ترجمة وتحرير إسلام خالد
عمل المصور الأسترالي أندرو كويلتي على توثيق الحرب الدائرة في أفغانستان منذ ديسمبر عام 2013، وقد تزامن هذا مع بداية تنفيذ قوات الناتو لخطة الانسحاب وكان من المنتظر في هذه الفترة أن تبدأ خطة “الدعم الجاد – resolute support” وإعادة الإعمار، لكن ما حدث كان مختلفًا فقد شهد كويلتي صعود قوة الجماعات المتطرفة واستمرار عمليات النزوح من مناطق لا تزال تشتعل بالصراعات.
وأصبح كويلتي أول مصور يحصل على جائزة “جولدن والكلي – Golden Walkley” للتميز بالصحافة الأسترالية، ودعته صحيفة الجارديان الأسترالية لحكاية تجربته وتقديم أعماله.
خارج أفغانستان حين يسألني الناس “ما الأحوال هناك؟” يتملكهم شعور بالذنب عندما أصارحهم بحقيقة الوضع بعد 15 عامًا من الإطاحة بحكم طالبان الوحشي وتدفق نصف تريليون دولار من أموال المعونات لهذه الصحراء.
يشعرون بالذنب لفقدان الوجهة وانصراف اهتمامهم إلى حرب العراق ومناطق أخرى في الشرق الأوسط بعد الربيع العربي، يشعرون بالذنب أيضًا لتورط حكوماتهم – في بعض الأحيان بحسن نية – مع الولايات المتحدة بغطرستها وتدخلها في شؤون الدول.
عندما وصلت إلى أفغانستان منذ ثلاث سنوات كان تمرد طالبان يلحق خسائر كبيرة بالقوات الأجنبية والأفغان قليلي الخبرة، وكان الصراع يقتصر على مناطق الريف حيث المجتمعات شديدة القبلية على أطراف عواصم الولايات الـ34 والتي لا تملك الحكومات المركزية المتعاقبة سيطرة كبيرة عليها.
رأيت نتائج الحرب في مناطق الريف في زيارة لمنطقة هيرات بغرب أفغانستان في وقت أعياد الميلاد بعام 2013، عدة مئات من العائلات هاجروا من ولايات مجاورة بسبب الصراعات المسلحة والجفاف ليقيموا مخيمات على طول الطريق الشمالي المؤدي إلى المدينة، ويقوم رجال الأعمال المحليين بإيصال البطانيات والخبز لهذه المخيمات.
وقبل الشروق في هذا البرد القارس يشعل الرجال النار ويقدمون الشاي الساخن لزوجاتهم والأطفال يختبئون تحت الملاءات بخيمات صغيرة من الطوب.
بالعاصمة وأقمارها الصناعية يأخذ نظام الحكم رويدًا بتثبيت أقدامه في ظل سوق يغرق بالعملات الأجنبية، المدارس والجامعات كانت تمتلئ عن آخرها وبدأ يحصل الخريجون على وظائف حكومية كانت تورث دون النظر للكفاءة.
تبدو المدينة من الأعلى مغطاة بأطباق استقبال إشارات التليفزيون والراديو، هذا في ظل انسحاب 90% من القوات الأجنبية والذي كان وجودهم يثير حقد المواطنين الذين أقحموا بالصراع دون ذنب، ولتبدأ الانتخابات الرئاسية الأولى بأفغانستان، وأحلام الحكم الذاتي في وقتها كانت أقرب ما يكون.
عندما تدفق المئات على مقرات الاقتراع في العاصمة والولايات بالمدارس والمساجد ووقفوا في صفوف طويلة للتصويت ﻷول رئيس منتخب، هذا الحلم الذي روادهم أصبح على وشك التحقق، لكن هذا الشعور لم يستمر حيث خرجت نتيجة الانتخابات بتقدم د. عبد الله عبد الله، لكنه لم يحصل على نسبة الـ50% اللازمة لحسم الانتخابات.
ومن ثم كانت الإعادة في يونيو 2014 بين د. عبد الله عبد الله ومنافسه أشرف غني وقد حقق الأخير النسبة الأعلى في التصويت، ألقى عبد الله تهم التزوير على نتيجة الانتخابات وطالب بإعادة عد الأصوات، واستمر هذا لعدة شهور شهدت فيها البلاد ظروفًا اقتصادية سيئة، وفقدت العملة قيمتها وخسر الناس وظائفهم.
فاز غني في الأخير بعد اتفاق قامت به الولايات المتحدة بين الطرفين ليحصل عبد الله على منصب المدير التنفيذي، لكن ما حدث ترك أثره السلبي الدائم، وحتى المواطنين الأفغان فقدوا الأمل بما يمكن للديمقراطية أن تحقق لهم، وخارج العاصمة قامت طالبان بإسكات النقاشات السياسية بهجمات عديدة في المحافظات المختلفة.
