قبل أن تعلن قيام كيانها على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وبعد أن نفّذت تطهيرها العرقي وأعلنت نفسها كيانًا قائمًا، عمل اليهود من مستعمرين ومحتلين على استقطاب يهود العالم إلى فلسطين، تحقيقًا لمخرجات مؤتمر بازل الصهيوني عام 1897 بإقامة دولة يهودية في فلسطين، وترجمة فعلية لوعد بلفور “شعبٌ بلا أرض لأرضٍ بلا شعب”.
تعدّ الهجرة اليهودية العامل الرئيسي وحجر الأساس في العملية الاستيطانية، حيث تسخّر “إسرائيل” كل طاقتها من مؤسسات ولوبي صهيوني في الخارج لتستقدم اليهود من مختلف دول العالم إلى الأراضي المحتلة، تمنحهم الجنسية والعمل والسكن، وتتذرّع بـ”معاداة السامية” لاستقطابهم.
والمعادلة بين المستوطنات والهجرة علاقة تبادلية، فـ”إسرائيل” تستقدم اليهود لتبني المستوطنات، وتبني المستوطنات لتستوعب اليهود القادمين، المهم ألّا تظل المستوطنات فارغة، وألّا يبقى شبرٌ في الأرض الفلسطينية لم تطله يد الاستيطان.
في هذا التقرير من ملف “وكلاء الاستيطان”، يسلط “نون بوست” الضوء على جسمَين أساسيَّين في العملية الاستيطانية والهجرة اليهودية: الوكالة اليهودية ووزارة الهجرة والاستيعاب، مؤسستان تشكّلان وكيلًا مهمًّا في الجانب البشري من المخططات الاستيطانية.
الوكالة اليهودية
في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، بدأت الفكرة الأولى لإنشاء شركة يهودية تشكّل مؤسسة إنتاجية اقتصادية، وتطورت الفكرة حتى صارت هيئة سياسية تنفذ تخطيط المنظمة الصهيونية الخاصة بإنشاء “الوطن اليهودي”، فكانت فكرة الوكالة اليهودية قيد التطور.
بعد وعد بلفور عام 1917، وقبل أن يحل الانتداب البريطاني ضيفًا غير مرحّب به على فلسطين، عملت الوكالة اليهودية في أيام الانتداب كحكومة للمستوطنين الصهيونيين في فلسطين، ومارست نشاطها تحت حماية الانتداب بقصد إنشاء وطن قومي لليهود، بموجب المادة الرابعة من صكّ الانتداب البريطاني على فلسطين، الذي منح الوكالة اليهودية اعترافًا بأنها “هيئة عامة لغرض تقديم المشورة والتعاون” مع سلطات الانتداب (بريطانيا) من أجل إنشاء الوطن القومي اليهودي.
بشكل رسمي، تأسّست الوكالة اليهودية رسميًّا عام 1922 أثناء سيطرة الانتداب البريطاني على فلسطين، أي قبل إقامة دولة الاحتلال بنحو 20 عامًا، وقد عملت الوكالة منذ ذلك الوقت على تيسير قنوات الاتصال بين اليهود في فلسطين والمجتمعات اليهودية حول العالم، وتسهيل إجراءات الهجرة إلى فلسطين، والسعي الحثيث لإقامة قوة عسكرية (لحماية المستوطنات) هي في واقع الأمر قاعدة عصابة الهاغاناه.
من أجل ذلك، انخرطت الوكالة في نشاطات سياسية واجتماعية واقتصادية عديدة منذ نشأتها، مثل جمع الأموال لصالح “إسرائيل”، وتشجيع واستيعاب المهاجرين بالشراكة مع الحكومة الإسرائيلية، وإدارة برامج التعليم وبناء الهوية اليهودية في الداخل والخارج، وقد نجحت الوكالة في إنشاء الجامعة العبرية في عهد المندوب البريطاني الصهيوني السابق هربرت صموئيل عام 1925.
تنص رسالة الوكالة كما يلي: “توفر الوكالة الإطار العالمي لـ”عليا” (بالعبرية تعني الصعود ويقصد بها أيضًا الهجرة اليهودية إلى أرض الميعاد)، وتضمن الأمان لليهود في العالم، وتقوي الهوية اليهودية، وتربط اليهود بـ”إسرائيل” وتربط بعضهم بعضًا، وتنقل صوت الشعب اليهودي إلى دولة “إسرائيل” للمساعدة في تشكيل مجتمعها”.
