لم تكد شواهد التوتر التركي الألماني أن تنتهي، حتى طفت على السطح شواهدٌ لتوتر تركي هولندي صُنف على أنه امتداد للتوتر التركي الألماني الذي خيّم بظلاله على عددٍ من الدول الأوروبية التي ضمت صوتها إلى ذلك التوتر، عبر رفضها أو مطالبتها من الحكومة التركية التراجع عن إرسال الوزراء والنواب إلى أراضيها، بدعوى “الحفاظ على الأمن”.
بإلغاء ألمانيا البرنامج الانتخابي الخاص بوزراء الحكومة التركية الذين كانوا في طريقهم لألمانيا بصدد الترويج للنظام الرئاسي الذي يعتبر حزبهم ـ حزب العدالة والتنمية ـ عرّابه، نشب توتر بين البلدين، توتر انتقلت، بعد ذلك، شظاياه لتشمل عدة دول أوروبية أخرى.
ردت تركيا على منع وزرائها من إلقاء خطابهم الترويجي بلغة دبلوماسية وإعلامية لاذعة
وقد ردت تركيا على منع وزرائها من إلقاء خطابهم الترويجي بلغة دبلوماسية وإعلامية لاذعة، فلم يقتصر التوتر على تركيا وألمانيا فقط، بل شمل دولًا أوروبية أخرى كهولندا والنمسا والسويد والدنمارك، حيث أبدت النمسا والسويد والدنمارك عدم رغبتهم في المساهمة في تصعيد الأزمة بين تركيا والاتحاد الأوروبي عبر دعوة تركيا إلى تخفيف حدة التوتر، وكما اقترحوا عليها بلغة دبلوماسية لبقة عدم إرسال الوزراء والنواب في الفترة الحالية على الأقل.
ولكن الأمر بالنسبة لهولندا لم يقف عند حد الرغبة في تخفيف حدة التوتر، بل تجاوز ذلك متسمًا بإجراءات إعلامية ودبلوماسية تصعيدية تمثلت في منع وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، من الهبوط بطائرته في أحد مطاراتها، على الرغم من وجود إذن مسبق، مسجلةً بذلك خرقًا دبلوماسيًا منقطع الصنو، كما رفضت دخول وزيرة الأسرة والشؤون الاجتماعية فاطمة بتول صيان قايا، إلى مقر القنصلية التركية في مدينة روتردام، ثم أبعدتها إلى ألمانيا في وقت لاحق، مسجلةً بذلك خرقًا دبلوماسيًا آخر.
يعزو بعض المحللين السبب في ذلك التوتر إلى “الأسلوب الشعبوي” ـ خطاب سياسي يركن إلى استثارة العواطف القومية والوطنية والطموحات السياسية والاقتصادية بعيدًا عن المنطق العقلاني ـ لا سيما أن تركيا تمر باستفتاء شعبي يعتبر بمثابة “التحول التاريخي”، حيث تزامن هذا التوتر مع اقتراب الانتخابات البرلمانية في الدول الأوروبية المذكورة، لكن يبدو أن هناك أسباب أعمق من ذلك تؤدي إلى نشوب الخلاف المذكور بشكل متواتر:
ـ الاحتراز التركي وقلب ميزان القوى في المنطقة
لذلك السبب سرد تاريخي تعود أحداثه إلى عام 2012، حيث شن النظام السوري حينها هجومًا لاذعًا ضد تركيا، متهمًا إياها بدعم الإرهاب ضد بلاده، ومهددًا لها بتحويل الهجوم الإعلامي إلى هجوم عسكري.
وفي إطار التعاطي مع هذه التهديدات ولتأمين مدنها الحدودية، سارعت تركيا بتقديم طلب رسمي إلى حلف الشمال الأطلسي “الناتو”، تطالبه بنصب أجهزة دفاع جوية، واستجابةً للطلب التركي قامت هولندا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية بنصب منظوماتها الدفاعية على طول الحدود التركية السورية.
لكن فجأة ودون سابق إنذار، بدأت هولندا في يناير/ كانون الثاني بسحب أجهزتها الدفاعية من الحدود التركية، ومن ثم سحبت ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية أجهزتها في أغسطس/ آب من نفس العام وذلك قبل عام من تاريخ السحب الذي كان محددًا في شهر يناير/ كانون الثاني 2016، مما أثار امتعاض الجانب التركي.
