يبدو موقف السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس متماهيًا مع المساعي الأمريكية الرامية لإبرام صفقة تبادل بين المملكة العربية السعودية والاحتلال الإسرائيلي، خلافًا للموقف السابق من “اتفاقيات أبراهام” التي وُقّعت في سبتمبر/ أيلول 2020 بين كل من الإمارات والبحرين والمغرب والاحتلال.
رفضت السلطة الفلسطينية “اتفاقيات أبراهام”، ووصفتها بمثابة الطعنة وتجاوز لمبادرة السلام العربية، كما تحدث في حينه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وكبير المفاوضين الراحل صائب عريقات، لا سيما الموقف من خطوة أبوظبي على وجه الخصوص.
مع مرور الوقت، أخذ الموقف الفلسطيني بالتغيير بشكل كبير، لا سيما من الدائرة المحيطة برئيس السلطة محمود عباس، وبالتحديد وزير الشؤون المدنية حسين الشيخ الذي تقول الأنباء إنه سيكون خليفة لأبو مازن بعد رحيله، أو رئيس جهاز المخابرات ماجد فرج.
شهدت العاصمة الأردنية عمّان سلسلة من اللقاءات التي عُقدت للتباحث حول اتفاق التطبيع بين السعودية والاحتلال، إذ تعدّ المرة الأولى منذ 10 سنوات التي يتحدث بها مسؤولو دول ذلك المنتدى بشكل مفتوح حول ما يفكرون فيه.
ويعكس انخراط السلطة الفلسطينية في هذا المنتدى، وتحديدًا في مفاوضات التطبيع بين السعودية والاحتلال الإسرائيلي بوساطة أمريكية، رغبتها في الاستفادة من بعض التسهيلات الاقتصادية والمالية، ولتخفيض الضغط الشعبي على الرياض حال تمّت عملية التطبيع.
وشهدت هذه الفترة لقاءات وزيارات، كان أبرزها زيارة قام بها وفد فلسطيني مقرّب من عباس إلى الرياض للجلوس مع مسؤولين سياسيين وأمنيين سعوديين، تبعه إعلان سعودي عن تعيين سفير سعودي لدى السلطة للمرة الأولى، وإرساله إلى الأراضي الفلسطينية بشكل رسمي للمرة الأولى منذ عام 1948.
حالة التناغم بين رام الله والرياض تكشف عنها تغريدات للوزير حسين الشيخ، كان أولها التهنئة العلنية للرياض بالعيد الوطني الـ 93، بالإضافة إلى تغريدة ترحيبية بالسفير غير المقيم نايف بن بندر السديري للمرة الأولى، بعد أن قام بتقديم أوراق اعتماده كسفير أمام رئيس السلطة.
سبق ذلك ما كشفته صحيفة “وول ستريت جورنال” نهاية أغسطس/ آب الماضي، من عرض السعودية تجديد الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، لـ”ضمان” دعم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، لتطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب بعد أن توقف الدعم منذ عام 2018.
نهج مختلف
شاركت السلطة الفلسطينية في تقديم قائمة مقترحات للرياض لتقديم تنازلات للفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، يمكن أن تطلبها الأخيرة من “إسرائيل” مقابل اتفاق تطبيع العلاقات، وفقًا لما كشف عنه موقع “والا” العبري بشكل مفصل.
من بين المطالب الفلسطينية، “نقل أجزاء من المنطقة (ج) بالضفة الغربية إلى السيطرة المدنية للسلطة الفلسطينية، وفتح قنصلية أمريكية في القدس، واستئناف المفاوضات مع “إسرائيل” بشأن إقامة دولة فلسطينية”.
بالإضافة إلى ذلك، تنص المقترحات على أنه بمجرد أن تتخذ “إسرائيل” الخطوات الأولى، ستبدأ فترة انتقالية مدتها عدة سنوات، تجري خلالها مفاوضات بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية حول تسوية دائمة وفق اتفاق محدد سلفًا، كما تتضمن طلبًا لتجديد المساعدات الاقتصادية السعودية للسلطة الفلسطينية، والتي قطعها السعوديون قبل بضع سنوات.
يدرك فريق عباس بأنه لن يكون بمقدوره منع اتفاق التطبيع السعودي الإسرائيلي أو معارضته، في ضوء تراجع الحالة الشعبية التي ترتكز عليها السلطة في السنوات الأخيرة
تشكّل الاتصالات بين القيادة الفلسطينية والحكومة السعودية إشارة إلى أن عباس ومستشاريه قرروا اتباع نهج عملي وتجنُّب المواجهة مع الرياض، كما حصل بعد توقيع “اتفاقيات أبراهام”، حين كان رد السلطة قويًّا ضد الإمارات والبحرين، حتى أنهم استدعوا السفراء من أبوظبي والمنامة احتجاجًا.
