ترجمة وتحرير: نون بوست
إن سعي الولايات المتحدة للتغلب على الصين من خلال ممر العبور الجديد “الممر بين الهند والشرق الأوسط” يترك القوى الإقليمية تتنافس من أجل النفوذ. ولكن هل سيتم استخدامه فعلًا؟
كان وزير النقل الإسرائيلي السابق، يسرائيل كاتس، مليئًا بالأمل والتفاؤل عندما كشف عن خطته الطموحة لربط الدولة الواقعة في شرق البحر الأبيض المتوسط بالشرق الأوسط الكبير.
وقال كاتس للصحفيين في سنة 2017: “أريد إحياء خط سكة حديد الحجاز”، مستشهدًا بخط السكك الحديدية الذي بنته الإمبراطورية العثمانية منذ قرن من الزمان والذي يربط مدينة حيفا الساحلية الفلسطينية بدمشق وعمَّان والمدينة المنورة؛ حيث قال حينها: “هذا ليس حلمًا”.
وبعد مرور 6 سنوات، تم طرح هذه الخطط مرة أخرى، وإن كان على نطاق أوسع هذه المرة؛ ففي قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، قالت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إنهما يؤيدان خطة لبناء ممر اقتصادي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا.
ويهدف خط النقل، الذي يطلق عليه اسم الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، إلى إنشاء خطوط شحن جديدة بين الهند والإمارات العربية المتحدة ونظام سكك حديدية للشحن يمر عبر الإمارات والمملكة العربية السعودية والأردن و”إسرائيل”، ومن هناك يمكن شحن البضائع إلى أوروبا.
ووصفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين المشروع بأنه “ليس أقل من تاريخي”، مضيفة أنه سيخفض وقت العبور بين الهند وأوروبا بنسبة 40 بالمئة.
وأضافت: “سيكون هذا الرابط المباشر الأكبر حتى الآن بين الهند والخليج العربي وأوروبا”.
وذهب وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح إلى أبعد من ذلك، واصفًا الممر، الذي يقال إنه سيشمل كابلات الكهرباء وخطوط أنابيب الهيدروجين النظيف، بأنه “يعادل طريق الحرير وطريق التوابل”.
وفي حين أن منطقة الشرق الأوسط ليست غريبة على الإعلان عن مشاريع البنية التحتية الضخمة، فإن العديد منها يفشل عادة عندما تصطدم بالواقع الاقتصادي والجيوسياسي.
لذا فإن تعليقات كاتس، الذي عاد الآن كوزير للمواصلات في حكومة بنيامين نتنياهو، تؤكد كيف أن بعض هذه الخطط تدور حول المنطقة لسنوات دون أن تتحقق.
فالمشروع – الذي تم طرحه على مدى عقود – ويسعى لمد 2117 كيلومترًا من خطوط السكك الحديدية التي تربط الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي لم يتحقق بالكامل على الإطلاق، لكن البعض يقول إن “الممر” سيكون مختلفًا.
وفي حين أن ممر العبور ربما كان أشبه بحلم بعيد المنال قبل عقد من الزمن فقط، فإن تتويجًا لاتفاقيات أبراهام – جنبًا إلى جنب مع تحولات إعادة التشكيل السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث اكتسب لاعبون جدد مثل الصين والهند بسرعة مستويات جديدة من القدرة على الحركة والتنقل والنفوذ – خلق مخاطر كبيرة لنجاح مثل هذا المشروع.
وقال جيس ماركس، وهو زميل غير مقيم في العلاقات بين الصين والشرق الأوسط في مركز ستيمسون للأبحاث ومستشار سابق في مكتب وزير الدفاع، لموقع ميدل إيست آي: “بالنسبة للولايات المتحدة، يهدف “الممر” إلى التحقق من علاقات الصين العميقة مع المنطقة”، مضيفًا أن البيت الأبيض يستيقظ على حقيقة أن الصين متورطة بالكامل في الشرق الأوسط، وهذا هو الرد من إدارة بايدن.
وبينما تتطلع واشنطن إلى طمأنة شركائها العرب التقليديين بشأن قدرتها على البقاء بينما يستعدون لمواجهة بكين، فإن الجهات الفاعلة الأخرى في هذه المجموعة الضخمة تجلب طموحاتها ومخاوفها الخاصة، وتتوجّس من هذا المشروع.
