“مصر ليست دولة فقيرة” يبدو أن هذه الجملة التي علّق بها ملايين المصريين ردًا على تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي حين قال: “إحنا فقراء قوي قوي” خلال إحدى جلسات مؤتمر الشباب الذي عقد في مدينة أسوان “جنوب مصر” يناير الماضي، ليست من باب الدفاع عن سمعة الوطن وصورته الخارجية فحسب، بل هي واقع عملي وحقيقة دامغة.
التقارير الصادرة مؤخرًا بشأن ثروات مصر المعدنية من مناجم للذهب والفوسفات والحديد والمنجنيز والرمال البيضاء، فضلاً عن مئات المحاجر، تؤكد صدق مقولة المصريين أن بلادهم ليست فقيرة، مما يضع العديد من التساؤلات عن مصدر الخلل، فهل المشكلة تتعلق بسوء الإدارة والفشل في التنقيب عن تلك الثروات المدفونة في باطن الأرض؟ أم أنها تتعلق بسيطرة ونهب علية القوم على معظم هذه الثروات في ظل تعتيم إعلامي وتغييب لرقابة الشعب على ثرواته؟
ثروات مهدرة
تمتلك مصر ثروة هائلة من المناجم المعدنية والحجرية، إذ بها ما يقرب من 39 خامة من المعادن تدخل في جميع الصناعات، ساهمت في تعزيز مكانتها على خارطة التعدين الدولية، حسبما أشار الخبير الاقتصادي أحمد خزيم، والذي أكد أن عدد المناجم في مصر يصل إلى 4500 منجم بمختلف أنواعها، تحتل بها المرتبة الثالثة عالميًا في الثروة المحجرية والمعدنية.
خزيم في تصريحات له أوضح أن هناك ثروات معدنية متعددة ما بين فوسفات وذهب وفلسبار ورمال بيضاء تتطلب إعادة النظر في آليات استخراجها، ملفتًا أن الحجج التي كان تسوقها الحكومة في السابق لتبرير التقاعس عن استخراج هذه المعادن أن كلفة الاستخراج أعلى من قيمة السوق، إلا أنه ومع التطورات التكنولوجية الحديثة باتت عمليات التنقيب والاستخراج أسهل وأرخص بكثير مما كانت عليه في السابق، مؤكدًا أن المشكلة تكمن في العقلية التي تدير هذه الموارد.
وبحسب رئيس هيئة الثروة المعدنية التابعة لوزارة البترول المصرية عمر طعيمة، فإن هناك نحو 220 موقع ذهب في مصر، منهم 120 موقعًا تم الاستخراج منهم بالفعل خلال الأعوام الماضية، كما تمتلك مصر ثروة هائلةمن الحديد، ففي الصحراء الشرقية نحو 54 مليون طن، وفي جنوب الصحراء الغربية بمنطقة العوينات 320 مليون طن، وفي الواحات البحرية 330 مليون طن، وفي شرق أسوان 75 مليون طن، أما بخصوص خامات الرصاص والزنك فيبلغ الاحتياطي 1.5 مليون طن.
رئيس هيئة الثروة المعدنية: هناك نحو 220 موقع ذهب في مصر، منهم 120 موقعًا تم الاستخراج منهم بالفعل خلال الأعوام الماضية
وهناك العديد من الثروات الأخرى منها خامات الفوسفات المنتشر على ساحل البحر الأحمر بإجمالي احتياطي 3000 مليون طن، ويستخدم فى صناعة الأسمدة وإنتاج حامض الفوسفوريك والصناعات الكيماوية وبلغ عدد المناجم العاملة لخام الفوسفات 42 منجمًا، كما أن هناك 50 مليون طن احتياطي خام الكوارتز، و1000مليون طن لخامات الفلسبار، أما عن المحاجر، فتشير الأرقام الرسمية إلى تجاوز عدد المحاجر في مصر 1727 محجرًا، بها خامات “حجر جيرى – بازلت – رمل – زلط – كسر جرانيت – رخام أبيض – جبس – طفلة”.
