في زيارة هي الأولى من نوعها منذ تولي دونالد ترامب مقاليد الأمور داخل البيت الأبيض، غادر الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد السعودي، صباح اليوم الإثنين، متوجهًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لبحث تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، ومناقشة القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، وذلك خلال لقائه المرتقب مع الرئيس الأمريكي وعدد من المسؤولين الخميس القادم، حسب وكالة الأنباء الرسمية السعودية.
تأتي الزيارة في وقت تحيا فيه العلاقات بين واشنطن والرياض حالة من التقارب في وجهات النظر حيال العديد من القضايا، فضلاً عن المستجدات والتطورات الأخيرة التي شهدتها بعض الملفات الساخنة بمنطقة الشرق الأوسط، والتي لعبت دورًا محوريًا في تفعيل سبل التعاون المشترك بين الجانبين، في ظل التغير الواضح التي تشهده خارطة التحالفات في المنطقة جراء الصراع الخفي بين موسكو وواشنطن لبسط المزيد من الهيمنة والنفوذ.
واشنطن والرياض.. مزيد من التقارب
على عكس ما أثير إبان الانتخابات الرئاسية الأمريكية بشأن توتر الأجواء بين واشنطن والرياض جراء التصريحات التي جاءت على لسان دونالد ترامب ضد السعودية والتي كانت في معظمها ساخرة من توجهات وسياسات المملكة الخارجية، ها هي العلاقات بين البلدين تشهد نموًا وتقاربًا لم تشهده في أي فترة مضت.
التحول الجذري في الموقف الأمريكي تجاه الرياض ليس مفاجئًا كما قال البعض، كما أنه لم يكن خارج السياق حسبما وصفه عدد من المحللين، إذ إنه يعكس التوجه البراجماتيكي الواضح لدى كل من الديوان الملكي من جانب والبيت الأبيض من جانب آخر، والذي ينظر إلى المصلحة العليا للبلاد كونها الترمومتر الذي يحدد مستوى وطبيعة السياسات الخارجية حيال دول بعينها، وكما يقول شيوخ الدبلوماسية فليس هناك عداءً دائمًا أو صداقة دائمة، فقط المصالح هي من تحدد الصديق والعدو.
سلمان الأنصاري رئيس اللوبي السعودي في واشنطن (سابراك)، أشار إلى أن زيارة محمد بن سلمان لواشنطن جاءت بدعوة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، معربًا عن تفاؤله بشأن قدرتها على تعزيز العلاقات التاريخية بين الرياض وواشنطن، حسبما غرد على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”.
ستتعزز العلاقة التاريخية بين الرياض وواشنطن يوم الإثنين القادم بزيارة سمو #ولي_ولي_العهد ل البيت الأبيض، بدعوة من فخامة الرئيس دونالد #ترامب pic.twitter.com/KYS7Kh32rx
— Salman Al-Ansari (@Salansar1) March 12, 2017
ماذا يريد ترامب من السعودية؟
خلال العامين الأخيرين من حكم الرئيس الأسبق باراك أوباما تراجع الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط بصورة ملفتة للنظر، مما أفسح المجال للدب الروسي لبسط نفوذه بصورة شبه كاملة على معظم خيوط اللعبة، وبات اللاعب الأول المتحكم في ترتيب وبناء وإعادة رسم الخارطة السياسية لكثير من دول المنطقة.
ففي سوريا انحصر المشهد في التحالف الثلاثي (الروسي الإيراني التركي) لإدارة الأزمة بصورة كاملة، وتم استبعاد العلم الأمريكي من جميع المنصات التي شهدت جولات المفاوضات المختلفة، كذا الوضع في اليمن، حيث بات الصراع سجالاً بين طهران والرياض بعدما تراجع الدور الأمريكي بصورة كبيرة.
الأمر لم يقتصر على غياب الدور الأمريكي شرق أوسطيًا فحسب، بل تجاوز إلى تهديد علاقات أمريكا بحلفائها في المنطقة، مما ساهم بوضع المصالح الأمريكية على المحك، فضلاً عن تهديد أمن الكيان الصهيوني جراء بعض التطورات على الساحة في مقدمتها زيادة النفوذ الإيراني في سوريا.
اختيار ترامب للسعودية للقيام بدور الحليف الجديد في المنطقة لم يكن عشوائيًا، خاصة بعدما أبدته من استعداد كامل لتحمل تكلفة إقامة المناطق الآمنة ، كذلك إرسال قوات عسكرية للمحاربة بجانب القوات الأمريكية في سوريا
كل هذا دفع ترامب في ضوء شعاره الذي رفعه في حملته الانتخابية بعودة بلاده عظيمة كما كانت، إلى محاولة العودة من جديد لمنطقة الشرق الأوسط، وكان ذلك عن طريق الملعب السوري، من خلال مقترح المناطق الآمنة، ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وما كان يمكنه العودة إلا من خلال حلفاء جدد قادرين على تحمل كل أعباء العودة المادية، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها أمريكا.