تعمل دول الخليج الغنية بالطاقة على إعادة تشكيل اقتصاداتها المعتمدة على الوقود الأحفوري. ومن ناحية أخرى؛ يأتي نفوذ الصين المتنامي في وقت تتطلع فيه الهند، وهي واحدة من أقرب حلفاء “إسرائيل”، إلى فرض نفسها على الساحة العالمية، باعتبارها قوة اقتصادية ومركزًا للجنوب العالمي.
مبادرة الحزام والطريق 2.0
وصف بعض المحللين “الممر” بأنه بديل تدعمه الولايات المتحدة لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
وقد وقعت 17 دولة في الشرق الأوسط و52 دولة في أفريقيا على مبادرة الحزام والطريق، وهو مشروع ضخم للبنية التحتية يسعى إلى ربط الصين ببقية العالم من خلال سلسلة من الشبكات البرية والبحرية والرقمية.
ومنذ الكشف عنها لأول مرة في سنة 2013؛ ساعدت مبادرة “الحزام والطريق” في تمويل طفرة في البنية التحتية الأفريقية، مما سمح للدول المتعطشة للائتمان ببناء مشاريع الطاقة الكهرومائية والمطارات والطرق والسكك الحديدية. لكن المبادرة تعرضت أيضًا لانتقادات بسبب اعتمادها الكبير على العمالة الصينية وإيقاعها في شرك الدول النامية بمستويات ديون مرتفعة للغاية، ويقول البعض إن هذا سمح لبكين بالاستيلاء على الأصول الإستراتيجية للدول الفقيرة.
وفي الشهر الماضي، انتقد الرئيس الأمريكي جو بايدن مشروع البنية التحتية الرئيسي في بكين ووصفه بأنه فخ “مشنقة وديون”.
وتواجه مبادرة الحزام والطريق أيضًا تحديات خطيرة؛ فقد انخفضت استثمارات الصين الخارجية خلال فترة وباء كوفيد 19، واستمرت المشاكل الاقتصادية المحلية في البلاد في إعاقتها. ومن حيث الإنفاق، بلغ نشاط مبادرة الحزام والطريق ذروته تقريبًا في سنة 2017، وهو يتقلص منذ ذلك الحين.
ونأت العديد من الدول الأوروبية بنفسها عن مبادرة الحزام والطريق، حيث أشارت التقارير إلى أن إيطاليا تبحث عن مخرج. وفي الوقت نفسه، في الشرق الأوسط، لم تتحقق التوقعات بأن مبادرة الحزام والطريق قادرة على إحياء الآفاق الاقتصادية لدول المشرق مثل لبنان وسوريا والأردن.
لكن كان هناك تفاوت في مدى الاستجابة والبناء والاستثمار في هذه المبادرة؛ حيث تكتسب مبادرة الحزام والطريق زخمًا في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، وذلك وفقًا لمعهد الحزام والطريق والحوكمة العالمية بجامعة فودان، خاصة وأن الصين تتطلع إلى الاستيلاء على المعادن الاستراتيجية، كما ضاعفت بكين استثماراتها وأعمال البناء في دول الشرق الأوسط الغنية بالطاقة.
ويقول ماركس: “هذا هو مبادرة الحزام والطريق 2.0″، مضيفًا: “إن نموذج دبلوماسية فخ الديون الذي يحب الجميع الحديث عنه ليس له صلة بمنطقة الخليج. وقد ركزت الصين صفقاتها على البلدان التي يمكنها فيها بالفعل الحصول على عائد على أموالها، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والعراق“.
احتلت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة المرتبتين الأولى والثالثة من حيث حجم البناء لمشاريع مبادرة الحزام والطريق في النصف الأول من سنة 2023، حيث حققتا 3.8 مليارات دولار و1.2 مليار دولار على التوالي، وساهمت تنزانيا بحوالي 2.8 مليار دولار.
رد إستراتيجي
على مدى العقد الماضي؛ برزت الصين كأكبر عميل لنفط دول الخليج، وتحولت تجارة الطاقة المزدهرة إلى علاقة اقتصادية أكثر نضجًا.
وكانت المملكة العربية السعودية، صاحبة أكبر اقتصاد في المنطقة، في طليعة هذا التحول؛ ففي حزيران/يونيو الماضي، وقّعت شركة “باوشان للحديد والصلب” الصينية اتفاقية بقيمة 4 مليارات دولار لبناء مصنع للصلب في السعودية، وهو جزء صغير من الصفقات البالغة قيمتها 50 مليار دولار التي التزم بها البلدان خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض في كانون الأول/ديسمبر 2022.
