قال نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حافظ غانم، إن إجراءت تقليص الدعم في الأردن تعد نتيجة حتمية لتغير الاقتصاد العالمي، وأشار أن العالم كان يساعد الطبقات الفقيرة من خلال دعم السلع لكن هذه الطريقة لها تأثير سلبي على الموازنة، معتبرًا أن الأغنياء هم أكثر المستفيدين من الدعم كونهم يستهلكون أكثر من الفقراء.
ومن ثم فإن كل دول العالم غيرت منظومة الدعم من السلع إلى الدعم النقدي المباشر وهو ما يحقق تحسنًا في استخدام السلع ويخفض كلفة الدعم على الحكومة ويوسع خيارات الشراء لدى المواطنين اعتمادًا على الدعم النقدي.
سياسة الدعم الحكومية
يعرف الدعم بأنه التدخل في الأسعار الذي من شأنه خفض مستوى سعر الخدمة للمستهلك عن مستوى سعر السوق، أو تخفيض التكاليف بالنسبة للمنتجين والمستهلكين من خلال منح دعم مباشر أو غير مباشر، حيث تتنازل الحكومة في موازناتها عن قدر كبير من الإيرادات العامة لتوفر الدعم لأسعار تلك المنتجات والخدمات، وتختلف نسبة الدعم من دولة إلى أخرى ويقاس نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي، ففي الدول العربية بشكل عام يشكل الدعم الحكومي نحو 5.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وكلما ارتفعت نسبة الدعم ارتفعت معها أعباء الدولة.
يشكل الدعم الحكومي في الدول العربية نحو 5.7% من الناتج المحلي الإجمالي
يقسم الدعم إلى دعم مباشر للسلع والخدمات الأساسية والذي يشمل مجموعة من السلع الغذائية مثل الخبز والسكر والزيوت وبعض الأدوية الأساسية بالإضافة لدعم بعض الصادرات المختلفة ودعم المنتجات البترولية، ودعم للخدمات يشمل مثلاً دعم القروض الميسرة للإسكان الشعبي لمحدودي الدخل ومساندة المزارعين وخدمات التأمين الصحي، وهناك دعم غير مباشر للهيئات الاقتصادية العامة مثل تحمل الخزانة العامة تقديم أسعار مدعمة لهيئة السكك الحديد ومرافق المياه والصرف الصحي وقطاع الصحة والنقل العام وغيرها.
ما يدعو الحكومات لاتباع سياسات الدعم هو حماية الفقراء ومحدودي الدخل عن طريق دعم منتجات وخدمات المعيشة اليومية كالغذاء والدواء والتعليم والنقل والصحة، إلخ، وتهدف أيضًا لدعم الصناعة الوطنية من خلال تحفيز الشركات على توفير السلع والخدمات للمستهلكين بأسعار مناسبة أو مدعمة أي أقل من الأسعار العالمية، أو قد تدعم الحكومة الصناعة الوطنية لمساعدتها في منافسة مثيلتها الأجنبية وتعزيز قدرتها التنافسية التصديرية.
احتجاجات في مصر بسبب تقليل الحكومة المصرية الدعم على الخبز
ويقف الخوف من الضغوط التضخمية حافزًا للحكومة للتمسك بالدعم، فترك الأسعار لقوى السوق (العرض والطلب) قد يحدث تغييرات في تكلفة الإنتاج والصناعة والنقل وبالتالي زيادة في أسعار السلع والخدمات على المستهلك الذي تسعى الحكومة ضمان مستوى معيشي مناسب له، كما حصل مؤخرًا في مصر إذ أدى تخلي الحكومة عن سياسة الدعم إلى ارتفاع في المعدل العام للأسعار بشكل غير مسبوق خلق أزمة ومشاكل كثيرة للسكان وبالأخص لدى الفقراء وذوي الدخل المحدود.
تهدف سياسة الدعم الحكومي لحماية الفقراء ومحدودي الدخل عن طريق دعم منتجات وخدمات المعيشة اليومية
أما من جهة المستهلك وليس الدولة، فالدعم سياسة يحبذها العامة، إذ يحفظ لهم حياة كريمة بفضل ما يحصلون عليه من سلع وخدمات كثيرة رخيصة الثمن، وهذا يصعّب على الحكومة تعديل أو إلغاء الدعم وتؤدي في كثير من الأحيان إلى اندلاع احتجاجات ضد الحكومة في حال قررت إلغاء الدعم، وتكثر الأمثلة عن هذا، فتخلي الحكومة المصرية عن دعم الخبز أدى إلى خروج احتجاجات في الشارع لرفض هكذا قرارات.
