احتفى إعلام نظام الأسد بزيارة رأس النظام بشار الأسد إلى الصين، برفقة زوجته أسماء ووفد من مسؤولي نظامه، باعتبارها أول زيارة رسمية له منذ العام 2004، بعد دعوة رسمية صينية للمشاركة في افتتاح الدورة الـ 19 للألعاب الآسيوية في مدينة هانغتشو الصينية، مع عدد من رؤساء وقادة دول آسيوية.
وأثارت الزيارة عددًا من الأسئلة حول أهدافها ودلالاتها، وما إذا كانت ستشكّل نقطة تحول في طبيعة علاقة الصين مع النظام، وإمكانية تحول الصين إلى أحد الفواعل الرئيسية في الملف السوري، لا سيما أنها تتزامن مع تعثُّر عربي في مسار التطبيع مع النظام، واستماتة النظام للحصول على أموال إعادة الإعمار واستجلاب الاستثمارات، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.
يجول برفقة عائلته بين معالم بلاد أخرى بعدما دمرّ رموز بلاده التاريخية وفرّق لم شمل ملايين السوريين، وبينما تغص مدن سورية بالاحتجاجات ضده يذهب بشار #الأسد لمشاهدة عروض رياضية في #الصين pic.twitter.com/b48uZnjoUI
— نون بوست (@NoonPost) September 23, 2023
سوريا في الحسابات الصينية
اتخذت الصين موقفًا مؤيدًا لنظام الأسد مع بداية الثورة السورية، وعارضت في مجلس الأمن أي قرار ضد النظام من شأنه أن يكون مقدمة لإسقاطه أو تقديمه لمحاكمات دولية، وتناغمت مع الموقف الروسي الداعم للنظام، لا سيما في مجلس الأمن الدولي، مستخدمة حق النقض “الفيتو” 8 مرات ضد قرارات تدين انتهاكات النظام وتدعو لمعاقبته، بزعم دعمها سيادة الدول وسياسة عدم التدخل في شؤونها الداخلية، ودعمته سياسيًّا وماليًّا ودبلوماسيًّا، دون تثبيت حضور سياسي وعسكري واقتصادي هامّ لها في سوريا.
وفي استمرار لسياستها السابقة، دعت الصين في بيان مشترك مع نظام الأسد خلال زيارة رأس النظام الأخيرة، إلى رفع جميع العقوبات “غير المشروعة والأحادية” المفروضة على النظام، وأبدت معارضتها التدخل الأجنبي في سوريا.
يدخل التحرك الصيني صوب النظام ضمن حسابات الصين الدولية الأوسع، حيث تتبنّى الصين توجهًا دبلوماسيًّا قائمًا على تعزيز العلاقات مع الدول المعزولة من قبل الولايات المتحدة والغرب، بما يساهم في تحسين شروط صراعها ومنافستها للولايات المتحدة، كروسيا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا وباكستان ونظام الأسد، في إطار سعيها الحثيث للتوجه نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، إذ تأتي زيارة الأسد إلى الصين ضمن سلسلة زيارات شهدتها الصين خلال العام الحالي 2023، لرؤساء كل من فنزويلا وإيران وبيلاروسيا.
وهذا ما يدركه نظام الأسد ويحاول استغلاله لصالح تحصيل دعم سياسي واقتصادي صيني، إذ سوّق في أكثر من مناسبة لعالم متعدد الأقطاب، فخلال زيارته الأخيرة عبّر رأس النظام عن أمله في أن تلعب الصين “دورًا بنّاءً على الساحة الدولية”، معتبرًا أن الزيارة مهمة في توقيتها من حيث تزامنها مع تشكل عالم متعدد الأقطاب “يعيد للعالم التوازن والاستقرار”.
إلى جانب أيضًا رغبة الصين كما يبدو بملء فراغ روسيا في المنطقة وزيادة نفوذها في الشرق الأوسط، في ظل التراجع الروسي الملحوظ في سوريا والمنطقة نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، فضلًا عن سعيها إلى طرح نفسها كطرف وسيط وبديل في المنطقة، وهو ما بدا واضحًا في وساطتها مؤخرًا بين السعودية وإيران بعد سنين من المناكفة والصراع.
