يعيدني قرار منع ارتداء العباءة في المدراس الفرنسية الصادر في 27 أغسطس/آب الماضي إلى البحث مجددًا في ردود فعل النسويات الغربيات على هذا الأمر، لأجد أن الوضع لم يختلف كثيرًا عن عام 2010 حين مُنع ارتداء النقاب أيضًا في كل أنحاء فرنسا، فقد انقسمت ردود الفعل الغربية حينها بين صمت مطبق من البعض وتفاؤل وترحيب من البعض الآخر على أمل أن يكون البداية لتخليص النساء المسلمات من الحجاب، بوصفه “أحد أكبر أشكال السلطة الأبوية التي تهدف إلى عزل المرأة بعيدًا عن الحياة العامة”.
وبالطبع كما تبرر فرنسا قراراتها بالتضييق على العرب والمسلمات بشكل خاص بمبادئ العلمانية وحق المعلم في “تقييم السلوك العام للطالب”، نجد على الضفة الأخرى نسويات غربيات بيضاوات يبررن مواقفهن تجاه هذه القوانين العنصرية بأنها تضع حجر الأساس “لتحرير المرأة المسلمة وخلع غطاء الجهل والحرمان عنها”.
وأيضًا تنقية المجتمع الفرنسي من الفكر الذي يحمله اللاجئ واللاجئة المسلمة من بلادهم، ببساطة لأن هذا القرار بالتحديد لم يمنع فقط ارتداء العباءة في المدارس الحكومية، بل سيصل إلى التسلط على كل أنواع الألبسة الثقافية أو التقليدية للشعوب العربية وغيرها، كما حدث بالفعل بمنع شابة من ارتداء زي الكيمونو الياباني ومنعها من دخول الصف في أول أيام العام الدراسي.
في البدء كن النساء البيض
في وسط الجدال الحاصل بين قلة من المثقفين الليبراليين وتشجيع واسع من النخب المحافظة، غابت تصريحات المجمعات النسوية الغربية عن المشهد، فلم يصدر أيّ بيان يدين تزايد هوس دولة فرنسا بأجساد النساء والتضييق عليهن ومنعهن من التعبير عن معتقداتهن، بينما كانت هي ذاتها أول من قادت حملات لمناصرة قضية الأيقونة الإيرانية للحرية، مهسا أميني، وحقوق النساء الإيرانيات قبل عام فقط.
لكن هذا الأمر ليس غريبًا بطيبعة الحال، فما زلنا رغم مرور عشرات السنين على الموجة الأولى للنسوية نلمس بوضوح النظرة الفوقية والانتقائية في دعم “وفلترة” المجمعات النسوية الغربية لمشاكل النساء المسلمات والعربيات وذوات البشرة الملونة أيضًا.
إذ فجأة تصبح خرقة التضامن البنفسجية والعابرة للحدود هلامية بما يكفي لتنزلق منها “الأخريات” ومشاكلهن وحريتهن، ليحافظن على البقاء في مكانة “الأعلى” والأكثر تحضرًا كقوى استعمارية لم تمسح آثارها من عقولهن.
https://www.youtube.com/watch?v=YCIluOGkCIE
في لقاء للمفكر السياسي الفرنسي البارز، فرانسوا بورغا، مع وكالة الأناضول، يشدد على أن “الدفاع عن العلمانية، الذي يُستشهد به عادة كسبب لمعارضة الإسلام في فرنسا، ليس في الواقع هو السبب الحقيقي، وإنما لأن أبناء المستعمِر لا يريدون قبول حقيقة أن أبناء المستعمَر يرفعون أصواتهم ويطالبون بحقوقهم”.
وهو ما يعيدنا للنظر في تفصيل القانون الأخير، فقد نص قانون وزارة التعليم، بإدارة غابرييل أتال عضو الحزب الاشتراكي البارز (جرت الموافقة عليه من القضاء الإداري لاحقًا)، بمنع ارتداء العباءة للطالبات والطلبة والمعلمين أيضًا، نتيجة تزايد أعداد المعلمات المسلمات في المدارس الحكومية، ما يتيح ضمنًا لعاملة النظافة على سبيل المثال أن ترتدي الحجاب دون مشاكل على الإطلاق، أما إن أرادت أن ترتدي العباءة وتتعلم لتصبح أستاذة جامعية أو محامية، فهذا ممنوع.
لطالما كانت معايير النسويات الغربيات محل جدال قائم يعاد تفكيكه كل فترة من النسويات والمدافعات عن حقوق المرأة حول العالم، إلا من المنتسبات لهذه الفئة، إذ ما زلن يرين في أنفسهن النواة الأولى والأنقى لنساء العالم المتحضر بفضل لونهن الأبيض ليس إلا.
في بدايات نشأة هذه الحركة كان تركيزها يصب في هدف واحد وهو المطالبة بحق التصويت للنساء أسوةً بالرجال والحصول على فرص أكثر للتعليم والعمل، وبالفعل تحقق الهدف بموجب اتفاقية سينيكا فولز عام 1848، قرب نهاية الثورة الصناعية.
لكن معالم استبعاد احتياجات وحريات النساء الأخريات بدأت تطفو على السطح واستمرت حتى يومنا هذا، إذ فشلت النسوية البيضاء في الاعتراف بالتحديات الخاصة التي تواجهها النساء من أقليات وأعراق مختلفة ومعالجتها، التي غالبًا ما تتمحور حول مشاكل متعلقة بالعنصرية والطبقية وغيرها من أشكال التمييز.
