إعلان التمدد إلى أفغانستان وتعيين حافظ سعيد خان واليًا عليها، قد يكون أحد أسوأ الأخبار التي سمعها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما خلال فترة ولايته الأخيرة، خاصة أن بلاده أكدت في أكثر من مناسبة أنها نجحت في القضاء على الإرهاب واقتلاعه من جذوره في بلاد تمثّل أهمية استراتيجية لكل أطراف الصراع في العالم.
أفغانستان، تلك الدولة الواقعة في آسيا الوسطى والتي تحدها كل من طاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان من الشمال وإيران من الغرب والصين من الشرق فيما تحدها باكستان من الجنوب، ليست مجرّد أراضٍ شاسعة تسيطر عليها قبائل متنوّعة يرتزق كثير منهم على زراعة المخدرات بأنواعها، وإنما هي مفتاح للسيطرة على القارة الآسيوية في أدبيات الجهاديين، ولعل المتأمل فيما كتبه الشيخ عبد الله عزام وأبي مصعب السوري سيلحظ أهميّة هذه الدولة النامية.
مئات المليارات من الدولارات أنفقتها أمريكا وحلفاؤها في حربها على القاعدة وحركة طالبان الأفغانية، لم تكن كفيلة بإنهاء الوجود الجهادي المدعوم من القبائل الأفغانية
مئات المليارات من الدولارات أنفقتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في حربها على القاعدة وحركة طالبان الأفغانية، لم تكن كفيلة بإنهاء الوجود الجهادي المدعوم من القبائل الأفغانية، لكنها في المقابل ساهمت بشكل كبير في نزع مخالب “الأفغان العرب” الذين جعلوا من الأراضي الأفغانية منطلق مشروع “الجهادية العالمية” الذي كانت أحداث 11 من سبتمبر 2001 إحدى أبرز نتائجه.
الحديث عن تجربة الأفغان العرب ودورهم في هزيمة الاحتلال السوفييتي وصعود حركة طالبان وسيطرتها على الحكم ثم إنشاء معسكرات جهادية، يطول ولا يسع المجال للتذكير به بعمق، ولكن ما يهمنا اليوم هو عودة الحديث عن معارك التسعينيات التي عرفها حلفاء الأمس، بعد إعلان تنظيم الدولة الإسلامية تمدّده رسميًا في شهر يناير 2015 إلى أفغانستان التي أطلق عليها اسم “ولاية خراسان”.
إعلان التمدد الذي صاحبه ترحيب وتهليل من أنصار التنظيم الذين كانوا يحتلون مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة منهم “تويتر”، أعقبه سخط وغضب من حركة طالبان الوطنية وحليفتها القاعدة “الجهادية العالمية”، خاصة أن الوالي الجديد على خراسان هو حافظ سعيد خان أحد القادة السابقين لحركة طالبان باكستان، وأحد المعروفين برفضه للمصالحة مع الحكومتين الأفغانية والباكستانية.
حافظ سعيد خان، وفي أول رسالة صوتية عقب تأسيس “ولاية خراسان”، كان قد وجه رسالة إلى عناصر حركتي طالبان باكستان وأفغانستان، قال فيها إنه جاز لهذه المنظمات أن تعمل في غياب كيان الخلافة بهدف إيجاده، ولكن بقيام الخلافة يجب على الجميع مبايعة أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين، ومن يمت بغير بيعة يمت ميتة جاهلية، ولا يجوز بعد اليوم أن يستمر وجود هذه المنظمات الجهادية في المنطقة، وعليها أن تقدم البيعة والولاء لولاية خراسان.
“ولاية خراسان” هو مصطلح يستخدمه الجهاديون لوصف المنطقة الشاسعة التي تضم باكستان وأفغانستان وأجزاء من إيران ومنطقة شينجيانج ذات الغالبية المسلمة التي تقع فى شمال غرب الصين، والهند وكشمير
“ولاية خراسان” التي أعلن المتحدث باسم تنظيم الدولة الإسلامية أبي محمد العدناني، قبول أبي بكر البغدادي بيعة واليها في شهر يونيو 2015، هو مصطلح يستخدمه الجهاديون لوصف المنطقة الشاسعة التي تضم باكستان وأفغانستان وأجزاء من إيران ومنطقة شينجيانج ذات الغالبية المسلمة التي تقع فى شمال غرب الصين، والهند وكشمير، في إشارة إلى تواصل مشروع التنظيم بإلحاق أكثر من دولة في ولاية واحدة، متحدّيًا بذلك التقسيم السايكسبيكوي للعالم، وإحياء لأمجاد الإمبراطوريات الإسلامية التي كانت تسيطر على كل أنحاء العالم.