يعكس ما يحصل في الفترة الحالية إدراكًا من فريق عباس بأنه لن يكون بمقدوره منع اتفاق التطبيع السعودي الإسرائيلي أو معارضته، في ضوء تراجع الحالة الشعبية التي ترتكز عليها السلطة في السنوات الأخيرة، والأزمات المالية التي تعصف بها والتي تحرمها من صرف فاتورة الرواتب كاملة منذ نحو عامَين.
ووفقًا لآخر موازنة صادرة عن وزارة المالية الفلسطينية في رام الله، فإن الفاتورة العامة تعاني من عجز لا يقل عن 360 مليون دولار أمريكي، من دون الاقتطاعات الإسرائيلية التي تتعرض لها الخزينة العامة، ما يرفع سقف العجز إلى ما يزيد على 610 ملايين دولار أمريكي.
السلطة.. ورقة إسرائيلية سعودية
أما من ناحية واقعية وعملية، فإن المشهد الحالي للسلطة ورجالات أوسلو يبدو مثاليًّا لاستغلاله من قبل الرياض والاحتلال، لإبرام صفقة تطبيع دون موقف فلسطيني معارض على الصعيد الرسمي، من شأنه أن يؤجّج حالة الصدام بعيدًا عن الفصائل المعارضة، مثل الجهاد الإسلامي وحماس والجبهة الشعبية.
ويلعب عدم وجود شخصيات فلسطينية على المستوى الرسمي تتصدى للحالة القائمة دورًا بارزًا في تبدل الموقف الفلسطيني، لا سيما أن علاقة الرياض والسلطة اللتين تمسّكتا لسنوات بمبادرة السلام العربية الصادرة عن قمة بيروت عام 2002 كحلّ للصراع العربي-الإسرائيلي، باتت مختلة.
فمن ناحية ميدانية، باتت السلطة منذ معركة “سيف القدس” عام 2021 لا تمسك بزمام الأمور والمبادرة في الضفة الغربية المحتلة، مع تنوع التشكيلات العسكرية للمقاومة الفلسطينية في مناطق شمالي الضفة الغربية المحتلة، كجنين ونابلس وطولكرم، عدا عن انخراط مناطق أخرى كأريحا والخليل في الحالة الكفاحية.
وتعكس التطورات الميدانية إدراكًا من السلطة بأنها ليست في وضع يسمح لها بمعارضة حلفائها السابقين الذين تخلوا عنها في السنوات الأخيرة، إلى جانب الخشية من أن يقود هذا الأمر إلى تعزيز شعبية فصائل المقاومة، وتحديدًا الخصم اللدود بالنسبة إلى حركة فتح المتمثل في حركة حماس.
وإلى جانب هذا الأمر، يبدو طموح بعض الشخصيات الفلسطينية بالصعود إلى مناصب قيادية أعلى حاضرًا في مفاوضات التطبيع القائمة حاليًّا، لا سيما حسين الشيخ الذي يقود الاتصالات والحراك مع الرياض في الفترة الأخيرة، والذي يحظى بعلاقات واسعة مع مختلف الأطراف.
ومن جهة إسرائيلية، تدرك حكومة الاحتلال والمستوى الأمني والسياسي أن بقاء السلطة هو الضرر الأخف من الناحية الأمنية والعملية، في ضوء تغيُّر حال المشهد الذي كانت الضفة تعيشه في فترة 2007-2014، وحالة التصاعد في المقاومة مقارنة بفترة 2015-2021.
ما سبق يعكس أن السلطة بجميع رجالاتها منخرطة هذه المرة في اتفاقيات التطبيع، وأن دورها سيكون مختلفًا عن اتفاقيات التطبيع السابقة، حيث لن تقدم على معارضة الاتفاق أو بنوده، طالما أنه سيلبّي جميع مطالبها الاقتصادية والأمنية وسيعزز من حضورها أكثر.
في المقابل، إن لفصائل مثل حماس والجهاد الإسلامي تحديات أكبر، إذا ما سارت محادثات التطبيع في مسارها المتوقع وفقًا للتصريحات الصادرة عن مختلف الأطراف، خصوصًا تصريحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي أكّد أن التطبيع قادم لا محال.
ويبدو أن هذه الفصائل ستواجه عزلة أكبر على الصعيد الرسمي العربي، وستكون تحت ضغط أكبر فيما يتعلق بتحركاتها الميدانية والخارجية، إذ أن الحركتَين ترتبطان بعلاقات قوية مع إيران التي تعتبر الخصم الأبرز للسعودية، وهو الأمر الذي قد يجعل العلاقات معهما بالحد الأدنى.