ترجمة وتحرير نون بوست
العنوان الجانبي لكتاب غاريث بورتر الجديد “الأزمة المختلقة” هو “القصة المسكوت عنها بخصوص فزاعة برنامج إيران النووي” هو اختيار جيد للغاية، فالعديد من “الأزمات المختلقة” التي يشير إليها الكتاب لم تُحك بعد، بل إنها ترقى إلى ما يسميه الكاتب “السرديات البديلة”.
لكن لا تنخدع بلفظ “البديلة” الذي عادة ما يستخدم للحديث عن المؤامرات التي لا وجود لها، فالمرء يستشعر أثناء قراءته للكتاب، الذي سيُنشر في الرابع عشر من شهر فبراير/شباط الجاري، مدى عمق الكاتب ومدى نهمه للحقيقة ونفوره من الخداع.
بورتر يعمل على البحث في القضية الإيرانية منذ عشر سنوات على الأقل، ونتيجة أبحاثه التي صدرت في هذا الكتاب هي إضافة رائعة لما كُتب في الشأن النووي الإيراني، كما أنها وعلى العكس من كل الأعمال السابقة التي كُتبت في هذه المسألة، تحمل لائحة اتهام واضحة للسياسات الأمريكية والإسرائيلية تجاه إيران.
أحد المحاور الأساسية التي يدور حولها الكتاب هو الدوافع الخفية لتلك السياسات. يرى بورتر أن البيروقراطية والحكومة الفيدرالية في أمريكا كان من مصلحتها، من بعد نهاية الحرب الباردة، أن تبالغ في التخويف من أسلحة الدمار الشامل والتهديد الذي تمثله إيران (وغيرها من البلدان الصاعدة) لتبرير الإنفاق المتزايد في هذا الاتجاه. وخلال فترة رئاسة جورج بوش سعى بعض أعضاء الإدارة الأمريكية لاستغلال المخاوف النووية بهدف “نزع الشرعية” عن الحكومة الإسلامية في إيران ولهندسة تغيير قسري للنظام الإيراني.
وعلى الجانب الإسرائيلي لا يختلف الأمر كثيرا، فكل حكومة منذ عام 1992، سواء من حزب الليكود أو العمل، عملت بشدة على تضخيم التهديد الإيراني وشيطنة القادة الإيرانيين. في وثيقة إسرائيلية نقرأ أن “إيران والأصولية الشيعية هي أكبر تهديد للسلام العالمي”، وكان الغرض من هذا التوجه هو الحفاظ على قيمة إسرائيل لدى الولايات المتحدة باعتبارها حليفا استراتيجيا في المنطقة، ولصرف نظر العالم عن ترسانة الأسلحة النووية الإسرائيلية، بالإضافة إلى خلق الأعذار للبقاء في احتلال الأراضي الفلسطينية.
ويخلص بورتر إلى أن “الدافع وراء السياسات الأمريكية والإسرائيلية تجاه إيران كان هو مصلحة السياسيين والدولة البيروقراطية، وليس نتيجة تقييم موضوعي عقلاني للمؤشرات المتاحة بخصوص دوافع ونوايا قادة إيران”
محور آخر من محاور الكتاب هو التضليل الذي جاء نتيجة تقييم أجهزة الاستخبارات الخاطئ والذي لعب دورا ضارا للغاية في القضية. فالتفسيرات الخاطئة للمعلومات الاستخباراتية التي جاءت منذ بدايات التسعينات أدى بالمحللين الأمريكيين إلى الاعتقاد أن هناك برنامج سري للأسلحة النووية يتم المُضي فيه قدما على نطاق واسع، لكن وفقا لبورتر، فإن برنامج الأسلحة السري هذا لم يبلغ أكثر من بعض الأبحاث المتعلقة بالتصنيع العسكري بين أواخر التسعينات إلى 2003.