في مقال مشترك لجوديث سانت جوليان وإيميلي هالغرين نشر عام 2021 عبر موقع “نيو أمريكا” يقلن فيه إنه في أثناء تتبعهن لجذور الحركة النسوية البيضاء في الولايات المتحدة وصولًا إلى اتفاقية سينيكا فولز عام 1848، كانت مؤسسات حركة حقوق المرأة يردن في المقام الأول شيئًا واحدًا فقط هو: “تقاسم السلطة على الأنظمة مع الرجال”، وفي سعيهن إلى السلطة، أثبتن أنهن غير راغبات وغير مهتمات بإعطاء الأولوية للحرية السياسية للأمريكيات الأفارقة بعد الحرب الأهلية.
ففي عام 1865، كتبت إليزابيث كادي ستانتون، إحدى أبرز الشخصيات في الحركة المطالبة بحق التصويت للنساء حينها، رسالة إلى الصحافة تقول فيها: “الآن، بينما تتحرك البوابة السماوية للانفتاح على الحقوق المدنية ببطء، فإنها تصبح بمثابة بوابة للحقوق المدنية “للجميع” وعلينا معًا أن نتساءل بشكل جدي ما إن كان علينا أن نقف صامتين بينما نرى “سامبو” يدخل المملكة أولًا”.
بهذه الرسالة نرى بوضوح أول أشكال بناء الهرم النسوي الذي شكلت بناءً عليه نسويات الموجة الأولى نظرتهن لباقي نساء العالم، كفئة سياسية متحضرة واستعمارية بطبيعة الحال تنظر للأخريات نظرة شفقة وازدراء وبحاجة للإنقاذ.
هل التضامن كذبة؟
لم يقتصر تطوير “عقدة المخلّصة النسوية البيضاء” على نسويات الغرب، بل تبنتها العديد من المجموعات النسوية العربية وبنت عليها لمواجهة “أعدائهن” الافتراضيات من النساء الأخريات، مثل النسويات المسلمات اللواتي يطالبن بتجديد الخطاب الديني وإعادة النظر في الحقوق والتشريعات المتعلقة بالمرأة لا سيما إعادة النظر في تفسير النصوص الدينية.
على سبيل المثال حضرت قبل سنتين جلسة افتراضية عبر الإنترنت لمجموعة كبيرة من النسويات الليبراليات العرب بدعوة من صديقة افترضت أنني مهتمة بهذا النوع من النقاشات، لأكتشف بعد برهة من الوقت أن موضوع الجلسة يدور حول ما إذا كان هناك شيء يسمى بالنسوية الإسلامية، أو بمعنى آخر، ما إن كن سيعطين الموافقة والشرعية لحركة كهذه بعد مناقشة أفكارها ومبادئها وتحليلها من منظورهن العلماني طبعًا.
وصدمت بكثرة المشاركات ووفرة الآراء بالأخص حين قررن ألا يتخذن أيّ قرار حول المسألة، بل تجاهلها لاعتبار أن أبسط المبادئ النسوية تتعارض بشكل كبير وقاطع مع أصل نظرة الإسلام للمرأة وتشريعاته بما يخص حياتها.
وبما أن المسلمة تؤمن بالأصل بدين الإسلام، فهي بعيدة عن أبسط وأقل مبادئ النسوية طبعًا، منها مناصرة الحريات الجنسية وحقوق مجتمع الميم وغيرها التي تعتبر محرمة قطعًا في النص القرآني.
أتذكر هذا بعد قراءة عدة آراء وتعليقات لنساء ونسويات عربيات في تطبيق “إكس” بشأن قانون منع العباءة في المدارس الحكومية الفرنسية، فمرة أخرى يرين أنهن في مستوى أعلى يسمح لهن بإرشاد وتوجيه الأخريات (المسلمات في هذه الحالة) لما هو أفضل وأكثر انفتاحًا وتحضرًا.
كما حاججت البعض بأن هذا المنع يقتصر فقط على المؤسسات الحكومية وهو ما يمكن تفهمه كون فرنسا من أكثر الدول الليبرالية في إشارة ضمنية إلى أن ماهية الدولة وأساسها يفرض سياسةً معينة على المواطنين احترامها أو مغادرة البلاد! لا بل يصل الأمر بالبعض لأن يقارن القانون الصادر بكونه على الأقل منطقيًا أكثر من البلدان التي تفرض قوانين مشابهة في عمومها، متخذات من إيران مثالًا!
ماذا إذن عن احترام حق المرأة بالمعتقد والتضامن والاستفادة من تجارب النساء الأخريات في المواجهة والتخطيط الإستراتيجي لخلق تغيير يكفل للجميع حقوقًا متساوية في الانتخاب والعمل والتعبير عن الهوية والمعتقد؟
ما يجري الآن في عالمنا العربي ما هو إلا مقدمة لما حدث في أمريكا وبريطانيا، فكما كانت النسويات الغربيات البيضاوات بالولادة يفعلنه قبل عشرات السنين ببعضهن البعض، يفعلنه النسويات العربيات البيضاوات بالتبني اليوم، وهذا أقل ما يمكن وصفه بأنه محاولات حثيثة وبائسة لكسب أهميتهن من فئات أضعف أحيانًا أو ببساطة مختلفة، ما يعزز داخلهن جميعًا شعورًا بالأفضلية والنجاة الوهمية.
وربما يصنف البياض على أنه “فئة بيولوجية” أنقى في علم الأحياء.. لا أعلم، لكنه بالتأكيد مجموعة من الممارسات والأفكار التي وضعت النسوية البيضاء حجرها الأساس لتحافظ على تفوقها في أعلى الهرم، وهو ذاته ما يمكن اعتباره إرث إمبراطوري استعماري.
لذا من الأجدر أن نعيد النظر في علاقتنا بتفويض التضامن النسوي “العابر للقارات” ليحل محله قوة ذاتية تبنى على أسس صحيحة وملائمة لنا.