اختيار ترامب للسعودية للقيام بدور الحليف الجديد في المنطقة لم يكن عشوائيًا، خاصة بعدما أبدته من استعداد كامل لتحمل تكلفة إقامة المناطق الآمنة، كذلك إرسال قوات عسكرية للمحاربة بجانب القوات الأمريكية في سوريا، فضلاً عما تمثله المملكة من قوة في مواجهة إيران، والتي تسعى واشنطن إلى مزيد من تضييق الخناق عليها بسبب الاتفاق النووي الموقع في 2015، حماية لأمن إسرائيل.
سيطرة روسية إيرانية تركية على خيوط اللعبة في الشرق الأوسط وسط غياب أمريكي
3 ملفات على مائدة الحوار
وفي المقابل فإن تراجع الدور الأمريكي حيال قضايا الشرق الأوسط أفقد السعودية كثيرًا من نفوذها في المنطقة، لا سيما في الأزمة السورية، إضافة إلى التخبط الواضح في اليمن، وهو ما يصب بشكل أو بآخر في صالح الخصم الإقليمي التاريخي للمملكة، إيران، والتي نجحت في استعادة دورها المحوري بشكل كبير على حساب الدور السعودي، وباتت تمتلك الكثير من خيوط اللعبة في ظل الدعم الروسي لها.
ومن ثم ترحب الرياض بعودة أمريكا من جديد للمشهد وبأي كلفة، إذ إنها ترى في تلك العودة الأمل في إحياء حضورها الإقليمي واستعادة دورها مرة أخرى، لا سيما في ظل ما تكنه الإدارة الأمريكية الجديدة من عداء واضح لطهران، لذا فإن الرياض ومن خلال زيارة ولي ولي العهد للولايات المتحدة تسعى إلى تحقيق خطوات ناجحة في ملفات ثلاث:
الأول: الملف السوري
السعوديون يعتقدون أن دخول أمريكا كلاعب أساسي في المشهد السوري حتمًا سيعيد ترتيب الأوراق من جديد، ويسحب البساط من تحت موسكو وطهران، لذا تتطابق وجهات النظر بين واشنطن والرياض حيال مسألة العودة من جديد، سواء عن طريق المناطق الآمنة والتي تعهد العاهل السعودي بتحمل نفقتها خلال المكالمة الهاتفية التي جرت بينه وبين ترامب مؤخرًا، أو عن طريق إرسالة قوات عسكرية خليجية وعربية للقتال بجانب القوات الأمريكية ضد تنظيم “داعش” حسبما أعلن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في حوار له مع صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ” الألمانية الشهر الماضي.
لذا فإن الملف السوري وبحث سبل التعاون الأمريكي السعودي في مجال مكافحة الإرهاب ودراسة سبل التنسيق العسكري داخل سوريا سيكون على قائمة الملفات التي سيتم تباحثها بين محمد بن سلمان ودونالد ترامب الخميس المقبل، في محاولة لإعادة رسم خارطة القوى المؤثرة في الملعب السوري من جديد.
السعوديون يعتقدون أن دخول أمريكا كلاعب أساسي في المشهد السوري حتمًا سيعيد ترتيب الأوراق من جديد، ويسحب البساط من تحت موسكو وطهران
الثاني: الملف اليمني
أما الملف الثاني الذي يحمله ابن سلمان في حقيبته استعدادًا لعرضه على ترامب فهو الملف اليمني، حيث تواجه المملكة صعوبات بالغة منذ إعلان قوات التحالف العربي الحرب ضد الحوثيين في اليمن، لا سيما بعد تراجع الدعم الأمريكي اللوجستي للسعودية في هذه الحرب خلال العامين الماضيين، وهو ما زاد من صعوبة المواجهة في ظل الدعم الإيراني الكبير لقوات الحوثي وأنصار الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح.
التوجهات العدائية الأمريكية لطهران دفعتها إلى مناهضة تحركاتها في أي من دول المنطقة ومنها اليمن، حيث كشفت مصادر أمريكية مسؤولة أن الولايات المتحدة شنت 20 غارة جوية على عدة مواقع لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب في محافظات أبين وشبوة والبيضاء باليمن، وذلك عن طريق استخدم طائرات دون طيار وطائرات مقاتلة يقودها طيارون، في أول هجوم ينفذه الجيش الأمريكي ضد القاعدة في اليمن منذ العملية التي نفذها في يناير الماضي وأسفرت عن مقتل ضابط أمريكي وعدة مدنيين في محافظة البيضاء.