عام 1929، مع عقد المؤتمر الصهيوني الثاني، تقرر توسيع الوكالة اليهودية، وحددت أهدافها بزيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وشراء الأراضي الفلسطينية لتكون ملكية يهودية عامة تكفي لتمكين حركة الاستيطان، وتشجيع الاستيطان الزراعي المبني على العمل اليهودي، ونشر اللغة والتراث العبريَّين داخل فلسطين.
استمرت بعملها في مجال الهجرة اليهودية حتى بعد احتلال فلسطين عام 1948، واعترفت الكنيست بموجب قانون أصدرته عام 1952 بأن المنظمة الصهيونية – الوكالة اليهودية ذات صلاحيات لمتابعة عملها داخل “إسرائيل”، بهدف تحسين عمليات الهجرة واستيعاب المهاجرين الجدد في المستوطنات الإسرائيلية.
وأطلقت بعد نكسة 1967 فرعًا جديدًا لها للهجرة، للمساعدة في إنشاء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتلاحقت التعديلات القانونية في الوكالة، وسمح قانون وضع الوكالة اليهودية الذي أقرّه الكنيست عام 1952، بمنح لواء الاستيطان التابع للمنظمة الصهيونية العالمية نفوذًا فيما يتعلق بالاستيطان وحيازة الأراضي، وإنشاء وتوسيع مشاريع التنمية في “إسرائيل” عام 2015.
واستغلت الوكالة حروب المنطقة وتأزُّم الأوضاع السياسية الدولية، حتى أعلن مسؤولون في دولة الاحتلال عام 2016 أن الوكالة نقلت آخر يهود اليمن إلى “إسرائيل”، كما نقلت الوكالة ما يزيد عن 60 ألف يهودي في روسيا و40 ألف يهودي في أوكرانيا إلى “إسرائيل” مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، فيما أعلنت عن وجود 200 ألف يهودي في أوكرانيا مؤهّلين للقدوم إلى دولة الاحتلال.
وزارة الهجرة والاستيعاب
بشكل علني، يقول وزير الهجرة والاستيعاب في حكومة الاحتلال، عوفير سوفير، إن “الهجرة إلى “إسرائيل” والاستيطان في مناطق ذات أولوية قومية هي صهيونية عملية، ويسعدني أن أعلن لكثير من المستوطنات في الضفة والجولان وفي المدن المختلطة عن امتيازات إضافية تساعد في تشجيع الهجرة اليهودية إلى هناك”.
كما يظهر اسمها، تشكّل وزارة الهجرة والاستيعاب وكيلًا استيطانيًّا في رفد المستوطنات بمستوطنيها، وكان لافتًا في حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة الأخيرة، أن الوزارة أعلنت عن معايير وامتيازات أفضلية للمشاريع الاستيطانية في الضفة الغربية ومدن الداخل الفلسطيني المحتل، أو ما يعرف بالمدن المختلطة.
تشكّل مدينة القدس هدفًا مهمًّا للوزارة كما بقية مؤسسات الاحتلال، وقد أعلنت وزارة الهجرة والاستيعاب بالإضافة إلى وزارة التعليم ووزارتَي الثقافة والرياضة في عام 2023، رصد 95 مليون شيكل من ميزانيتها (31.5 مليونًا في السنة وعلى مدار 3 سنوات) لتطبيق الخطة ومنح امتيازات وحوافز للمهاجرين.
وتهدف وزارة الاستيعاب من خلال خطتها الاستيطانية في القدس إلى “تقوية” مدينة القدس اقتصاديًّا وديموغرافيًّا، كما ستعمل جنبًا إلى جنب مع بلدية القدس على مساعدة المهاجرين المستوطنين بالقدس في التدريب المهني، والحصول على تراخيص عمل مناسبة تلائم مجالات عملهم ومهاراتهم.
وحسب بيانات وزارة الهجرة والاستيعاب الإسرائيلية والوكالة اليهودية، فقد انخفضت الهجرة إلى فلسطين بشكل حاد في النصف الأول من العام الجاري، حيث تراجعت نسبة استقدام اليهود بنحو 20% من أمريكا وأوروبا.
رغم كل محاولات مؤسسات الاحتلال لزيادة هجرة اليهود إلى فلسطين، إلا أن التوتر الأمني وتصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية بالضفة الغربية، والأزمات الداخلية التي تعصف بالجبهة الداخلية الإسرائيلية، شكّلت وما زالت تشكّل عائقًا أمام إقناع اليهود بالقدوم والاستيطان في فلسطين.