وكان موقع “ميدل إيست آي” قد ذكر سابقًا أن رجال الأعمال الصينيين يتدفقون على المملكة الغنية بالنفط، متجاهلين مخاوف حقوق الإنسان والشكوك الغربية حول جدوى المشاريع الضخمة مثل مشروع نيوم.
في بعض مجالات التعاون المقترحة، هناك مشاريع قيد التنفيذ بالفعل ويبدو أنها توقعت مخطط “الممر”؛ فخلال هذا الأسبوع، تم الإعلان عن محطة هبوط في الإمارات لكابل ألياف ضوئية، كمقترح يهدف في النهاية إلى ربط الهند بأوروبا والذي سيمر عبر السعودية و”إسرائيل”.
ومن بين داعمي هذا المشروع صندوق استثمار إسرائيلي كبير، وتشمل المنظمات المشاركة شركات اتصالات في السعودية والإمارات وهيئة الربط الكهربائي لدول مجلس التعاون الخليجي، وهي شركة خاصة مملوكة بشكل مشترك لدول مجلس التعاون الخليجي الست.
ومع نمو العلاقات الاقتصادية، تشق الصين طريقها إلى مجالات أكثر حساسية، مما يثير أجراس الإنذار في واشنطن.
كما أفرط الحكام المستبدون في جميع أنحاء الخليج في استخدام التكنولوجيا الصينية، مثل شبكة الجيل الخامس من هواوي؛ وتقول بكين إنها تريد شراء النفط والغاز من الخليج باليوان، وهي خطوة قد تقوض هيمنة الدولار على التجارة العالمية.
وفي الوقت نفسه؛ أفادت تقارير أن الرياض تدرس عرضًا صينيًا لبناء محطة للطاقة النووية. وتعتقد الولايات المتحدة أن الصين تقوم ببناء منشأة عسكرية بجوار المملكة العربية السعودية، في ميناء بالقرب من أبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة.
وجاء أكبر إنجاز دبلوماسي للصين في آذار/مارس الماضي، عندما توسطت في اتفاق بين السعودية وإيران لتطبيع العلاقات. وبحسب ما ورد قال مدير وكالة المخابرات المركزية بيل بيرنز لولي العهد الأمير محمد بن سلمان إن الولايات المتحدة “صُدمت” من هذا التقارب.
لذلك؛، في حين يتم وصف “الممر” بانتظام على أنه رد على مبادرة الحزام والطريق، يرى ديفيد ساترفيلد، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الذي يعمل في الشرق الأوسط، أن الممر يسعى إلى تقديم أكثر من مجرد بديل اقتصادي للصين.
وقال ساترفيلد، مدير معهد بيكر للسياسة العامة بجامعة رايس، لموقع ميدل إيست آي: “لدى الصين هدف إستراتيجي يتمثل في قلب النظام العالمي القائم على الولايات المتحدة. وتحاول إدارة بايدن التوصل إلى رد استراتيجي لمواجهة ذلك”، موضحًا: “الحل أدخل الهند في اللعبة”.
العلاقات مع الهند ما وراء النفط
وفي حين سعت واشنطن إلى طمأنة شركائها العرب التقليديين بشأن قدرتها على البقاء بينما يستعدون لمواجهة بكين، فإن كيانات أخرى – تضم المملكة العربية السعودية و”إسرائيل” والإمارات العربية المتحدة والهند – جلبت أهدافها الخاصة إلى “الممر”.
لقد كان القادة في عواصم الخليج يرسمون مسارًا مستقلاً عن الولايات المتحدة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والاقتصادية.
ودُعيت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للانضمام إلى البريكس، وهو نادي الدول الناشئة الذي يضم روسيا والصين خصمي الولايات المتحدة، ولكن أيضًا الهند.
وبينما تتقرب دول الخليج من بكين، فإنها تعمل أيضًا على بناء علاقات مع منافستها الآسيوية. وتأتي الهند في المركز الثاني بعد الصين كأكبر مشتري لنفطها، وأصبحت للتو أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان.
وكانت دولة الإمارات العربية المتحدة على وجه الخصوص من أكبر المؤيدين لإدراج الهند في “الممر” حسبما قال الخبراء لموقع “ميدل إيست آي”.
وقال بايدن خلال إطلاق مشروع الممر مخاطبًا الرئيس الإماراتي محمد بن زايد آل نهيان: “أريد أن أقول شكرًا، شكرًا، شكرًا.. لا أعتقد أننا سنكون هنا بدونك”.
