قبل شهرَين من الآن، أقال الرئيس التونسي قيس سعيّد رئيسة الحكومة نجلاء بودن وعيّن أحمد الحشاني خلفًا لها، في وقت تشهد فيه البلاد أزمة اقتصادية ومالية بدت تجلياتها واضحة لعموم التونسيين في كل مناحي الحياة.
لم تبيّن الرئاسة التونسية حينها سبب إقالة بودن، لكن من الواضح أن سعيّد لم يكن مرتاحًا لأول امرأة تقود حكومة في تونس، خاصة أن البلاد شهدت في فترة رئاستها للحكومة نقصًا كبيرًا في عدد من المواد الغذائية الأساسية، لا سيما نقص الخبز، وهو نقص متواصل إلى الآن.
لكن من يوم تم تعيينه رئيسًا للحكومة، لم يخرج الحشاني للحديث عن برنامج حكومته القادم، حتى أنه لم يشكّل حكومة أصلًا وبقيَ يعمل مع جملة الوزراء الذين كانوا يشتغلون مع نجلاء بودن، وهو ما أثار عديد التساؤلات لدى التونسيين.
تأخُّر التعديل الوزاري
خلال أداء رئيس الحكومة الجديد اليمين الدستورية، قال سعيّد له: “هناك تحديات كبيرة لا بدَّ أن نرفعها (…) للحفاظ على وطننا وعلى دولتنا وعلى السلم الأهلي”، وأضاف: “سنعمل على تحقيق إرادة شعبنا والعدل المنشود، وتحقيق الكرامة الوطنية ولن نعود للوراء”.
نفهم من هنا أن إقالة بودن لم تأتِ من فراغ، خاصة أن سعيّد دأب قبل هذا القرار على توجيه اللوم إلى الحكومة، على ما يعتبره بطئًا في معالجة المشاكل وضعف الخدمات العامة في البلاد، بما في ذلك الانقطاع المتكرر للمياه والكهرباء.
كما أن سعيّد كان يرفض تمشّي حكومة بودن في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، إذ دعمت الحكومة برنامجًا للإصلاح الاقتصادي للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، لكن سعيّد يرفض أي إصلاحات.
المهم عند سعيّد أن يكون الآمر الناهي والحاكم بأمره، الذي لا يُرفض له أي طلب مهما كان.
مع ذلك لم يعيّن أحمد الحشاني إلى الآن حكومة جديدة تعمل معه، ولم نسمع أنه بدأ البحث عن وزراء جدد، وبقيَ يعمل مع وزراء حكومة بودن في سابقة لم تحصل من قبل في تاريخ تونس وربما في أي دولة أخرى.
ومن المتعارف عليه أن استقالة أو إقالة رئيس الحكومة في أي دولة كانت تعني إقالة كامل الفريق الحكومي الذي يعمل معه، لكن في ظلّ حكم قيس سعيّد فإنّ نواميس الحكم تتغير وتتشكل مرة أخرى، وفقًا لأهوائه وبعيدًا عن مقتضيات الحكم.
صحيح أن الحشاني معفى من تعب البحث عن وزراء، فهذه المهمة محتكرة من قبل الرئيس قيس سعيّد منذ انقلابه على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية في يوليو/ تموز 2021 -وهو الذي دائمًا ما يندد بالاحتكار ويدعو للقضاء عليه-، لكن قبوله العمل مع وزراء بودن يعتبر خيبة له.
يذكر أن الوزراء الذين قدموا مع بودن عيّنهم سعيّد أيضًا، وكان الرئيس التونسي قد عيّن نجلاء بودن رمضان رئيسة للوزراء قبل نحو عامَين، بعدما حل البرلمان وأقال رئيس الوزراء هشام المشيشي وسيطر على جميع السلطات في صيف 2021.
انعدام الثقة في الجميع
أبرز أسباب عدم تغيير وزراء بودن بوزراء جدد يعملون مع الحشاني، هو عدم ثقة سعيّد في أغلب من حوله وصعوبة إيجاده شخصًا يحمل فكره ويثق به، فمنذ توليه رئاسة تونس عيّن سعيّد عديد المسؤولين الكبار في الدولة، لكنه سارع إلى إقالتهم لعدم تماشيهم مع فكره أو لعدم انصياعهم التام لأوامره.
من هؤلاء نجد رئيس الحكومة الأسبق هشام المشيشي، وأيضًا وزير الداخلية توفيق شرف الدين، ووزير الخارجية عثمان الجرندي، ومديرة الديوان الرئاسي نادية عكاشة، وعديد الوزراء الآخرين والسفراء والمحافظين، ما جعل الكثير من المناصب السامية في الدولة شاغرة إلى الآن، إذ مرَّ مثلًا أكثر من عام على إقالة عكاشة، لكن إلى الآن لم يُسَدَّ شغور هذا المنصب رغم أهميته.
كما يقدَّر عدد المناصب الشاغرة في السلك الدبلوماسي بين سفراء وقناصل بنحو 33 منصبًا، ومسَّ الشغور أيضًا السلطتَين القضائية والتنفيذية، فبعض المحافظات تشهد منذ أشهر غيابًا لمنصب المحافظ بعد أن أنهى رئيس الجمهورية مهامهم.
