يزدحم الكرملين في روسيا هذه الأيام لتصبح روسيا مقصد الدول والزعماء لحل القضية السورية ومناقشة ملفات المنطقة، ففي أروقته ترسم خريطة النفوذ على سوريا، وكيف ستكون خارطتها في المستقبل القريب. إذ زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان روسيا في الأمس، وكان قد سبقه إلى هناك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وتنتظر موسكو بعد أيام زيارة للرئيس الإيراني روحاني، فضلا عن ذلك يسعى ترامب لتسليم ملف المنطقة وسوريا لروسيا في مشهد يؤكد أن كل الطرق تؤدي إلى موسكو، وليست إلى واشنطن كما كان في السابق.
أردوغان: لا لتقسيم سوريا أو العراق
توقيت الزيارة كان حاسمًا للضغط على روسيا باتجاه تمكين درع الفرات من دخول مدينة منبج التي أدخلت الولايات المتحدة إليها قوات “للردع والطمأنة” وثني درع الفرات عن دخول المدينة، في الوقت الذي تتواجد روسيا أيضًا في المدينة وتدعم الوحدات الكردية هناك، وهو ما تحاول تركيا انتزاعه من خلال عرض أوراقها الاستراتيجية لصالح إعادة اصطفاف روسيا إلى جانبها في دخول منبج وطرد الميليشيات الكردية منها والمشاركة في معركة الرقة ضد داعش.
حضر الملف السوري بقوة في اجتماعات الزعيمين التركي والروسي أثناء زيارة الرئيس أردوغان إلى موسكو أمس الجمعة، في لقاء يعد الرابع لهما منذ بدء تطبيع العلاقات بين البلدين على خلفية اعتذار تركيا عن واقعة إسقاط طائرة السوخوي على الحدود السورية التركية، حيث أكد أردوغان في الزيارة أن موسكو وأنقرة تمكنتا من تجاوز جميع الاستفزازات والمشاكل الناجمة عن إسقاط الطائرة الروسية مشددًا على أن البلدين أكملا عملية تطبيع العلاقات.
توقيت الزيارة التركية إلى موسكو كان حاسمًا للضغط على روسيا باتجاه تمكين درع الفرات من دخول مدينة منبج
الأمر الواضح لدى أنقرة وموسكو أنه من خلال التعاون والتنسيق سياسيًا وعسكريًا في سوريا خلال الفترة الماضية جعل منهما أبرز الفاعلين الدوليين والإقليميين في الملف السوري، فبفضل روسيا وتركيا تم التوصل إلى نظام لوقف إطلاق النار بين الفرقاء في سوريا وتم أيضًا إطلاق المفاوضات في أستانة كما قال بوتين وتابع أن “موسكو تشعر بتفاؤل حذر إزاء فرص التوصل إلى اتفاق سلام في سوريا”.
لم تتخلى تركيا عن مبادئها في زيارتها إلى روسيا إزاء الملف السوري الشائك فيما يخص إمكانية إقامة كيان كردي على حدودها في شمال سوريا ومشاركة قوات سوريا الديمقراطية في معركة الرقة، حيث جدد أردوغان تمسك بلاده بوحدة سوريا والعراق ذاكرًا إن تركيا لا تتحمل تقسيم البلدين.
حرص بوتين على التأكيد أن الزيارة كانت “مثمرة ومفيدة ومفصلة” وأن روسيا وتركيا “عادتا إلى سبيل الشراكة الحقيقية”، وشدد بوتين على عزم بلاده على استمرار الدفع بحوار سياسي مكثف بين البلدين وتطويره، وأشار بوتين إلى الاتفاق بين أنقرة وموسكو على مواصلة التعاون النشيط لمحاربة الإرهابيين وخصوصًا تنظيم داعش من خلال القيام بعمل مشترك عبر القنوات العكسرية والاستخباراتية، مع ضرورة توحيد جهود المجتمع الدولي لمكافحة الإرهاب.
أما أردوغان فقد أكد في المؤتمر الصحفي الذي جمع الرئيسين، أنه “لن تنتازل عن وحدة الأراضي السورية والعراقية وسعينا مع روسيا من أجل الهدنة ووقف إطلاق النار في سوريا”، وحرص على التأكيد على أهمية الاستمرار بتنسيق الجهود مع روسيا من أجل التوصل لحل في سوريا قائم على العدل.
التعاون والتنسيق سياسيًا وعسكريًا في سوريا خلال الفترة الماضية جعل أنقرة وموسكو أبرز الفاعلين الدوليين والإقليميين في الملف السوري
وبالرغم من الانطباع الجيد الذي حملته الزيارة إلا أن التباين في المواقف لا يزال واضحًا حول الموقف من قوات سوريا الديمقراطية الذي لا تعتبره موسكو وواشنطن منظمة إرهابية، كما تفعل أنقرة ومن ثم مشاركته في المعارك ضد داعش، حيث قال أردوغان “لا يمكن القضاء على تنظيم داعش الإرهابي من قبل تنظيم إرهابي آخر”، الذي تعتبره أنقرة تنظيمًا إرهابيًا لا تقل أهمية قتاله عن قتال داعش.