وفي العام الماضي، وقعت الإمارات والهند اتفاقية تجارة حرة واتفقتا على تسوية التجارة الثنائية بالروبية، والتي بلغت مستوى قياسيا بلغ 84 مليار دولار في آذار/مارس.
وقال ساشين شاتورفيدي، المدير العام لنظام البحوث والمعلومات للدول النامية، إن الممر سيساعد في تسهيل طرق جديدة للتجارة والاستثمار، خاصة في أماكن مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن و”إسرائيل”، التي تربطها مصالح تجارية هندية. تتزايد.
وأضاف شاتورفيدي: “في هذه المرحلة، تبلغ التجارة مع الإمارات 84 مليار دولار والاستثمار 15 مليار دولار. ومع المملكة العربية السعودية، تبلغ واردات الهند 42 مليار دولار وصادراتها 11 مليار دولار؛ ومع الأردن، تبلغ التجارة الهندية 3 مليارات دولار”.
وقد اختارت هيئة أبو ظبي للاستثمار، التي تبلغ قيمتها 850 مليار دولار، ولاية غوجارات الهندية لتكون مكانًا لمكتبها الخارجي الثاني. والآن، تقول وزارة الاستثمار السعودية إنها تريد مكتبًا في الهند أيضًا.
ويقول ساترفيلد إن الممر هو نتيجة لتقارب المصالح بين الولايات المتحدة ودول الخليج بشأن الهند.
وقال لموقع ميدل إيست آي: “تحظى نيودلهي بمستوى غير عادي من الاهتمام في واشنطن بسبب التوترات مع الصين”، مضيفًا: “إحدى أولويات السياسة في الشرق الأوسط هي توسيع العلاقات بين شركاء واشنطن التقليديين في الخليج العربي والهند إلى ما وراء النفط”.
مزيد من التكامل مع الهند
والإمارات والهند جزء من مبادرة “مجموعة آي 2 يو 2″ للتعاون في مجال الطاقة النظيفة والأمن الغذائي، والتي تدعمها الولايات المتحدة وتشمل “إسرائيل”.
واعتبارًا من سنة 2017، أصبحت الهند و”إسرائيل” “شريكين إستراتيجيين”، يتعاونان في التكنولوجيا والبرامج العسكرية والزراعية.
وفي وقت سابق من هذا العام، استحوذت مجموعة “أداني غروب” الهندية على 70 بالمئة من ميناء حيفا في صفقة تم إبرامها لجذب الهند إلى الشرق الأوسط وأوروبا، ومساعدة “إسرائيل” على الاندماج بشكل أعمق في الشرق الأوسط والشرق الأقصى.
وإذا تحقق مشروع الممر فإنه يمكن أن يعزز دور حيفا كمركز تجاري في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهي منطقة إستراتيجية حيث قدمت نيودلهي مبادرات.
وزار رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي اليونان قبيل قمة مجموعة العشرين. وبعد الرحلة، تمت دعوة الهند للانضمام إلى اليونان وقبرص و”إسرائيل” في شراكة تهدف إلى إقامة روابط أوثق في مجال الطاقة.
كل هذا يروق لآذان واشنطن التي تتطلع إلى زيادة روابط الهند مع الغرب وسط التوترات مع الصين.
يقول ساترفيلد إن الممر جزء من رؤية أوسع في واشنطن “لإزالة مخاطر” التصنيع والتجارة بعيدًا عن بكين.
وقال لموقع ميدل إيست آي: “تم تصميم الممر للهند لتكون نقطة إمداد مهمة للغرب، على عكس الصين؛ حيث تمتلك الهند كل المقومات اللازمة لتحقيق ذلك: أكبر عدد من السكان في العالم، وتكاليف العمالة الرخيصة والتكنولوجيا”.
ووصف شاتورفيدي المشروع بأنه مهم بالنسبة للهند، لأنه يوفر وصولاً فعالاً من حيث التكلفة لجميع البلدان الشريكة المشاركة في الممر، وأضاف في تصريحات لموقع “ميدل إيست آي”: “لم تظهر بعد تفاصيل الجزء المالي للعامة، لكنني أعتقد أن المهارات والهندسة والمدخلات الخاصة بالمعرفة ستكون موجودة بالتأكيد”، مشيرًا إلى أن الهند زادت أيضًا من مواردها المالية. الإنفاق الرأسمالي بأكثر من الضعف بين 2020 و2024.