3000 مليون طن إجمالي احتياطي مصر من الفوسفات
منجم السكري.. أنموذج
من أشهر أسماء مناجم الذهب التي علقت في أذهان المصريين في الآونة الأخيرة “منجم السكري”، والذي تم اكتشافه عام 1995 في منطقة جبل السكري الواقعة في الصحراء الشرقية جنوبي مدينة مرسى علم، إلا أن بداية التنقيب فيه لم تبدأ إلا بعد 14 عامًا من اكتشافه، تحديدًا في 2009، وهو ما أثار العديد من علامات الاستفهام حينها.
لم يخرج منجم السكري للنور إلا منذ سنوات قليلة مضت، حين تناقلت بعض وسائل الإعلام أنباء تشير إلى وجود منجم يحتوي على كميات كبيرة من الذهب يتم استخراجها وتصديرها إلى كندا بصورة غير معلنة، وهو ما سلط الأضواء حياله بصورة كبيرة.
سامي الراجحي خبير المناجم الذهبية ورئيس شركة “سنتامين” إحدى الجهتين المسؤولتين عن إدارة المنجم بالمشاركة مع هيئة الثروة المعدنية المصرية، أشار في تصريحات سابقة له أن السكري أحد أكبر 10مناجم في العالم، مضيفًا أن إنتاج شركته من المنجم في تزايد مستمر، حيث بدأ بـ100 ألف أوقية (الأوقية تساوي 29.75 جرام) سنويًا، ثم ارتفعت إلى 200 ألف ثم 300 ألف وصولاً إلى تخطي حاجز الـ400 ألف وقية عام 2015، و600 ألف في 2016.
سامي الراجحي: منجم السكري به احتياطي يكفي لاستخراج 500 ألف أوقية سنويًا لمدة 25 عامًا
رئيس شركة “سنتامين” أضاف أن المنجم به احتياطي يكفي لاستخراج 500 ألف أوقية سنويًا لمدة 25 عامًا، ملفتًا أن هناك العديد من المناجم القريبة من السكري يمكن العمل عليها خلال السنوات الماضية، وأن هذه الثروة ستنقل مصر نقلة جديدة حال استغلالها بصورة سليمة.
خبير المناجم الذهبية لفت إلى أن السكري ليس المنجم الوحيد الذي يعتبر نقلة كبيرة في ثروات مصر التعدينية، فهناك عدد من المناجم الأخرى، كما هو الحال في منطقة “حمش” التي تقع على بعد 100 كم غرب مدينة مرسى علم بالصحراء الشرقية، حيث أنتجت أول سبيكة تجريبية من المنجم عام 2007، وكان من المفترض أن يبلغ معدل الإنتاج 15000 أوقية عام 2010 إلا أن عمليات الإنتاج لم تتم بالصورة الكاملة، للعديد من الأسباب، مما تسبب في توقف العمل به لفترة طويلة.
وفي سياق متصل قال على بركات رئيس شركة “السكرى لمناجم الذهب”، وهي الشركة الأم الناتجة عن دمج شركة “سنتامين” و”هيئة الثروة المعدنية”، إن استثمارات منجم السكرى بلغت نحو 1.7 مليار دولار، وأن الإنتاج الإجمالي له بلغ نحو 80 كيلو من الذهب يوميًا، كما أن حجم التصدير الأسبوعي يتراوح بين 350 – 400 كيلو ذهب لتنقيته بالمعامل الكندية.
منجم السكري أحد أكبر عشرة مناجم ذهب في العالم
الجيش يحكم قبضته
تحكم المؤسسة العسكرية قبضتها على ثروات مصر التعدينية بصورة كاملة، شأنها شأن بقية موارد الدولة، إلا أن الوضع في قطاع التعدين يظهر بصورة واضحة نظرًا لما يمثله من قيمة مادية تقدر بالمليارات.