وفي الأردن تصاعدت حدة الانتقادات للحكومة بسبب إلغاء الدعم على عدد من السلع والخدمات أبرزها أسعار الكهرباء والوقود، وتقف مشكلة بارزة في سياسة الدعم وهي أن الدعم في الغالب يذهب لغير مستحقيه ويستفيد منه الغني أكثر من الفقير بالشكل الذي يكرس خللاً في العدالة الاجتماعية في المجتمع.
مشكلة الدعم الحكومي أن الدعم يذهب لغير مستحقيه ويستفيد منه الغني أكثر من الفقير بالشكل الذي يكرس خللاً في العدالة الاجتماعية في المجتمع
إذ سيصبح لدى الغني قدرة أكبر على الاستهلاك مقابل استهلاك محدود من قبل الفقير ومحدودي الدخل، ودعم أسعار الوقود والكهرباء سيفيد الفقير ومحدود الدخل وبنفس الوقت سيفيد أيضًا صاحب المصنع والمعمل والغني، فإذا لم تكن هناك إجراءات تفصيلية لقنوات صرف الدعم فإن ذلك الدعم سيذهب لغير مستحقيه ولن يحقق الهدف الأساسي المأمول منه.
موقف المؤسسات الدولية من الدعم الحكومي
تسعى حكومة أي بلد من خلال تطبيق جملة من السياسات الاقتصادية إلى توفير حياة كريمة للمواطن على المستويات كافة، من توفير للسلع والخدمات وفرص العمل والحد من الفقر والبطالة وتوزيع الثروة بشكل عادل وأمور أخرى.
إلا أن سياسة الدعم في البلدان العربية من حيث إنها ساعدت على حماية الفقراء وخففت العبء عن محدودي الدخل، أدت من ناحية أخرى إلى زيادة العبء والعجز المالي على الموازنة العامة للدولة وتشوه الأسعار والتربح من ازدواجية السوق (سوق نظامية وسوداء) بالإضافة إلى ما ذكر من تسرب الدعم لغير مستحقيه، من وجة نظر أولى فالسبب في ارتفاع العجز المالي كان الدعم الحكومي ومن وجهة نظر أخرى فالسبب يعود إلى قلة الاستثمارات والفساد والركون للسلع الريعية.
المنافسة الحرة في المجتمعات الغربية أدت إلى الاحتكار في النهاية وأثبتت التجربة الليبرالية الصرفة أن ترك كل فرد يفعل ما يشاء سينتهي إلى أن الأغلبية لن يستطيعوا فعل ما يريدون
ارتفاع الأسعار العالمية أدى إلى ارتفاع فاتورة الدعم وبالتالي تحميل الموازنة المزيد من العجز المالي وهو ما لم تتمكن العديد من الدول العربية من تحمله، ولجأت للاقتراض الداخلي والخارجي ولكن في ظل تعاسة أداء تلك الاقتصادات لم يسهم الاقتراض إلا إلى مزيد من التأزم.
إذ لجأت لصرف المبالغ المالية على بنود النفقات العامة من رواتب وعلاوات ودعم حكومي، إلخ، وتركت البنود الاستثمارية وضخ تلك الأموال في قنوات الاستثمار الكفيلة بإنقاذ الاقتصاد مما هو فيه، فتزايد العجز المالي أكثر وعجزت عن سداد التزامات الدين من فوائد وأصل الدين، وصارت الحكومة تقترض لسد القرض، فتوجهت إلى المؤسسات الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي لطلب المساعدة منها بهدف تصحيح مسار الاقتصاد وإنقاذها.
كريستين لاغارد مع رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد
وعند دخول البنك وصندوق النقد الدوليين إلى تلك الدول لإنقاذ اقتصاداتها فرضت عليها قائمة من “الأدوية” تقوم على الأساس الليبرالي الذي تكونت منه تلك المؤسسات، فطلبت من تلك الدول كف يد الحكومة عن التدخل في الاقتصاد والتخلي عن سياسات الدعم وفرض ضرائب ورفع الأسعار وتعويم العملة وتحفيز قنوات الاستثمار لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
سوى أن هذه الإجراءات في ظل أداء الاقتصاد المخيب ما قبل القروض وما بعده، فاقم من الأزمات المعيشية للمواطنين، بسبب النتائج السلبية التي أعقبت رفع الدعم، موجة تضخمية كبيرة رفعت الأسعار بشكل كبير، وزادت العبء على الفقير ومحدود الدخل بالإضافة إلى اضطرابات في السوق المحلية نفرت المستثمرين والأموال بسبب صدمة تعويم العملة وعدم الاستقرار.