هل يمكن أن تكون مصر أحد الخاسرين؟
خارج نطاق العاصمة واشنطن، هناك آخرون أكثر حذرًا بشأن آفاق الممر؛ حيث قال بيتر فرانكوبان، خبير طرق التجارة العالمية في جامعة أكسفورد،لموقع ميدل إيست آي: “يبدو الممر وكأنه مزيج من الوعود والمثالية والبحث عن سرد”.
وأضاف: “إن الشرق الأوسط يرتبط دائمًا بأوروبا وسيظل دائمًا متصلاً بها؛ لكن فكرة ربط الهند بالبحر الأبيض المتوسط بطرق لا تبدو بالفعل أكثر من دبلوماسية منجزة ببرنامج “باور بوينت” (دبلوماسية مصطنعة) أكثر من أي شيء جديد وجوهري”، على حد وصف فرانكوبان، مؤلف كتاب “طرق الحرير: تاريخ جديد للعالم”.
أسرع طريق بحري اليوم لعبور البضائع بين آسيا وأوروبا هو قناة السويس. ويمر منه حوالي 12% من التجارة العالمية، أو حوالي ثلث إجمالي حركة الحاويات العالمية، عبر الممر المائي الذي يبلغ طوله 118 ميلًا.
وبينما تم إغلاق القناة في 2021 عندما جنحت سفينة حاويات، يقول خبراء اللوجستيات لموقع ميدل إيست آي، إن الممر المائي الذي صنعه الإنسان منذ 150 عامًا ظل صامدًا بشكل جيد على مر السنين.
ويقول البعض إنه إذا دخل الممر حيز التنفيذ فإنه قد يستنزف حركة البضائع عبر قناة السويس، مما يحرم الحكومة المصرية التي تعاني من ضائقة مالية من مصدر رئيسي للإيرادات الأجنبية.
ويراهن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشكل كبير على مشاريع البنية التحتية، وكانت توسعة قناة السويس سنة 2015 محور برنامجه الاقتصادي؛ حيث شهدت القناة زيادة في السفن والحمولة. وفي 2019 سجلت 18483 سفينة، وبحلول نهاية السنة المالية 2023، قفز هذا العدد إلى 25887.
وفي الوقت الذي تعاني فيه من ارتفاع معدلات التضخم ونقص العملة الأجنبية، قامت القاهرة برفع رسوم العبور عبر القناة. وارتفعت الإيرادات بنحو 35 في المئة هذا العام مقارنة بالعام الماضي لتصل إلى 9.4 مليارات دولار وهي نقطة مضيئة نادرة للاقتصاد المصري المحاصر.
وقال ماركس، من مركز ستيمسون، لموقع “ميدل إيست آي”: “إذا تحقق الممر وأصبح طريقاً بديلاً، فقد تخسر مصر من التحول في الممرات التجارية”.
حوالي نصف الحمولة التي تمر عبر قناة السويس تأتي من حركة الحاويات، وتشكل الناقلات التي تنقل النفط الخام والوقود، إلى جانب سفن الغاز الطبيعي المسال، حوالي 30 بالمئة.
الممر ” كخيار آخر”
كما تم اقتراحه، فإن الممر ليس مصممًا لنقل النفط الخام والوقود، وهما الواردات الرئيسية لأوروبا من الخليج، كما يقول الخبراء لموقع ميدل إيست آي.
وقال هوارد شاتز، وهو خبير اقتصادي كبير في مركز أبحاث راند، لموقع ميدل إيست آي: “ستستمر مصر في الحصول على هذه الحركة؛ إن حدسي يخبرني أن الصين لن ترغب في استخدام ممر السكك الحديدية هذا الذي تدعمه الولايات المتحدة”.
يقول شاتز إنه في حين أن إيرادات مصر يمكن أن تتأثر إذا تحقق الممر، فمن غير المرجح أن يكون ذلك بمثابة ناقوس الموت لقناة السويس، والتي ستظل خيارًا رخيصًا وموثوقًا للبضائع السائبة الثقيلة، حتى لو كان الممر أسرع.
وأضاف: “من وجهة نظر لوجستية، تكمن قيمة الممر في خلق المزيد من الاستمرار لسلاسل التوريد العالمية. والطرق الجديدة هي بالتأكيد شيء جيد”.
وتنمو التجارة بين الاتحاد الأوروبي والهند أيضًا، حيث كان الاتحاد ثاني أكبر وجهة للصادرات الهندية في سنة 2021، لكن المنتجات الرئيسية للهند هي الديزل والوقود والملابس والهواتف الذكية.