ففي سلسلة “جنرالات الذهب” التي أعدها “نون بوست” مؤخرًا للكشف عن توغل المؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري، تطرق إلى هذه المسألة بصورة تفصيلية، حيث أشار أن سيطرة الجيش على قطاع التعدين تدار على طريقتين، الأولى: استخراج رخص التعدين والاستخراج من المحاجر، وتتم عبر مرحلتين، الحصول على موافقة من الجيش، ثم إصدار رخصة استخدام المحجر أو المنجم من مجالس المحافظات، وهذا ما يفسر كيفية توزيع المحافظين من ضباط الشرطة والجيش والمخابرات العامة على المحافظات، ومن ثم فإن المحافظ القادم من الجيش يمنح تلك الرخص لأشخاص مرتبطين بالجيش، والقادم من الشرطة يمنحها لأشخاص مرتبطين بالشرطة وهكذا، وعلى هذا تجري منح تلك الترخيصات لأشخاص بعينهم خاصة في مناجم الذهب كما هو الحال في منجم السكري، ومحاجر الفوسفات وغيرها.
الثانية: نقل مستخرجات المحاجر والمناجم داخليًا ، ويسيطر الجيش عليها من خلال إحكام قبضته على جميع الطرق السريعة الواصلة بين المدن والمحافظات المصرية ومن خلال شبكة الطرق الجديدة المسماة بشبكة الطرق القومية التي يريد الجيش إنشاؤها، فأي مستخرِج من محجر أو منجم عليه أن يدفع جباية عند نقله لشحنته من خارج أرض المحجر للجيش ويدفع مرة أخرى عندما يخرج بها من المحافظة ويدفع مرة أخرى للجيش عندما يدخل بها محافظة أخرى.
سيطرة الجيش على قطاع التعدين تدار على طريقتين، الأولى: استخراج رخص التعدين والاستخراج من المحاجر، الثانية: نقل مستخرجات المحاجر والمناجم داخليًا
ما بين الإهدار والنهب
على الرغم من هذه الثروات الطائلة التي تمتلكها مصر فهناك 30مليون مواطن تحت مستوى خط الفقر، يعانون من تردي المستوى المعيشي في ظل الفجوة الهائلة بين فئة تعاني من التضخم في الثراء والغنى وأغلبية قابعة في مستنقع الفقر والحرمان.
ومع البيانات الصادرة هنا وهناك، والتقارير التي تخرج للنور ما بين الحين والآخر عن تلك المناجم وما تخرجه من أطنان الذهب والحديد والفوسفات والثروات التعدينية الأخرى، والتي لم ير منها المواطن أي نتيجة، ولم يشعر بأي تحسن رغم الوعود التي تنهال عليه ليل نهار، مما دفعه للتساؤل: إن لم تذهب هذه الثروات للشعب فلمن تذهب إذا؟
الدكتور يحيى قزاز الجيولوجي السابق بهيئة المساحة الجيولوجية وأستاذ الجيولوجيا بجامعة حلوان حاليًا، في حوار سابق له أشار إلى أن منجم السكري يشهد عملية نهب وغسيل أموال منظمة من قبل عائلة “الراجحي” صاحبة شركة “سنتامين”، والسلطات المصرية لم تتدخل لحماية المنجم من السرقة، لوجود بعض لواءات الجيش المتقاعدين يعملون في مجال التعدين، ويستفيدون من هذه العمليات، واصفًا ما يحدث بأنه نهب لثروات مصر على حد قوله.
أما الدكتور جمال صيام أستاذ علم الاقتصاد بجامعة القاهرة، فأشار أن الفقر في مصر يرتبط ببعض المسببات التي من الممكن معالجتها لو تم حسن استغلال الموارد التي تمتلكها البلاد، ملفتًا أن الموارد الطبيعية كالمناجم وغيرها ثوابت مرئية يتم إهدارها دون معرفة بيانات عنها.