الحكومة التركية تتنقد سياسة “الناتو”، وتهاجم هولندا وألمانيا على وجه الخصوص، وبالرجوع إلى أرشيف التصريحات التركية حيال تلك الدول، يمكن ملاحظة ذلك بسهولة
ومنذ ذلك التاريخ، والحكومة التركية تتنقد سياسة “الناتو”، وتهاجم هولندا وألمانيا على وجه الخصوص، وبالرجوع إلى أرشيف التصريحات التركية حيال تلك الدول، يمكن ملاحظة ذلك بسهولة.
وعلى الرغم من ادعاء تلك الدول انتهاء احتمال استهداف النظام السوري لتركيا بهجمات جوية أو بصواريخ كيميائية، وتغيّر مفهوم التهديد الذي أصبح تهديدًا إرهابيًا يمكن لتركيا التغلب عليه بقوتها الذاتية، وحاجة المنظومة إلى تحديث وإصلاح ميكانيكي، هي العوامل التي أدت لتلك النتيجة، فإن الوقائع والأحداث تبيّن أن هناك أسباب سياسية واقعية استراتيجية أدت إلى ذلك التحرك
ـ ويكاد أول هذه الأسباب يكمن في الامتعاض الأوروبي الشديد من قيام تركيا بتوقيع اتفاقيات عسكرية موسعة مع الصين وروسيا اللتين تعتبران المنافس الأول لدول حلف “الناتو”، وربما تزامن ذلك مع توقيع تركيا لاتفاقية بناء منظومة دفاع جوي مع إحدى الشركات الصينية، حيث تم التوقيع في مطلع فبراير 2015 مع الصين، ومن ثم يمكن اعتبار الاتفاقيات الموقعة السبب الرئيس في تراجع هذه الدول عن تقديم الحماية لتركيا، الأمر الذي أدى إلى اندلاع التوتر بين تركيا وتلك البلدان بشكل دوري.
ـ لعل اتجاه تركيا صوب توسيع التعاون العسكري مع روسيا والصين جاء بدافع رغبتها في تشكيل ضغط على “الناتو” عبر إظهار شواهد تغيير في موازين القوى في المنطقة، بغية دفع “الناتو” للموافقة على الرؤية التركية في مواجهة الإرهاب في سوريا، تلك الرؤية التي شملت استهداف نظام الأسد إلى جانب عناصر “داعش”، وإقامة “مناطق آمنة” وفقًا للمساحة التي تريدها تركيا، ولكن على ما يبدو تسبب هذا الاتجاه في سياسة عكسية، أظهرت عدم رغبة “الناتو” في الوقوع تحت سياسة الأمر الواقع والخضوع للرغبة التركية.
ـ وفي سياق ذلك، لا يمكن إغفال توصل الغرب إلى اتفاق نووي مع إيران، وهذا ما دفعها، على الأرجح، إلى سحب تلك الأجهزة كعربون حسن نية ينم عن إظهار رغبتها الحقيقية في التقرب منها، حتى لو كان على حساب تركيا “الحليف التاريخي”.
ـ أيضًا، لا ريب أن فراغ السلطة في سوريا، أدى إلى انبلاج أزمتي الإرهاب واللاجئين اللتين أثرتا سلبًا على أمن وتماسك الاتحاد الأوروبي، وهو ما دفع تلك الدولة إلى إظهار مؤشر آخر لإيران ومن ثم حليفتها روسيا، مؤشر يدل على رغبتها في تسريع عملية الحل السياسي في سوريا، بضمان بقاء السلطة السورية قائمة، بغض النظر عمن يرأسها وبعيدًا عن طموح الشعب السوري، وربما وجد الغرب نفسه مضطرًا لإظهار ذلك المؤشر، عشية فشل المعارضة السورية في إسقاط النظام.
يشكل هذا العامل بالأسباب التي أفضت لظهوره، السبب الرئيس وراء تواثر التوتر الإعلامي الدبلوماسي بين تركيا والدول الأوروبية، فالدول الأوروبية أرادت “معاقبة” تركيا لسعيها إلى تغيير موازين القوى في المنطقة، وتركيا تهاجم، بشكل دوري، هذه الدول التي تعتبرها دولاً “تخلت” عنها وقت الحاجة.