لحفظ ماء الوجه بدل (إستقالة) حولها قيس سعيد إلى (إقالة).
نجلاء بودن قدمت إستقالتها و من المرجح أنها طلبت إعفاءها من مهامها منذ مدة
لكن لا يقبل الرئيس بصيغة (إستقالة ) بل بـ (إقالة) بعد إستمرار الفشل الذريع في إدارة البلاد .
لا تنسوا كيف خرج وزير الداخلية السابق فجأة من الحكومة pic.twitter.com/C8bJxez2o5
— درة السيد (@DorraEssayed) August 2, 2023
يُذكر أن العديد من الوزراء والمسؤولين ممّن عيّنهم سعيد بنفسه، علموا بإقالتهم من خلال منصات التواصل الاجتماعي، ما يعني تعمُّد السلطة إذلالهم واستعدادها للتخلي عن المقربين منها لأي سبب، دون مراعاة للقواعد المتعلقة بالإقالات.
يثبت هذا الأمر أن انعدام الثقة هو سبيل قيس سعيّد في الحياة، فمجرد تقرير صادر عن جهات أمنية أو سياسية -لم يتأكد من صحته- له أن يتسبّب في إقالة وزير أو محافظ، حتى وإن أثبت كفاءته في معالجة بعض المسائل، وهو ما دفع بعض الشخصيات إلى رفض العمل مع سعيّد، فهم يخشون الإقالة السريعة وتحميلهم مسؤولية فشل ليس لهم فيه لا ناقة ولا جمل، فالرئيس يمسك بزمام كل الأمور في البلاد.
رغبة سعيّد الحكم بنفسه
يثبت عدم تعيين وزراء جدد للعمل مع الحشاني، ومساعدته في تنفيذ برنامج الرئيس والاستجابة لتطلعات المواطنين، أن الرئيس سعيّد لا يكترث لهذه الحكومة، ولا يهتم إن عملت أو لا، رغم أنه دائمًا ما يندد بفشلها ويوجّه إليها اللوم.
المهم عند سعيّد أن يكون الآمر الناهي والحاكم بأمره، الذي لا يُرفض له أي طلب مهما كان، حتى يُشبع غروره، فهو يرى أن السلطة لا بدَّ أن تتركز عنده، وما الحكومة الموجودة والبرلمان والأقاليم القادمة سوى ديكور تفرضه المسرحية التي تعيشها تونس منذ عام 2019.
رفض الصندوق صرف القرض المطلوب، يعني عدم تمكن تونس من الحصول على أي قروض من جهات مالية أخرى.
أثبت سعيّد منذ قدومه لقصر قرطاج في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أن هدفه بسط سلطته والتحكم في كل دواليب الدولة، مع إقصاء باقي السلطات والأحزاب والمنظمات المدنية والشخصيات العامة، وإن كانوا من أصدقائه ويحملون نفس فكره، فهو لا يثق إلا في نفسه.
يرى سعيّد أن السيطرة على كل السلطات في البلاد لها أن تفتح الطريق أمامه، لفرض برنامج حكمه وإخراج تونس من الظلمات إلى النور وفق اعتقاده، إلا أن الحقيقة الساطعة أمامنا تؤكد أن سعيّد زاد من السواد الذي يغطي سماء تونس.
مستقبل مظلم
يعلم سعيّد أن هذه الطريقة من شأنها أن تعمّق الأزمات التي تعيشها تونس في أغلب المجالات، لكنه ما زال يكابر ويرفض الاعتراف بفشله وتخبُّطه وعجزه، وفي المقابل يوجّه لومه إلى باقي المسؤولين وإلى من يسمّيهم المتآمرين الراغبين في الإطاحة بحكمه.
ولا يبدو أن سعيّد سيتراجع عن خطئه وسيضل متمسّكًا بنهجه، ما يعني أن الوضع في تونس آخذ في التدهور شيئًا فشيئًا، خاصة أن صندوق النقد الدولي يرفض تقديم أي قروض لتونس، في ظل رفض سعيّد الحوار والالتزام بالإصلاحات التي فرضها الصندوق.
هل يكون كمال الفقي الكرت القادم الذي سيحرقه المنقلب؟#تونس #انقلاب_تونس #سياسة #قيس_سعيد #تونس_عاجل pic.twitter.com/GwVckq3Wjy
— قهواجي الداخلية (@khawajdak) September 19, 2023
رفض الصندوق صرف القرض المطلوب، يعني عدم تمكن تونس من الحصول على أي قروض من جهات مالية أخرى، فهذه الأطراف ترفض تقديم أي دعم مالي لتونس إلى حين الوصول لاتفاق مع صندوق النقد، وهو ما يصعّب مهمة نظام سعيّد.
نفهم من هنا أن مصير الحشاني وحكومته -إن تشكّلت طبعًا- الفشل الذريع، فكل السلطات لدى الرئيس سعيّد، فهو الآمر الناهي، ما سينعكس سلبًا على البلاد ويزيد من متاعبها، ويرفع درجة الاحتقان الاجتماعي إلى مستويات لا يمكن التعامل معه بسهولة.