يسعى صندوق النقد والبنك الدوليين إلى فرض رؤى على الدول التي يقدم لها قروض وروشتة الإصلاح الاقتصادي، تتوافق مع الليبرالية الرأسمالية
وهنا يجب التوقف عند تلك النتائج للتبحر أكثر في الإيديولوجية التي نقلتها مؤسستي صندوق النقد والبنك الدوليين، فموطن تلك المؤسستين هي قلعة الرأسمالية العالمية وسند النظام الاقتصادي الليبرالي، الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يتبنى أن مصلحة المجتمع ككل ستتحقق حتمًا من خلال محاولة كل فرد تحقيق مصالحه الخاصة أي دون تدخل الحكومة في نشاطات الاقتصاد.
لذلك فالموقف الليبرالي الرأسمالي من الدعم الحكومي هو موقف سلبي رافض له من الناحية النظرية بالمطلق باعتباره شكل من أشكال التدخل الحكومي، ومن هذا الباب يسعى صندوق النقد والبنك الدوليين إلى فرض رؤى على الدول التي يقدم لها قروض وروشيتة الإصلاح الاقتصادي، بالشكل الذي تتوافق مع الليبرالية الرأسمالية للاقتصاد.
ولكن من الناحية العملية، لم تستطع الدول الأوروبية الرأسمالية الثبات على ذلك النظام (الليبرالي) فبعد القرن التاسع عشر كان هناك ضرورة لتدخل الدولة (الدعم الحكومي) في الاقتصاد لأن المنافسة الحرة في المجتمعات الغربية أدت إلى الاحتكار في النهاية وأثبتت التجربة الليبرالية الصرفة أي ترك كل فرد يفعل ما يشاء سينتهي إلى أن الأغلبية لن يستطيعوا فعل ما يريدون.
الموقف الليبرالي الرأسمالي من الدعم الحكومي هو موقف سلبي رافض له
وتقدم الدول الأوروبية اليوم، كأحد أشكال التدخل الحكومي أو الدعم الحكومي، برامج الضمان الاجتماعي ودعم العاطلين عن العمل والدعم للقطاع الزراعي وغيرها، وكذلك الأمر في الولايات المتحدة نفسها والتي تدخلت أيضًا بعد الأزمة المالية العالمية 2008 بشراء القروض المتعثرة من البنوك لتجنب إفلاسها، وطرحت مئات المليارات في الأسواق لإنعاش الاقتصاد.
تقدم الدول الأوروبية اليوم كأحد أشكال التدخل الحكومي أو الدعم الحكومي، برامج الضمان الاجتماعي ودعم العاطلين عن العمل والدعم للقطاع الزراعي
هناك تجارب كثيرة لدول سارت وفق خطط مؤسستي صندوق النقد والبنك الدوليين وغيرها، وقامت برفع الدعم عن السلع والخدمات بشكل تدريجي وخصخصة مؤسسات حكومية وتعويم العملة كما حصل في العقود الماضية في البرازيل وإندونيسيا وتركيا وبلدان أخرى، ولكن تلك الدول ورغم أنها لا تزال تعاني من بطالة وفقر فقد تمكنت من الخروج ولو نسبيًا من جحيم الأزمة من خلال تهيئة بيئة استثمارية مناسبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، مع محافظتها على شكل معين من أشكال الدعم الحكومي.
الدعم الحكومي ليس هو السبب في عدم دفع الاقتصاد نحو التطور والازدهار بل السياسات الحكومية المتبعة الكفيلة بدعم الفرض الاستثمارية وتعبئة المدخرات الوطنية للاستثمار في مجالات مختلفة، هي التي تلعب دورًا بارزًا في ازدهار الاقتصاد من عدمه، فهناك دول نجحت في ظل تطبيقها لسياسات الدعم الحكومي وأخرى نجحت في ظل تطبيقها لسياسات ليبرالية.
عقود من سياسات الدعم الحكومي في دول عربية لم تنجح في رفع سوية الاقتصاد والمواطن العربي، وستتكرر التجربة مع “لبرلة” الاقتصاد في حال اتباع نفس السياسات القديمة.