د. جمال صيام: هل هذه الخيرات تدخل ميزانية الدولة أم تذهب للكبار من رجال الأعمال ومافيا الفساد في مصر؟ ومن المستفيد النهائي منها؟
صيام في تصريحات له تساءل أين يذهب خيراتها؟ فالذهب مثلاً يذهب لكندا خام ليرجع مصر بأغلى الأسعار مصنعًا، وشركات البترول تحصل على نصف المستخرج من باطن الأرض من بترول، وأيضًا الذهب نحصل منه على نصف المستخرج فقط، ومع ذلك النصف المتبقي ليس بقليل لكن أين ذهب؟
أستاذ علم الاقتصاد بجامعة القاهرة أوضح أن الشعب المصري لا يحصل على أي من خيرات بلده المنهوبة، متسائلاً هل هذه الخيرات تدخل ميزانية الدولة أم تذهب للكبار من رجال الأعمال ومافيا الفساد في مصر؟ ومن المستفيد النهائي منها؟ ملفتًا أن غياب الشفافية في كل التفاصيل المتعلقة بالمناجم وما تحتويه وكيفية استخراج ما بها والتعامل معه، يؤكد أن هناك شبهة فساد.
رغم تلك الثروات.. 30 مليون مصري تحت خط الفقر
الكاتب الصحفيسيد عبد العاطي في مقال له بصحيفة “الوفد” الحزبية المصرية، ألمح إلى وجود مافيا لنهب ثروات مصر، مضيفًا أن عدد المحاجر المرخص لها بلغ 1727 محجرًا فقط، بينما هناك 5000 محجر يعملون بصورة كاملة، بما يعني أن هناك ما يقرب من 3200 محجر يعلمون دون ترخيص تحت سمع وبصر الدولة بكل أجهزتها، متسائلاً: من يتستر عليها ولمصلحة من؟ ومن هم المستفيدون من هذا الوضع؟
عبد العاطي لفت إلى أن المناجم وخاصة الذهب لا تقل أبدًا في شبهة النهب والفساد عن المحاج، مشيرًا أن عدد المناجم المرخص لها يبلغ 254 منجمًا فقط، وهي تمثل نسبة ضئيلة جدًا من المناجم العاملة في مصر، والتي يتم نهبها، وتديرها عصابات تربح المليارات، على حد قوله.
هناك ما يقرب من 3200 محجر يعلمون دون ترخيص تحت سمع وبصر الدولة بكل أجهزتها، من يتستر عليها ولمصلحة من؟ ومن هم المستفيدون من هذا الوضع؟
مما سبق يتضح أن هناك محوران لا ثالث لهما فيما يتعلق بمنظومة إدارة ثروات مصر التعدينية، الأول: غياب الوعي بكيفية استغلال موارد الوطن، في ظل عقم واضح في الفكر والإدارة، فشل في أن يضع مصر في ضوء ما تمتلكه من مقومات وثروات على خارطة الاقتصاد العالمي، في الوقت الذي تصدرت فيه دول أخرى المشهد وهي لا تملك جزءًا ضئيلاً مما تملكه مصر، وهنا لا بد من إعادة النظر في العقليات التي تدير هذه المنظومة، فليس من المعقول أن يتم استخراج الذهب الخام من مناجم الوطن ثم يتم تصديره لتنقيته إلى كندا ويتم استيراده بمبالغ طائلة تفوق ما تم استخراجه وتصديره.
الثاني: محاولة متعمدة لنهب هذه الثروات سواء من قبل من لهم علاقة بالسلطة وصناع القرار أو مافيا العصابات الدولية بالتواطؤ أيضًا مع بعض العناصر الداخلية، وهو ما يعززه الغياب المتعمد للبيانات المتعلقة بهذه الثروات الضخمة، فليس من المعقول أن دولة بحجم مصر لا تمتلك قاعدة بيانات حقيقية عن المناجم ومحتواها ومعدلات إنتاجها، كما أن إسناد مهام استخراج تلك الثروات لشركات بعينها دون غيرها يضع العديد من علامات الاستفهام أيضًا.
وعلى أية حال سواء كانت الأزمة في الإدارة وفشلا في استغلال تلك الثروات سواء من حيث التنقيب أو التسويق، أو كانت نهبًا متعمدًا من قبل ذوي القوة والسلطة من هنا أو هناك، فالنتيجة واحدة، وهي أن المواطن المصري كالعادة لا يزداد إلا فقرًا وحاجة، ولا ينال من ثروات بلاده إلا ما يتبادر إلى مسامعه عبر الإعلام الذي اعتاد العزف على وتر التسكين والتخدير باسم المستقبل المشرق والقادم الأفضل.