ترامب في خطاب له أمام الكونجرس تعهد بمواصلة القتال ضد التنظيمات الإرهابية في اليمن، وهو ما يعني حضور أمريكي مكثف ووجود شبه مستمر في كثير من المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، ومن ثم تهديد للنفوذ الإيراني يمنيًا، بما يصب في المقابل في صالح السعودية، وهو ما يسعى ابن سلمان للتأكيد عليه خلال لقاء الخميس المرتقب.
التوجهات العدائية الأمريكية لطهران دفعها إلى مناهضة كافة تحركاتها في أي من دول المنطقة، ومنها اليمن
الثالث: الملف الإيراني
أما الملف الثالث والذي لا يقل أهمية عن الملفين السابقين فهو الملف النووي الإيراني وما يحمله من تهديدات لدول المنطقة، حيث تتطابق وجهتي النظر الأمريكية والسعودية بشأن وقف التسلح النووي لطهران، فضلاً عما لوح به ترامب قبل ذلك بإلغاء الاتفاق النووي المبرم في 2015، وتعهده بفرض المزيد من الضغوط وتضييق الخناق على إيران، وهو ما تجسد في تمديد العقوبات المفروضة عليها مؤخرًا.
هنا تتلاقي الرغبة السعودية في تحجيم دور إيران في المنطقة بمزيد من الضغط عليها وتطويق برامج التسلح لديها، بما يعطي الفرصة للرياض لتنفس الصعداء من جديد، واستعادة دورها المفقود إقليميًا، مع الرغبة الأمريكية في سحب البساط من تحت الأقدام الإيرانية في الملفات الساخنة في المنطقة خاصة سوريا، حماية لأمن إسرائيل من جانب، وتفتيتًا للتحالف الروسي الشرق أوسطي من جانب آخر، لذا من المحتمل أن يتصدر هذا الملف جدول أعمال لقاء ترامب وابن سلمان.
المناطق الآمنة.. بوابة ترامب للعودة للمشهد السوري بدعم سعودي
ابن سلمان يقدم أوراق اعتماده
اختيار محمد بن سلمان للقيام بهذه الزيارة التي تعد الأولى من نوعها لمسؤول سعودي بهذا الحجم للولايات المتحدة الأمريكية ولقائه الأول بدونالد ترامب بعد تنصيبه رئيسًا في يناير الماضي من المؤكد أنه ليس اختيارًا عشوائيًا، فرغم ما تم إعلانه من أن الرئيس الأمريكي هو من وجه الدعوة له لزيارة واشنطن فإن أحدًا لم يحدد بصورة واضحة ما إذا كان ترامب وجه الدعوة لمحمد بن سلمان خصيصًا أم أنها دعوة عامة للزيارة، يحدد من يقوم بها الديوان الملكي.
وسواء كانت دعوة ترامب جاءت بالاسم لولي ولي العهد أو ترشيحًا من قبل الديوان الملكي، فإن اختياره للقيام بهذه الزيارة يعطي الفرصة لمحمد بن سلمان لتقديم أوراق اعتماده لدى الإدارة الأمريكية الجديدة كونه الشخصية الأبرز في منظومة الحكم السعودي خلال العامين الماضيين.
البعض فسر تكريم الـ”CIA” لمحمد بن نايف بأنه رسالة واضحة تعكس دعم الإدارة الأمريكية له ليكون حاكمًا للمملكة خلفًا لسلمان بن عبد العزيز، إلا أن زيارة ابن سلمان لواشنطن ربما تشير إلى عكس ذلك
يسعى نجل العاهل السعودي من خلال هذه الزيارة إلى الرد على ما أثير بشأن انقلاب واشنطن عليه ورغبتها في الإطاحة به، وذلك عقب تسلم ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية الأمير محمد بن نايف ميدالية “جورج تينت” التي قدمتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية له تقديرًا لجهوده في العمل الاستخباراتي المميز في مجال مكافحة الإرهاب من قبل مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية مايكل بومبيو خلال زيارته للرياض فبراير الماضي.
البعض فسر تكريم الـ”CIA” لمحمد بن نايف بأنه رسالة واضحة تعكس دعم الإدارة الأمريكية لابن نايف ليكون حاكمًا للمملكة خلفًا لسلمان بن عبد العزيز، في محاولة لإقصاء محمد بن سلمان خارج الحسابات الأمريكية، إلا أن زيارته الأخيرة لواشنطن ربما تشير إلى عكس ذلك.
مما سبق يتضح أن لغة المصالح هي من تحدد قبلة التوجهات السياسية للدول، فتلاقي حاجة أمريكا للسعودية للعودة من جديد للمشهد الشرق أوسطي عبر بوابة سوريا واليمن، مع الرغبة السعودية في تذليل العقبات أمام استعادة واشنطن لدورها الإقليمي بما يحمل بين ثناياه إحياء السعودية لنفوذها مرة أخرى، سيكون هو محور اللقاء المرتقب بين ابن سلمان وترامب بالبيت الأبيض الخميس المقبل.