدد من طلاب الفنون الأوامر العسكرية وخرجوا في مسيرة إلى المنطقة لتوثيق عمليات الهدم الوشيكة وتعرض عدد منهم إلى الاعتقال، كما استقال 5 من أعضاء المجلس المكلف بفحص الدمار رغم الضغوطات الحكومية لبقائهم.
ضاعف من غضب القاهريين صمت المنظمات الدولية، فمدينة الموتى جزء من القاهرة التاريخية وهي موقع تراث عالمي، لذا فهي خاضعة للحماية القانونية التابعة للأمم المتحدة التي وقعت عليها مصر.
شعر النشطاء بأنه يجب على اليونسكو على الأقل أن تطلق أجراس الإنذار بسبب تلك الأضرار التي يتعذر إصلاحها، وقد أطلق خالد العناني – وزير مصر السابق للسياحة والآثار الذي أشرف على عدة عمليات هدم – حملة للترشح كمدير عام لليونسكو العام القادم، إن هدم مدينة الموتى نقطة سوداء في سجل العناني ويجب أن يُحرم من المشاركة بسببه.
إن هذه الاعتداءات المصرية على التاريخ ومنازل المواطنين تمثل خطرًا على قوى أجنبية مثل الولايات المتحدة التي تعتمد على مصر لضمان الاستقرار الإقليمي، هذه الإجلاءات الجماعية ستزعزع تلك الدولة التي تقف على شفا الإفلاس.
هذا الاضطراب سيزداد مع مشاريع السيسي العملاقة، فالعاصمة الإدارية الجديدة تتطلب نقل كمية هائلة من المياه إلى الصحراء، كما أن صبّ الخرسانة في حدائق مدينة الموتى يهدد آخر المساحات الخضراء الباقية في القاهرة.
ولأن هدم قبر والدتي يبدو وشيكًا، فإنني أواجه خيارًا صعبًا، فإما أن أنقل جثمانها وشواهد القبور الرخامية لأجدادي إلى موقع جديد على أطراف القاهرة، وبذلك أنفذ قرارات الحكومة بشكل استباقي، أو أصرّ على عدم نقلها وأخاطر بسحق الجرافات لجثمانها.
هذا الموقف الصعب الذي أواجهه وتواجهه مئات العائلات الأخرى، يرمز إلى تجرد غير مسبوق من الإنسانية يعاني منه المصريون تحت الحكم العسكري، ونظرًا للثمن القاتل الذي دفعه الكثيرون عند الحديث علانية ضد سياسات السيسي، فإن عاصمته الجديدة الجذابة – إذا بُنيت – ستكون مدينة الموتى القادمة لأنها بُنيت على أنقاض الجثث المنبوشة والذين قتلهم النظام.
المصدر: نيويورك تايمز