في الوقت الحالي، يشكك شاتز في أن هذا الممر من شأنه أن يجعل الهند مركزًا أكثر جاذبية للتكنولوجيات الحساسة بعيدًا عن الصين.
وقال شاتز لموقع ميدل إيست آي: “إن الرقائق وأشباه الموصلات هي منتجات عالية القيمة ومنخفضة الوزن. وتميل للنقل جوًّا، وليس بالسكك الحديدية، ولا أرى أن الممر وحده سيقنع الشركات بنقل إنتاجها إلى الهند”.
وقال بيتر ساند، كبير المحللين في شركة زينيتا لبيانات الشحن، إنه إذا أصبح الممر المدعوم من الولايات المتحدة يؤتي ثماره، فسيكون “خيارًا إضافيًا يمكن الاستفادة منه، للبعض، وليس للجميع”.
محمد بن سلمان يعتبرها “صفقة كبيرة”
بعد أسبوع من الإعلان عن مشروع الممر، أثنى ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان على المشروع، في أول مقابلة له مع قناة تلفزيونية أمريكية في 2019.
وقال لشبكة فوكس نيوز: “هذا المشروع سيختصر وقت نقل البضائع من الهند إلى أوروبا بمقدار 3 إلى 6 أيام.. سوف يقلل الوقت ويوفر المال، كما أنه أكثر أمانًا وكفاءة”.
وأضاف: “والأمر لا يتعلق فقط بنقل البضائع وبناء السكك الحديدية والموانئ. إنه يتعلق بربط الشبكات وشبكات الطاقة وكابلات البيانات وغيرها من الأشياء التي ستفيد أوروبا والشرق الأوسط والهند… إنه أمر كبير بالنسبة لنا ولأوروبا والهند”.
وتعرضت العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية للتوتر عندما تعهد بايدن بجعل الأمير منبوذًا فيما يتعلق بحقوق الإنسان، واختلف الجانبان أيضًا بشأن سياسة الطاقة، حيث رفضت الرياض دعوة واشنطن لها لضخ المزيد من النفط لكبح الأسعار المتزايدة.
ولكن في حفل إطلاق مشروع الممر لمجموعة العشرين؛ اختار بايدن هذه المرة مصافحة ولي العهد بطريقة محترمة، عكس ما حدث أثناء زيارته للمملكة العام الماضي.
ويقوم كبار المسؤولين في البيت الأبيض الآن برحلات مكوكية بين الرياض وواشنطن لإقناع السعودية بتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
وقال يوئيل غوزانسكي، خبير شؤون الخليج في معهد دراسات الأمن القومي ومقره تل أبيب، والعضو السابق في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، لموقع “ميدل إيست آي”: “يصل هذا الممر إلى أوروبا عبر المرور من إسرائيل”.
وأضاف أن الممر يسير جنبًا إلى جنب مع التطبيع، ولكن حتى لو لم يحدث ذلك، فإن “إسرائيل” والسعودية لا تزالان مرتبطتين بالسكك الحديدية. وليس هناك الكثير من الاستثمارات الإسرائيلية المطلوبة. بالنسبة لـ “إسرائيل”، فإن الممر هو كل شيء في الاتجاه الصعودي”.
ومع ذلك، هناك شيء واحد مؤكد: التمويل الخليجي سيكون حاسمًا لنجاح الممر.
وقال فرانكوبان، مؤلف كتاب “طرق الحرير” إنه سيندهش إذا مولت أموال الضرائب الأمريكية المشروع، وأضاف: “كما رأينا في السنوات الأخيرة، فإن شعار “أمريكا أولًا” يعني إعادة الوظائف إلى الولايات المتحدة، وليس المساعدة في خلقها في أجزاء أخرى من العالم”.
ولم يقدم الطرفان في مذكرة التفاهم أي التزامات مالية ملزمة، إلا أنهما اتفقا على الاجتماع خلال 60 يومًا للتوصل إلى جدول زمني للمشروع.
لكن البيت الأبيض قال إن السعودية تعهدت بمبلغ 20 مليار دولار لدعم خطة البنية التحتية الجديدة.
وتستثمر دول الخليج بالفعل ثرواتها النفطية في مشاريع البنية التحتية في محاولة لتقليل اعتماد اقتصاداتها على الوقود الأحفوري. وترى الرياض وأبو ظبي مستقبلاً كمراكز لوجستية عالمية تكمل استقلالهما الجديد في عالم متعدد الأقطاب.