وعود صينية واستثمارات خجولة
لم يخفِ نظام الأسد رغبته في الحصول على أموال وتعهُّدات صينية للبدء بمشاريع إعادة الإعمار في سوريا، وتحدثت وسائل إعلامه عن توقيع “شراكة استراتيجية” بين الطرفَين، وسلطت الضوء على إعلان الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال لقائه ببشار عن رغبة الصين في زيادة الواردات من المنتجات الزراعية عالية الجودة من سوريا، وتوقيع 3 وثائق للتعاون بين الجانبَين تشمل التعاون الاقتصادي والتنمية الاقتصادية وخطة تعاون في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، فضلًا عن دعمها جهود النظام في إعادة الإعمار.
اقتصر الاهتمام الاقتصادي الصيني في سوريا على التعاون مع نظام الأسد فيما يتعلق بمشروع “الحزام والطريق”، الذي تسعى فيه الصين إلى إنشاء شبكة برّية وبحرية عالمية في بلدان آسيا والشرق الأوسط، عبر بناء السكك الحديدية والطرق والموانئ، وتشكّل سوريا موقعًا مهمًّا في مبادرة “الحزام والطريق”، من حيث إطلالتها على البحر المتوسط ووقوعها على خط النقل عبر إيران والعراق.
حيث لم تنخرط الصين في استثمارات مهمة وضخمة إلى الآن رغم الوعود المتكررة، ولم تبصر مشاريعها التي أعلنت عنها سابقًا النور، سوى مشاريع استثمارية محدودة وضعيفة، مقارنة بمشاريعها العملاقة في دول أخرى، ففي يوليو/ تموز 2017 تعهّدت الصين باستثمار مليارَي دولار لإنشاء مجمعات صناعية في سوريا توفر 40 ألف فرصة عمل، ولم تنفَّذ.
وفي عام 2019 وافقت هيئة الاستثمار التابعة للنظام على تأسيس مشروع لإنتاج صنابير المياه بكافة أنواعها، بشراكة بين مستثمرين صينيين وسوريين في منطقة عدرا الصناعية بريف دمشق، كما تم توقيع مذكرة تفاهم بين شركتَي جين جيانغ الصينية، المتخصصة في دراسة وتصميم وتنفيذ مشاريع البناء والضواحي السكنية وإعادة الإعمار، وشركة شام للدراسات والمقاولات، لدراسة عدة مشاريع في نطاق إعادة الإعمار والطاقة البديلة، وإنشاء ضواحي سكنية ومنشآت خدمية وصناعية، بحسب وسائل إعلام النظام.
وكذلك تأسّست بعض الشركات الصينية أو بالشراكة مع صينين في سوريا، فعلى سبيل المثال تعاقدت المؤسسة العامة للمباقر التابعة للنظام مع شركة الديون المتحدة في الصين لشراء هاضم حيوي لمبقرة حمص، وأخذت شركة سينوما الصينية الموافقة لتنفيذ 3 خطوط إنتاج في معامل إسمنت عدرا وحماة وطرطوس.
وفي زيارة لوزير الخارجية الصيني إلى دمشق ولقائه بشار الأسد في يوليو/ تموز 2021، بادرت الصين باقتراح مجموعة من المشاريع في مجال تعبيد الطرق والنقل، كربط السكك الحديدية بين مرفأ طرطوس والحدود العراقية، وإنشاء طريق برّي سريع يربط جنوب البلاد بشمالها، وإنشاء موانئ بحرية، وإنشاء مناطق حرة صينية في سوريا، وذلك خدمة لمشروعها.
تحديات الاستثمار الصيني في سوريا
يسعى الأسد اللاهث خلف المساعدات والأموال من حلفائه، في زيارته الأخيرة إلى الصين، إلى استجلاب الأموال الصينية وخبراتها ومشاريعها الاستثمارية، مقابل تقديم تسهيلات اقتصادية وسياسية معيّنة لها في سوريا، في الوقت الذي يعجز به حلفاؤه الروس والإيرانيون عن تقديم دعم اقتصادي كافٍ له، نتيجة انشغالهما في مسائل داخلية وخارجية.
