يخوض قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان وغريمه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، معركة لا تقل شراسة عن القتال العسكري تتعلق بمحاولتهما المستميتة لاكتساب الشرعية من الدول الأخرى، حيث ظلا يخاطبانها بما تريد أن تراه في السودان.
في الفترة الأولى من الحرب التي اشتعلت في 15 أبريل/ نيسان هذا العام، سجّل مستشار قائد قوات الدعم السريع، يوسف عزت الماهري، زيارات مكثفة إلى عدد من الدول لنقل رواية حميدتي الخاصة بالنزاع، والتي تتمحور حول أن قواته تقاتل النظام السابق من أجل تحقيق الانتقال إلى الحكم المدني.
بالتزامن مع تحركات الماهري، كثّف مسؤولو وزارة الخارجية نقل رواية الجيش إلى العالم الخارجي، والتي تتمثل في أنه يحارب تمردًا على الدولة من ميليشيا أسرية، مع دعوة الدول والأمم المتحدة إلى تصنيف الدعم السريع جماعة إرهابية.
في المرحلة التالية، انتقل الصراع من أسباب الحرب إلى كيفية إنهائها، حيث ظل الدعم السريع يتحدث عن إيقافها عبر التفاوض، على أن تُنقل السلطة إلى المدنيين بعد الاتفاق على الترتيبات الدستورية، بينما كانت نظرة قادة الجيش متذبذبة، فتارة يفضّلون إنهاء القتال بالطرق السلمية، وتارة أخرى بالحسم العسكري، مع التأكيد على ضرورة المحافظة على مؤسسات الدولة.
يخاطب البرهان وحميدتي رغبة الدول الغربية في تشكيل حكومة مدنية في السودان وكذلك مخاوفها من التطرف والإرهاب.
ولاحقًا تحولت الحرب بينهما إلى محاولة كسب الشرعية من الدول الأخرى، حيث يظهر ذلك بوضوح في سعي البرهان وحميدتي لمخاطبة الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 19 سبتمبر/ أيلول الحالي.
وفي كل مراحل الصراع، لم يتوقف القتال يومًا سواء في العاصمة الخرطوم أو مناطق دارفور وكردفان، بما في ذلك أيام الهدن الإنسانية، ما يؤكد أن البرهان وحميدتي يتقاتلان من أجل السيطرة على السلطة والموارد، دون أدنى اكتراث لمعاناة الشعب السوداني المتطاولة.
وقع الحافر بالحافر
ظهرت معركة البحث عن الشرعية بوضوح، بعد تسريبات صحفية تتحدث عن عزم البرهان تشكيل حكومة تدير أعمالها من مدينة بورتسودان الواقعة في شرق السودان، والتي أصبحت بمثابة مركز للحكم الخاضع لهيمنة الجيش، حيث استقر فيها قائد الجيش وكبار المسؤولين، إلى جانب بعض السفارات ووكالات الأمم المتحدة.
وحاول نائب البرهان في مجلس السيادة مالك عقار، قبل نشر التسريبات، تهيئة الرأي العام بضرورة تشكيل حكومة تعمل على تقديم الخدمات، دون أن يثير ذلك حفيظة حميدتي التي ثارت عند نشر التسريبات تزامنًا مع زيارات قائد الجيش إلى عدد من البلدان، من بينها مصر وقطر وتركيا وجنوب السودان.
وعمل حميدتي على قطع الطريق أمام البرهان، بتهديده بتشكيل حكومة موازية تدير أعمالها من العاصمة الخرطوم، وذلك في تسجيل صوتي بثّه على موقع إكس، وفيه أبدى امتعاضه الشديد من جولة قائد الجيش الإقليمية، وقال: “صبرنا كثيرًا على قرارات البرهان المنفردة رغم عدم شرعيته، ولذلك لن نسمح لكائن من كان التحدث باسم السودان وادّعاء الشرعية”.
لا يهتم البرهان ولا حميدتي بالشعب السوداني وما يعتقده فيهما، طالما يملكان القوة لقمع أي تحركات مناوئة، لذا يسعيان لكسب ودّ المجتمع الدولي واكتساب شرعية الحكم منه.
ولم ينسَ حميدتي أن يكرر فقدان البرهان للشرعية في خطابه المصور الذي قدمه للجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ قال إن “قائد الجيش فرَّ من الخرطوم ليكون داعية من دُعاة الحرب، ويتحدث زورًا باسم السودان وهو فاقد للشرعية بسبب انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 والانهيار الدستوري الكامل الذي حدث بسبب الحرب”.
تغافل قائد قوات الدعم السريع، على الأرجح متعمّدًا، الإشارة إلى أنه خطط ونفّذ مع البرهان الانقلاب العسكري على حكومة الانتقال المدنية، كما تجاهل نقل الآلاف من جنوده إلى العاصمة الخرطوم قبل أسابيع من اندلاع الحرب، وغضَّ الطرف عمّن أطلق الرصاصة الأولى.