وقال وزير الاقتصاد الإماراتي عبد الله بن طوق المري يوم الجمعة إن العالم يتغير، ونحن نعمل على إعادة هندسة وإعادة تصميم سلاسل التوريد.
كعكة محمد بن سلمان
في العام الماضي فقط؛ تعهد المسؤولون في السعودية ببناء 4971 ميلًا من السكك الحديدية الجديدة، ويقول محللون إن واشنطن ربما تراهن على أنها لن تمانع في إضافة مسار إضافي.
وقال روبرت موجيلنيكي، وهو باحث مقيم كبير في معهد دول الخليج العربية، لموقع “ميدل إيست آي”: “إن وجودنا في مركز خط السكك الحديدية المؤدي إلى الهند وأوروبا يضرب الكثير من العصافير بحجر واحد بالنسبة لمحمد بن سلمان ومحمد بن زايد”، في إشارة إلى قادة السعودية والإمارات.
والعديد من مكونات الخطة التي تدعمها الولايات المتحدة موجودة بالفعل؛ حيث كان ميناء جبل علي الإماراتي مركزًا للتوزيع في المنطقة منذ عقود، وترتبط السعودية والإمارات ببعض خطوط السكك الحديدية، ويمتد الخط الشمالي الجنوبي للسعودية حتى الحدود الأردنية.
وقال بريم كومار، المستشار السابق للرئيس أوباما والذي يقود الآن أنشطة الشرق الأوسط لشركة الاستشارات العالمية “أولبرايت ستونبريدج غروب”، لموقع “ميدل إيست آي”: “لن يتم تطوير السكك الحديدية من الصفر”.
لكن توسيع الشبكة في السعودية قد يكون أمرًا صعبًا، لأنها يجب أن تمر عبر تضاريس صحراوية صعبة وعرضة للعواصف الرملية والحرارة الحارقة.
وأظهر ولي العهد السعودي استعداده للمقامرة بثروات المملكة النفطية في مشاريع ضخمة لا تكون عوائدها الاقتصادية مضمونة على الإطلاق، فهو يقوم ببناء مدينة مستقبلية ضخمة بتكلفة 500 مليار دولار على طول ساحل البحر الأحمر ومركز جديد للمدينة في العاصمة الرياض.
وأكد محمد بن سلمان أن 27 بالمئة من التجارة العالمية تمر حول السعودية.
وقال كومار: “في الوقت الحالي، السعودية لا تستفيد من ذلك.. هذه هي فرصة السعوديين للحصول على قطعة من تلك الكعكة”.
وتحاول المملكة منذ أكثر من عقد توسيع شبكة السكك الحديدية الخاصة بها. ويقول المحللون إن المزيد من المسار سيكون حاسمًا إذا كانت جادة في تطوير صناعة التعدين المحلية، وتقول الحكومة إن 1.3 تريليون دولار من المعادن مدفونة داخل ترابها.
وقال رميح الرميح، نائب وزير النقل السعودي، في سنة 2014 عندما كان رئيسًا للسعودية: “ستصبح المعادن الركيزة الثالثة للاقتصاد بعد النفط والبتروكيماويات، ولا توجد طريقة يمكن لصناعة المعادن أن توجد بدون السكك الحديدية”.
الأردن و”إسرائيل”
ميناء حيفا مملوك بالفعل لمجموعة أداني الهندية، ويقدر المسؤولون الإسرائيليون أنهم يحتاجون فقط إلى 200 كيلومتر إضافي من المسار لنقل قطار يغادر السعودية إلى محطته الأخيرة في “إسرائيل” عبر الأردن.
ولم توقع “إسرائيل” ولا الأردن على مذكرة التفاهم الخاصة بالممر.
وقام الأردن بتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” منذ عقود؛ لكن الاتفاقيات مع تل أبيب غالبًا ما تثير ردود فعل عنيفة في الشارع. في سنة 2016، اندلعت الاحتجاجات في الأردن بعد توقيع عمّان صفقة لاستيراد الغاز الإسرائيلي، لكن الصفقة تمت في النهاية.
المصدرون الأردنيون، الذين أخبر العديد منهم موقع “ميدل إيست آي: سرًا أنهم سيستخدمون خطًا للسكك الحديدية إلى حيفا، يرسلون منتجاتهم عبر طريق أطول إلى مدينة العقبة الساحلية الجنوبية لتصديرها إلى الخارج.