وفي الوقت الذي تحاول تركيا إقناع روسيا في التخلي عن دعم قوات سوريا الديمقراطية كان هناك رتل روسي يضم 15 آلية موزعة بين مدرعة ومصفحة وناقلة جند يدخل إلى منبج ويرفع الأعلام الروسية وفيه مقاتلي وحدات حملة الشعب الكردية، ويُذكر أن منبج تزدحم بالأعلام الروسية والأمريكية وعلم النظام السوري إلى جانب العلم الأصفر الخاص بميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية.
فيما تحاول تركيا من خلال فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية معها الضغط على جبهة ريف حلب الغربي وفتح معركة مع قوات النظام السوري كمحاولة تركية للضغط على روسيا لتمكين درع الفرات من دخول منبج.
مصفحات تابعة لوحدات حماية الشعب الكردية في مدينة منبج
ومع قرب إطلاق معركة الرقة لطرد داعش منها لا تزال الخلافات الإقليمية والدولية تطفو على السطح حول من سيشارك في المعركة، فضلا عن الخلافات الدولية في السيطرة على منبج، وقد دعا نائب رئيس الوزراء التركي، نعمان كورتولموش الولايات المتحدة وروسيا، للاختيار بين تركيا وحزب “الاتحاد الديمقراطي”، مشيرًا “على الولايات المتحدة وروسيا أن تقررا، هل ستفضلان 3 إلى 5 آلاف مسلح من تنظيم الاتحاد الديمقراطي، على الدولة التركية ذات الـ80 مليون نسمة، وتتمتع بالاستقرار وتمتلك أكبر جيش في المنطقة؟” كما دعا كورتولموش التحالف الدولي للحذر من تغيير التركيبة الديموغرافية للمدن، خلال العمليات العسكرية التي ستنفذها في سوريا بشكل خاص.
أصبحت مدينة منبج تزدحم بالأعلام الروسية والأمريكية وعلم النظام السوري إلى جانب العلم الأصفر الخاص بميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية
ويُذكر أن الزيارة التركية إلى موسكو حملت بعدًا اقتصاديًا هامًا لكلا البلدين على طريق تعزيز التبادل التجاري بين البلدين إلى أن يصل إلى 100 مليار دولار سنويًا، وقد وقع كلا الطرفين مذكرة مشتركة لتأسيس صندوق استثماري بقيمة مليار دولار مناصفة بين البلدين، كما أعلن بوتين أن موسكو سترفع قريبًا الحظر المفروض على منح تأشيرات الدخول وإقامات العمل للمواطنين الأتراك، وشدد بوتين على أهمية عودة السياح الروس إلى تركيا، كما وقع الجانبين اتفاقيات تفاهم شملت التعاون في المجال السياسي والاقتصادي والتقني والثقافي والعلمي.
نتنياهو وروحاني في موسكو أيضًا
زيارة الرئيس التركي سبقتها زيارة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وستعقبها زيارة للرئيس الإيراني روحاني، وهو ما بات واضحًا أن موسكو تعمل في التنسيق بين مختلف القوى الإقليمية التي لها علاقة في الأزمة السورية.
ففي الوقت الذي ترعى موسكو وأنقرة وقف إطلاق النار في سوريا وتدعمان الشق السياسي بموازاة ذلك في جنيف، تخشى إسرائيل من تغول إيران في سوريا وسياساتها المتبعة هناك من خلال وكيلها حزب الله، الذي يزعج “إسرائيل” ويسعى للضغط على روسيا لانسحابه من سوريا.
تخشى إسرائيل من تغول إيران في سوريا وسياساتها المتبعة هناك من خلال وكيلها حزب الله
فمثلما ترى أنقرة أن قيام دولة كردية على حدودها خطر يهدد أمنها القومي فإن “إسرائيل” ترفض تدخل إيران في سوريا وتغول حزب الله فيها، وهو ما حاول نتنياهو إيصاله في زيارته إلى موسكو يوم الأربعاء الماضي 8 مارس/آذار والتي تعد الثالثة له خلال عام، علمًا أن نتياهو لا يمكنه فرض أي شيء على بوتين كما يرى مراقبون، وأكد ذلك أيضًا في زيارته الماضية إلى واشطن التي التقى فيها لأول مرة بالرئيس ترامب.
إلى ذلك فإنه من المتوقع أن يزور موسكو الرئيس الإيراني روحاني خلال الأيام المقبلة حيث سيتم توقيع العديد من الاتفاقيات أهمها المتعلقة بنظام التأشيرات بين البلدين، كما أن الملف السوري أيضًا سيحتل حيزًأ مهمًا في جدول أعمال الزيارة، وتوصف العلاقة بين البلدين بأنها في أوجها، حيث يشمل التعاون المشترك بين البلدين كافة المسائل السياسية والاقتصادية وفي ملفات المنطقة.
ومن المستبعد أن تقوم روسيا بقطع علاقاتها مع إيران والضغط عليها لإخراج قواتها وحزب الله من سوريا لصالح “إسرائيل” أو تركيا، فهناك مصالح مشتركة ومنفعة متبادلة بين روسيا وإيران على الصعيد السياسي والاقتصادي، فروسيا لا تريد ولن تسعى برأي مراقبين أن تفقد شريكتها إيران في سوريا في الوقت الذي تسعى للحفاظ على التحالف الثلاثي “الهش” بين كل من إيران وروسيا وتركيا، وهذا التحالف في حال انهياره فإن روسيا ستخسر الكثير في سوريا.