في أواخر سنة 2014 تم إيقاف العمليات العسكرية للقوات الأجنبية في أفغانستان بشكل نهائي والذي كان عددهم 150 ألف جندي، وتحملت القوات الأفغانية التي يقدر عددها بـ350 ألف عبء الحفاظ على الأمن العام، كانوا مجهزين بشكل جيد وأكثر عددًا من مقاتلي طالبان بنسبة قد تصل إلى 1-10، رغم ذلك كانت خسائر القوات الأفغانية بسنة 2014 أكبر من مجموع خسائر القوات الأجنبية منذ الغزو سنة 2001.
كان الجنود الأفغان قد حصلوا على تدريب عادٍ وكانت رواتبهم الضئيلة غير كافية لتشجيعهم وهذا بالإضافة لانتشار ظاهرة التغيب، والفساد بين القيادات العليا للقوات الأفغانية بجميع أسلحتها كان ولا يزال عقبة كبيرة، بعضهم يبيعون الأسلحة والزخائر لقوات طالبان وآخرين يستولون على مرتبات الجنود الذين تركوا أماكنهم والذين على الأرجح ليس لهم وجود سوى على الورق.
شهد زميل لأحد ضباط القوات الأفغانية أنه كان يطلب علاوة جنوده ليشتري بها سيارة له لا لتوزيعها على الجنود الذين يقاتلون في شمال البلاد ولم يكن هناك المال الكافي ليشتري سيارة تويوتا لاند كروزر التي كان يرغب بها.
والآن مع غياب القوات الأجنبية عن المشهد تعود أفغانستان لويلات الحرب الأهلية، على حسب تصريح المدعي العام لشؤون إعادة الإعمار بأكتوبر أن طالبان تسيطر أو تؤثر أفكارها على قرابة الـ40% من الأفغان، وهذه النسبة هي الأكبر منذ كانت طالبان تحكم البلاد بنوفمبر 2001.
قضيت عدة أيام هذه السنة بصحبة جنود القوات الأفغانية على خطوط التماس في هيلماند، وهي تبعد عن العاصمة نحو نصف ساعة وهناك كانت قوة صغيرة تتخذ من منزل مهجور مقرًا لها، ومن خلال حفرة بالجدار الخارجي للمبنى أشار أحد الضباط إلى موقع آخر على بعد 50 مترًا تحت سيطرة طالبان، وفي المرة الثانية أو الثالثة التي زرتهم فيها قيل لي إن اثنين من الجنود الذين كنت قد قابلتهم قتلوا في كمين الأسبوع الفائت.
في آخر زيارة لي لمدينة هيلماند كان قد تم اجتياح القرية بالكامل، وكانت أعداد الضحايا المدنيين على نفس الوتيرة، وفقًا لبعثة الأمم المتحدة للعون أكثر من 5000 بين قتيل وجريح في الستة شهور الأولى من سنة 2016 منهم نحو الثلث من الأطفال.
لتدعيم موقفهم في مواجهة القوة الوليدة لـANSF توجه قوات طالبان تركيزها على المدن الكبرى بدلاً من المناطق النائية التي كانوا ينشغلون بها قبلًا، وكانت أولى بوادر هذا التحول الاستراتيجي في أبريل 2015 بمدينة كوندوز شمال البلاد بعد شهور من انسحاب القوات الأجنبية، ورغم فشل طالبان بادئ الأمر فإنهم مع الوقت اكتسبوا مزيدًا من الثقة، لتسقط مدينة كوندوز بأيدي المتمردين في سبتمبر 2015.
سافرت إلى المدينة بعد توارد أخبار في الأيام التي استغرقتها القوات الأفغانية لبناء قاعدة لهم على حدود المدينة دمرت قوات جوية أمريكية مركز كوندوز لعلاج الصدمة وكان تحت إدارة منظمة أطباء بلا حدود اعتمادًا على معلومات مغلوطة من جنود أفغان على الأرض.
تمكنت بعد أسبوع من الدخول إلى المشفى، أجساد مشوهة تكاد لا تُميّز ظلت ملقاة مع استمرار القتال للسيطرة على المدينة وتوسعه حتى وصل لأبواب منظمة أطباء بلا حدود.
أحد الضحايا كان باينازار محمد نازار متزوج وله أربعة أبناء، كان قد أصيب خلال تبادل ﻹطلاق النار في أثناء عودته من العمل بصباح 1 أكتوبر، وبدأ الهجوم على المشفى في أثناء وجوده بغرفة العمليات لغلق الجرح، كان من المنتظر التصريح بخروجه من المشفى لكن أحد الشظايا الناتجة عن إلقاء المروحية 211 قذيفة أصابت رأسه.
بعد شهر رجعت إلى المدينة لمقابلة عائلة باينازار، ابنه الأكبر سميع الله كان يفكر في ترك المدرسة والحصول على أي وظيفة لمساعدة عائلته، ورأيت زهرة ابنته تبكي عند قبره متمنية أن يرجع إلى المنزل.