واستهجن البرهان، خلال حديثه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، تصنيف البعض للحرب بأنها حرب داخلية بين طرفَين مسلحَين، وقال إن “الاعتداء لم يتوقف عند القوات المسلحة، بل شمل كل مكونات الدولة”.
إذًا، حاول قائد الجيش نزع الشرعية عن الدعم السريع بأنها قوات نظامية إلى حين اندلاع الحرب، خاصة أنه يتحدث بوصفه رئيسًا لمجلس السيادة، معززًا ذلك بذكر الفظائع التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في سياق القتال.
طموح شخصي بسببه تضرر كل السودان
يدرك العالم جيدًا أن الحرب اشتعلت في السودان بسبب منافسة قائدَي الجيش والدعم السريع على الانفراد بالحكم، ومع ذلك يحاول كل منهما تجريم الآخر والتودد إلى الدول، لا سيما الغريبة، بشتى المساعي، في سبيل استمرار نفوذهما الشخصي.
محاولات قائدَي الجيش والدعم السريع لكسب الشرعية من العالم، تعني إصرارهما على تحقيق سعيهما في الانفراد في السلطة، وهذا بدوره يعني تجويع وتشريد المزيد من السودانيين.
يركّز حميدتي على أنه يقاتل من أجل الديمقراطية التي يقف في طريقها أنصار النظام السابق، مع تأكيد مشاركته الفعلية في الحرب، حيث ذكر في خطابه مشاركة كتيبة البراء بن مالك ودمغها بأنها جماعة متطرفة، بينما يشدد البرهان على أن الدعم السريع ميليشيا أسرية تحارب الدولة ويطالب بتصنيفها جماعة إرهابية، والاثنان يقولان إنه يجب تشكيل حكومة مدنية.
يخاطب البرهان وحميدتي رغبة الدول الغربية في تشكيل حكومة مدنية في السودان، وكذلك مخاوفها من التطرف والإرهاب، دون أن يتبع ذلك القول بالعمل سواء الآن أو منذ سيطرتهما على أوضاع السودان بعد عزل الرئيس عمر البشير في 11 أبريل/ نيسان 2019.
ومن ينظر إلى تاريخ قائدَي الجيش والدعم السريع السياسي يصل إلى نتيجة واحدة، هي أنهما يخالفان التعهُّدات التي يطلقانها باستمرار، لذلك لا يمكن الوثوق بهما، لأنهما يعملان بجدية لتعزيز مصالحهما الذاتية بغضّ الطرف عن نتائج ذلك على السودان وسكانه.
ولا يهتم البرهان ولا حميدتي بالشعب السوداني وما يعتقده فيهما، طالما يملكان القوة لقمع أي تحركات مناوئة، لذا يسعيان لكسب ودّ المجتمع الدولي واكتساب شرعية الحكم منه.
ولا يتوقع أن تفتر همّتهما في ممارسة مزيد من التضليل على العالم لكسب معركة الشرعية، بعد أن تيقّنا من استحالة كسب المعركة العسكرية خلال وقت وجيز، رغم أن جهودهما لن تجد نجاحًا هذه المرة، نظرًا إلى أن تكلفة الحرب جعلت السودان على حافة الانهيار.
سيناريو متوقع الحدوث
دفع السودانيون ثمنًا باهظًا في سبيل تحقيق البرهان وحميدتي طموحاتهما، إذ فر الآن 5.25 مليون نسمة من سكان السودان من منازلهم هربًا من الحرب، كثير منهم يعيش في ظل أوضاع إنسانية قاسية تتفاقم مع صعوبة نقل الإغاثة لهم، جراء انعدام الأمن والتدهور المريع في قيمة العملة المحلية.
إن محاولات قائدَي الجيش والدعم السريع لكسب الشرعية من العالم، تعني إصرارهما على تحقيق سعيهما في الانفراد في السلطة، وهذا بدوره يعني تجويع وتشريد المزيد من السودانيين.
ويرجّح أن يشكّل البرهان حكومة تنفيذية مؤقتة تعمل من مدينة بورتسودان، ليس من أجل تقديم الخدمات وإنما للتفاوض مع الدعم السريع باعتبارها تمثل الدولة التي تسعى لاحتواء تمرد عبر الطرق السلمية، وذلك بدلًا عن الصيغة المتّبعة من الوساطة السعودية الأمريكية المشتركة التي تنظر إليهما كطرفَين متقاتلَين.
ويبدو أن حميدتي يعي هذا الأمر، ما يدفعه إلى تنفيذ تهديده الخاص بتشكيل حكومة في مناطق سيطرة قواته، وبذلك يكون السودان قطع شوطًا كبيرًا في رحلة الانهيار.