“إعادة أمجاد” الولاية وتغيير خارطة المنطقة و”نصرة المسلمين”، كان قد عبّر عنه “والي خراسان” الجديد حافظ سعيد خان، حيث صرّح لمجلة “دابق” الناطقة بالإنجليزية الصادرة عن التنظيم بأن “ولاية خراسان ذات أهمية كبيرة للإسلام والمسلمين، فقد كانت هي ومناطق حولها تحت سلطان المسلمين، ثم تغلب على بعضها المرتدون من العلمانيين والروافض، وتغلب على بعض المناطق القريبة منها الكفرة من عبدة البقر الهندوس وملاحدة الصين كما هو الحال في أجزاء من كشمير وتركستان، فالولاية بإذن الله باب لفتح جميع هذه المناطق حتى تُحكم بشرع الله الحنيف من جديد، وحتى تتوسع رقعة الخلافة المباركة”.
بإعلان التمدد في أفغانستان، ضرب تنظيم الدولة عصفورين بحجر واحد، فمن جهة أكد لأنصاره ومتابعيه والمتعاطفين معه، أن خلافته حقيقية لا تعترف بعوائق الحدود واللغة، ومن جهة أخرى، فإنه أحرج الولايات المتحدة الأمريكية التي خاضت حربًا ضروسًا كلفتها أموالاً طائلة دون أن تحقق أهدافها وتقضي على الإرهاب الذي زعمت أنها قادت حملتها التدميرية البربرية لاجتثاثه.
على صعيد آخر، كان إعلان تمدد التنظيم إلى أفغانستان إيذانًا ببداية حرب جديدة بين مشروعين متناقضين تمامًا حتى وإن زعم البعض التقاءهما في بعض خطوطهما، فتباين المشروع الطالباني القومي الوطني الهادف إلى إنهاء الاحتلال وإعادة السيطرة على المناطق الواقعة تحت سلطة حكومة أشرف غاني الموالية للولايات المتحدة، وإقامة نظام حكم إسلامي محلي، يتصادم بشكل مباشر بمشروع “جهادي دولي” لا يعترف بالقومية وبالحدود، بل كان أول من “كسر الحدود” ونصّب “خليفة” إبان سيطرته على مساحات شاسعة من العراق وسوريا في شهر يونيو 2014.
شهر العسل بين الطالبانيين والخراسانيين لم يدم كثيرًا، فبعد نحو 6 أشهر من تنصيب حافظ سعيد خان واليًا، حذّرت حركة طالبان الأفغانية زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبي بكر البغدادي من أي محاولة للتمدد في بلادها، وذلك بعد اشتباكات عنيفة في الشرق بين مقاتلي الحركة وآخرين منتمين إلى التنظيم.
وكتب محمد منصور مساعد زعيم حركة طالبان في رسالة موجّهة للبغدادي “يجب خوض الجهاد ضد الأمريكيين وحلفائهم تحت راية واحدة”، خاصة أن حركته تتصدر المقاومة ضد القوات الغربية وحلفائها في أفغانستان، مضيفًا “إذا اتخذتم قرارات عن بعد، فستخسرون تأييد العلماء والمجاهدين والأنصار” وهو ما سيدفع “الإمارة الإسلامية في أفغانستان إلى التحرك من أجل الدفاع عن هذه المكتسبات”.