حيث روسيا غارقة في المستنقع الأوكراني، مع ما أصاب اقتصادها المتهالك أساسًا من قيود وضغوط كبيرة، وذلك بالتزامن مع اشتداد العقوبات الاقتصادية الأمريكية الغربية التي تقف حجر عثرة أمام جهود النظام في استقبال أموال إعادة الإعمار، وكسر العزلة الدولية المفروضة عليه.
كما بدا واضحًا استغلال الأسد زيارته إلى الصين لإيهام حاضنته الشعبية والقوى الدولية والإقليمية بكسر عزلته الدولية المفروضة عليه، وبقدرته على إيجاد البدائل، لا سيما بعد انتكاسة مسار التطبيع العربي معه، إثر تعنُّته في تقديم أية تنازلات سياسية وأمنية حقيقية، تغري الدول العربية المطبّعة بإتمام مسارها.
في العموم، تكرر الصين من وعودها في دعم عملية إعادة الإعمار من حين إلى حين، والتي كان آخرها على لسان الرئيس الصيني في زيارة رأس النظام الأخيرة، لكن تقف فعليًّا مجموعة من العوائق أمامها تمنعها من المساهمة في عملية إعادة الإعمار، بمعزل عن باقي القوى الدولية والإقليمية التي تشترط الوصول إلى حل سياسي شامل في سوريا، مقابل السماح ببدء عملية الإعمار، والتي على رأسها الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
حيث يعتبر الاستثمار في سوريا مغامرة خطيرة بالنسبة إلى الشركات الصينية، من حيث ضعف العوائد الاقتصادية المتوقعة، بعد وصول الاقتصاد السوري إلى أدنى مستوياته، مع انخفاض قيمة الليرة السورية وتحول الاقتصاد من اقتصاد دولة إلى اقتصاد ميليشياوي، تتحكم به مجموعة من المتنفّذين المقرّبين من النظام.
فضلًا عن غياب البيئة المناسبة للاستثمار نتيجة الفوضى الأمنية وغياب الاستقرار، وسيطرة الفساد على مفاصل ما تبقّى من الدولة السورية، وبقاء ما يقارب من نصف البلاد خارج سيطرة النظام، واحتمالية تجدد المواجهات العسكرية وتفجُّر الصراع العسكري ثانية، مع احتفاظ مختلف القوى المتنفذة ميدانيًّا على مواقع سيطرتها، في بيئة تشهد تصاعدًا في وتيرة الاحتجاجات والأعمال المناهضة للنظام.
وتمثل العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية على نظام الأسد عاملًا مهمًّا، يمنع الصين من الدخول في سوق الاستثمار ودعم عملية إعادة الإعمار التي يسوّق لها النظام، إذ من شأن ذلك أن يضع شركاتها تحت العقوبات والمساءلة والملاحقة، في الوقت الذي تنسج به الصين علاقات جيدة نسبيًّا مع الأوروبيين.
وقد لا ترغب الصين في توتير علاقاتها مع إيران وروسيا، أو الدخول معهما في سباق تنافسي، في حال انخرطت بدور اقتصادي فعّال، لا سيما أن الدولتَين تسعيان إلى قطف ثمار تدخلهما العسكري إلى جانب النظام، خاصة أنهما تتقاسمان السيطرة على الأصول والموارد الاقتصادية السورية.
وعليه، لا يبدو أن الصين ترى أن المساهمة حاليًّا في عملية إعادة الإعمار أمر مجدٍ ومغرٍ لها، نتيجة جملة من العراقيل تمنعها من الإيفاء بوعودها، وتبقي دائرة علاقاتها مع نظام الأسد ضمن سياق مناكفتها الولايات المتحدة والغرب، واستخدام علاقتها مع النظام كورقة سياسية ضد الغرب، دون الذهاب بعيدًا في تقديم أموال واستثمارات ضخمة بمليارات الدولارات، والبدء في عملية إعادة إعمار شاملة.