لكن وفقًا لكومار، الذي شغل منصب مدير الشؤون الإسرائيلية والفلسطينية والمصرية في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، فإن الملك عبد الله الثاني، الذي يمارس سلطة شبه مطلقة في الأردن، سيكون قادرًا على دفع خط السكة الحديد والتغلب على أي عقبات على غرار رد فعل عنيف في الشارع، مضيفًا: “ستكون هناك حوافز كافية من السعودية لجعل هذا المشروع في مصلحة الأردن”.
وتحاول الحكومة الأردنية التي تعاني من ضائقة مالية إصلاح العلاقات مع الرياض بعد أن كشفت عن مؤامرة مزعومة للإطاحة بالملك عبد الله الثاني يقول البعض إنها كانت مدعومة من ولي العهد السعودي.
ومن شأن الصفقة أن تعزز مكانة عمّان في الولايات المتحدة، التي تعد المانح الرئيسي للمساعدات الخارجية للأردن.
ولكن في ظل شكوك الاقتصاديين والخبراء السياسيين المتحمسين، لم يتم الحديث كثيرًا عن الكيفية التي ستؤثر بها هذه التطورات بشدة على السعي الفلسطيني لتقرير المصير.
وفي حين خلقت اتفاقيات إبراهيم البيئة السياسية لدفع التطبيع الإسرائيلي مع جزء كبير من العالم العربي، فإن كتلة “إي تو يو تو” ومشروع الممر، لم يتطرقا لقضية الدولة الفلسطينية المستقلة.
وقد شبه علماء مثل شاري بلونسكي من جامعة كوين ماري، شراء ميناء حيفا بأنه “نقل إسرائيل إلى الخارج” حيث يتم محو الفلسطينيين بذريعة التجارة والتوريق وسلاسل التوريد المتغيرة.
البديل لدى أردوغان
وفي حين أن المشروع لم يبدأ بعد، فقد بدأ بالفعل في إثارة غضب القوى الإقليمية الأخرى التي ترى نفسها بمثابة جسور طبيعية بين الشرق والغرب؛ حيث قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: “لا يمكن أن يكون هناك ممر بدون تركيا”.
وفي شهر أيار/مايو، كشف أردوغان ونظيره العراقي رئيس الوزراء محمد شياع السوداني عن خططهما الخاصة لإنشاء ممر بري وسكك حديدية يمتد من محافظة البصرة العراقية إلى الحدود التركية، والذي من شأنه أن ينقل البضائع إلى أوروبا.
وقال بيلغاي دومان، منسق الدراسات العراقية في مركز الأبحاث أورسام ومقره أنقرة، لموقع “ميدل إيست آي”، إن تركيا تدعم مشروع طريق التنمية في العراق في محاولة لتحسين العلاقات التجارية مع الخليج.
وعطلت الحرب في سوريا شريان تركيا الرئيسي إلى الخليج. وبسبب القتال، بدأت الصادرات التركية في العبور جنوبًا عبر ميناء حيفا الإسرائيلي والأردن.
وقال دومان إن العراق هو بوابة تركيا إلى الشرق الأوسط، ويرى العراق أيضًا أن أسهل طريقة للوصول إلى أوروبا هي تركيا.
وتقول تركيا إن الإمارات وقطر تدعمان الاقتراح، لكن من غير الواضح ما إذا كان المستثمرون سيدعمون قطارًا فائق السرعة بقيمة 17 مليار دولار في العراق نظرًا لعدم الاستقرار السياسي والمخاوف الأمنية. ويقول محللون إنه من غير المرجح أن تقوم حكومة بغداد التي تعاني من ضائقة مالية بتمويل المشروع.
ويستطيع الزعماء من واشنطن إلى الرياض وأنقرة أن يعرضوا نسختهم من خط السكة الحديد الحجازي في القرن الحادي والعشرين؛ حيث يقول فرانكوبان إن الاختبار الحقيقي لطرق التجارة المضاربة هذه سيأتي من السوق.
وأضاف فرانكوبان: “إن التجارة التي يتم دفعها من أعلى إلى أسفل لا تعمل بشكل جيد، فالحكومات بجميع أنواعها تميل إلى أن تكون ضعيفة في اتخاذ القرارات التجارية طويلة الأجل، وأولئك الذين يصنعون ويشترون ويبيعون السلع يميلون إلى أن يكونوا أفضل بكثير في ربط النقاط”.
المصدر: ميدل إيست آي