أكدت طالبان أنها لن تسمح بأي أنشطة جهادية في أفغانستان تحت أي راية غير رايتها، وأنه في حال تسبب الأشخاص المرتبطين بتنظيم الدولة في أفغانستان في مشاكل لطالبان، فإن ذلك سيؤدي لإثارة غضب جميع المسلمين ضدهم، وستضطر طالبان للرد على أعمالهم
الرسالة الطالبانية لم تتوقف عند هذا الحد، حيث أكدت الحركة أنها لن تسمح بأي أنشطة جهادية في أفغانستان تحت أي راية غير رايتها، وأنه في حال تسبب الأشخاص المرتبطين بتنظيم الدولة في أفغانستان في مشاكل لطالبان، فإن ذلك سيؤدي لإثارة غضب جميع المسلمين ضدهم، وستضطر طالبان للرد على أعمالهم.
الفقرة الأخيرة هي الأكثر أهمية في بيان حركة طالبان التي لم يكن يرأسها آنذاك أي أحد، خاصة بعد إخفائها لسنتين نبأ وفاة الملا عمر، مما شكّل وقتها صدمة لدى متابعيها وأزمة داخل تنظيم القاعدة الذي أكد أميره أيمن الظواهري في أكثر من مناسبة بيعته للملا عمر المتوفّي، ففي هذه الفقرة، ألمحت طالبان إلى أنها لن تسمح بأي أنشطة جهادية في أفغانستان تحت أي راية غير رايتها وأنها سترد على أي خرق لذلك.
تحذير طالبان ورغم عدم وضوحه وحصره المقصود بالأعمال، إلا أن لفظ أنشطة جهادية كانت عامة، فيدخل تحتها الأنشطة المحلية والإقليمية، أي أن تكون أفغانستان منصّة وقاعدة لمهاجمة جيرانها على غرار باكستان، أو منطلقًا للتخطيط والقيام بهجمات داخل الدول المشاركة في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ناهيك عن استهداف القوات الأمنية والجيش الأفغاني.
رد طالبان لم يتأخر كثيرًا، فالقيادة الجديدة للحركة التي تجمعها علاقات وثيقة بإيران وباكستان وبعض الدول الخليجية، تحت إمرة الملا أختر منصور الذي سارع الظواهري لبيعته ووضع مقاتليه تحت إمرته، بدأت حربها على التنظيم وضيّقت عليه الخناق في مناطق وجوده، فكانت الاغتيالات والإعدامات والمواجهات بمختلف الأسلحة عنوان مرحلة ما بعد الملا عمر.
التنظيم لم يبق مكتوف اليدين، فتزامنًا مع معاركه ضد القوات الحكومية الأفغانية، نفّذ مقاتلوه إعدامات جماعية بحق المنتمين لحركة طالبان الذين وصفهم بـ”المرتدين”، حيث بث المكتب الإعلامي لـ”ولاية خراسان” في فترات متفاوتة، إصدارات مرئية وصورًا تظهر ذبح وقتل عدد من مقاتلي طالبان الذين انخرطوا في الحرب عليه.
الخلافات بين تنظيم الدولة وحركة طالبان كثيرة وكبيرة في نفس الوقت، ولعل الخلاف العقائدي الذي يهمله كثير من الباحثين والخبراء هو الأبرز
ورغم مقتل الملا أختر منصور في شهر مايو الماضي، واختيار الملا هيبة الله أخونزاده مكانه، فإن الأوضاع لم تتغيّر بل تطورت على ما هي عليه، حيث تواصل سقوط القتلى والجرحى من الطرفين، تزامنًا مع سيطرة طالبان على مناطق متفرّقة في البلاد وشنّها لهجمات دموية عنيفة أوقعت مئات القتلى والجرحى من الأمنيين والعسكريين والمدنيين.
الخلافات بين تنظيم الدولة وحركة طالبان كثيرة وكبيرة في نفس الوقت، ولعل الخلاف العقائدي الذي يهمله كثير من الباحثين والخبراء هو الأبرز والأصل الذي أسفر عن حرب ضروس بين الطرفين خاصة أن “العقيدة النقية” هي الأساس الذي بنى التنظيم دولته ومنهجه عليه، فحركة طالبان هي نتاج مزاج عقدي صوفي أشعري ماتريدي، بينما تعتبر المدرستان الفقهية الحنبلية والعقدية الحجازية التي أسسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب دستور “دولة الخلافة” بكل ولاياتها، وهو ما سيكون موضوع مقالنا القادم.