التفسيرات الخاطئة يمكن أن تُغفر، لكن يشير بحث بورتر أن المحللين الأمريكيين في النصف الأول من العقد الماضي تجاهلوا أو قللوا من قيمة الأدلة التي تشكك في تقييمات الاستخبارات -الخاطئة- في بداية التسعينات.
وكالة الاستخبارات المركزية كانت تسمع فقط ما تريد أن تسمع، ولذلك فعندما أورد ضابط أمريكي متعاقد مع المخابرات معلومة أن “إيران لا تنوي تسليح برنامجها لتخصيب اليورانيوم” أُمر الرجل بإيقاف الاتصال بمصدره داخل إيران. وهؤلاء داخل المخابرات الذين امنوا بأن إيران لا تريد الحصول على سلاح نووي الآن لم يستطيعوا أن يكتبوا عن ذلك في تقاريرهم النهائية. مثلا، رفض محللو الاستخبارات أن يعطوا وزنا لتحريم إيران استخدام السلاح النووي على أسس دينية، على الرغم من أنه في الوقت ذاته، احترم الإيرانيون حظرا مماثلا على الأسلحة الكيميائية. وكل التأكيدات الإيرانية على عدم الرغبة في امتلاك سلاح نووي تم تجاهلها.
تهمة أخرى يسوقها بورتر لإسرائيل، حيث تعمل دولة الاحتلال في مجال التزوير وتلفيق التقارير الاستخباراتية.
منذ أوائل 2008 وُضع ملف القضية الإيرانية على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بالوكالة الدولية، لكن الملف والأدلة ضد إيران كانت بحوزة الولايات المتحدة منذ 2004، كما أنها كانت بحوزة الوكالة الدولة للطاقة الذرية في 2005، ولمدة سنتين ونصف اعتبر مسؤولو الوكالة كل المواد التي لديهم عديمة الفائدة وغير ذات جدوى في الاتهامات ضد إيران. لكن منذ 2008 بدأت الوكالة في الضغط على إيران للرد على تلك الاتهامات، وهو ما يستنتج بورتر من خلاله (بالإضافة لأدلة أخرى) أن الملفات التي كانت بحوزة وكالة الطاقة تم تزويرها من قبل الإسرائيليين.
بورتر مقتنع كذلك أن الإسرائيليين فعلوا ذلك بعد أن قالت تقارير أمريكية عام 2007 أن الإيرانيين أوقفوا برنامجهم النووي بشكل كبير في عام 2003، وبعد أن قالت وكالة الطاقة أوائل 2008 أن إيران أجابت على كل استفسارات الوكالة المتعلقة بالبرنامج النووي.
في 2008 قدمت إسرائيل لأجهزة التحقيقات التابعة لوكالة الطاقة أدلة على أن إيران لم تتخل عن برنامجها النووي وأنها استأنفت نشاطها بعد 2003.
إذا كان بورتر محقا في ذلك، فإن الأمر خطير للغاية، فبسبب اعتقاد أجهزة وكالة الطاقة والولايات المتحدة وحلفائها في “مصداقية أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية”، رفض هؤلاء المواقف الإيرانية التي تؤكد عدم نية طهران امتلاك السلاح النووي، وحشدوا الدعم الدولي لفرض عقوبات شديدة على إيران. تلك العقوبات أضرت الاقتصاد الإيراني بشدة كما أثرت على اقتصادات أوروبا وآسيا.
لا شك أن بعض القراء الغربيين سيواصلون الاعتقاد بصحة أدلة الاستخبارات الإسرائيلية، لكن لا ينفي ذلك أنه ليس هناك دليل واحد قاطع على أن قادة الجمهورية الإسلامية يريدون أن ينتجوا السلاح النووي، وبالتالي أي حديث عن “التهديد النووي الإيراني” هو حديث سابق لأوانه، وبالتالي فإن التدابير الصارمة التي تنفذها الولايات المتحدة وحلفائها لتجنب هذا “التهديد” هي تدابير غير معقولة وغير مبررة.