في معقلها التقليدي بجنوب البلاد بدأت طالبان بالسيطرة على عواصم ولايات أوروزجان وهيلماند بأواخر عام 2015، والآن أصبحت مدن تارن كوت ولاشكار جاه جزرًا محاطة ببحر من المتمردين.
مع تقدم قواتهم بشكل منتظم كخط مستقيم على خريطة الطقس، أكثر من 1.3 مليون مدني أجبروا على ترك منازلهم وهم لا يملكون أدنى فكرة عن إمكانية عودتهم، بالإضافة إلى السكان الذين أجبروا على النزوح داخل حدود أفغانستان، أكثر من نصف مليون لاجئ أفغاني منذ الاجتياح السوفييتي عام 1979 بالجوار الباكستاني في عام 2016 وحده تم ترحيلهم قسرًا أو ضُيق عليهم حتى أصبحوا لا يملكون خيارًا سوى العودة لبلادهم.
بأرضٍ خالية على الحدود الشرقية لمدينة كابل وصلت شاحنات ممتلئة عن آخرها بهؤلاء اللاجئين وأمتعتهم تحت غيوم من الغبار، في أثناء وجودي هناك كان يتم تسجيل 5 آلاف لاجئ يوميًا مع المندوب السامي لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة، بعد سفر مرهق بشاحنات مزدحمة بالأواني والدواجن والماشية خطا اﻷطفال أولى خطواتهم على الأرض الأفغانية.
أغلبية اللاجئين العائدين يسلكون الطريق عبر المقاطعة الشرقية نانجارهار المتاخمة للمنطقة حيث استقروا بباكستان، وتقع نانجارهار على حدود مناطق قبلية ذات حكم شبه مستقل، حيث بدأت العديد من الجماعات المتطرفة بالظهور، والآن تمثل هذه المناطق بداية ظهور الدولة الإسلامية – الدولة الإسلامية لمقاطعة خرسان (الاسم التاريخي لهذه المنطقة).
وكمجموعة مكونة في أغلبها من غير الأفغان، لا تحوز الدولة الإسلامية على تأييد السكان المحليين، بعكس طالبان التي تمكنت من تأصيل جذورها بالعديد من مناطق البلاد، ومع ذلك باستخدام القوة العسكرية كبديل عن الدبلوماسية فرضت الدولة الإسلامية سيطرتها على قوس بطول المنطقة الحدودية والذي يمثل تهديدًا لنجاح الخطة الأصلية للولايات المتحدة في الحرب على أفغانستان وهو تفكيك قوة القاعدة.
في أقل من سنة قامت الدولة الإسلامية بموجة من أعنف العمليات تجاه المدنيين بكابل منذ عام 2001، وبينما تركز طالبان عملياتها على الأهداف العسكرية والحكومية، اختارت الدولة الإسلامية مدنيي الطائفة الشيعية كهدف رئيسي لهجماتها.
في يوليو لقى أكثر من 80 ضحية مدنية من قبائل الهزارة (وهي أقلية شيعية) حتفهم في تفجير انتحاري بتجمع لهم بمدينة كابل، في التقاليد الإسلامية يستمر الحداد على الموتى أربعين يومًا، تتحرك أعداد من عائلات وأصدقاء الضحايا تجاه أعلى التلة حيث توجد مقبرة جماعية دفن بها 20 ضحية على قمة مطلة على العاصمة.
وفي إحدى ليالي الأربعاء بشهر أغسطس شهدت البلاد أكثر أعمال العنف تأثيرًا، حيث اقتحم مسلح حرم الجامعة الأمريكية بأفغانستان حيث كانت تجري صفوف الفترة المسائية، قتل على الأقل 16 شخصًا ومعهم قلوب طلاب الجامعة الشباب الذين يقع مستقبل البلاد على عاتقهم.
في الأيام التي تلتها غرقت شبكات التواصل الاجتماعي بتأبين ﻷحد ضحايا هذه الهجمات وهو طالب بكلية القانون جامشيد زفر، وبيوم الجنازة قابلت عائلته التي تسكن بأحد المجمعات السكنية من بقايا الاحتلال السوفييتي بكابل وسُمح لي بحضور الجنازة، تحرك المئات نحو مقابر تطل على جبال المنطقة الجنوبية، وكان وسط المشيعين عدد من مصابي الهجوم.
وسط كل هذا لا يزال الأفغان يتسمون بقدرتهم على التعافي السريع، حيث تم افتتاح مبني جديد للبرلمان، وعلى الطريق يقوم مجموعة من المهندسات النساء بإعادة بناء قصر دار الأمان المهيب المدمر من أثر الحروب لكنه يظل يمثل دليلًا على التاريخ العظيم لأراضٍ أصبحت بالكاد تقف على أقدامها بعد أن دمرتها عقود من الحروب.
وعلى صعيد آخر ما زالت قبائل الهزارة تنظم المظاهرات، وشهدت الجامعة الأمريكية في نهاية الأسبوع الماضي بداية امتحانات القبول للطلاب المحتملين لعام 2017.
المصدر: الغارديان