ـ الأسلوب الشعبوي
يمكن اعتبار الأسلوب الشعبوي سببًا كامنًا وراء هذا التوتر، لكن لا يمكن اعتباره سبب رئيسي بل هو سبب مؤجج أو مكمل لتنامي التوتر، بملاحظة الهجمات الإعلامية الحادة المكتسية بثوب إثارة النزعة القومية، وقلب الأحداث إلى حالة احتدام شديد، نستطيع القول بأن حزب العدالة والتنمية التركي ـ الحزب الحاكم في تركيا ـ وجد في ذلك التوتر رصيدًا مهمًا لرفع مستوى هويته القومية الوطنية التي تعتبر أحد أهم ركائز استقطاب الأصوات الشعبية.
أيضًا، نفي حكومة حزب العدالة والتنمية لعناصر المنطق الواقعي التي تلزمها بعدم توتير العلاقات مع الدول الأوروبية، لكسب موقفها الداعم فيما يتعلق بعملية الحل السياسية التي تسعى تركيا من خلالها لجني الحد الأدنى من مصالحها، يؤكّد على أنها ركنت للأسلوب الشعبوي بغية رفع رصيدها الانتخابي، وقد بدا ذلك جلّيًا لدى المواطنين الأتراك الذين باتت مجموعة كبيرة منهم تعتبر التصويت لصالح الاستفتاء واجبًا وطنيًا “لصد المؤامرات الغربية الصليبية الحاقدة”.
وعلى الصعيد الآخر، نجد أن الدول الأوروبية المصعدة ستشهد انتخابات بعد فترة وجيزة، فبينما تتجهز هولندا لإجراء انتخاباتها العامة بعد يومين، 15 من مارس/ آذار، تستعد ألمانيا لإجراء انتخاباتها في مايو/ أيار القادم.
وباقتراب موعد الانتخابات، على الأغلب أدركت بعض الأحزاب الأوروبية كحزبي اليمين الليبرالي والعمل الحاكمين وحزب من أجل الحرية “المتطرف” في هولندا، والاتحاد الديمقراطي المسيحي الحاكم وحزب البديل من أجل ألمانيا “المتطرف” في ألمانيا، وقبل ذلك حزبي الشعب والديمقراطي الحاكمين في النمسا التي كانت على موعد للانتخابات الرئاسية في ديسمبر المنصرم، أنه من الجيد استثمار هذا التوتر لصالح رصيدها الانتخابي، لا سيما في ظل تنامي شعبية التيار اليميني المعادي للدول الإسلامية في أوروبا.
ـ النزاع التاريخي
يعتبر التاريخ أحد معايير القوة الثابتة للدول القومية التي توظفه في تعبئة الجماهير لدعم أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو لشعشعة هويتها القومية على حساب الدول الأخرى، بغية تحقيق نفوذ سياسي واجتماعي سابغ، ويشوب الإرث التاريخي بين تركيا وأوروبا، نزاعٌ تنافسي وتحدٍ وجودي، وهو ما يسهم في استشراء وإطالة عمر التوتر بين تركيا والدول الأوروبية، وبإضافة الطموح السياسي الداخلي لكلا الطرفين، يصبح العامل التاريخي موظفًا أكثر من قبل الحكومات السياسية التي تغذي النزاع التاريخي بتعبئة دينية، لحشد مشاعر الجماهير القومية لصالحها.
ـ العامل الاقتصادي
وفقًا لمؤشر البنك الدولي الراصد لأكبر الدول اقتصاديًا خلال عام 2015، تحتل تركيا المرتبة الثامنة عشر، بينما تحتل هولندا المرتبة السابعة عشر، وطبقًا لرؤية تركيا 2023، فإنها تسعى لتحويل موقعها الجغرافي إلى ممر لخطوط نقل الطاقة، وترمي إلى تأسيس مواني برية، عبر السكك الحديدية، تجعلها محطةً أساسيةً في طريق الحرير المراد إحيائها من قبل بعض الدول الهادفة للحد من النفوذ الأمريكي والأوروبي على الممرات التجارية العالمية، وتلتمس من خلال إنشاء مطار إسطنبول الثالث ربط قارات العالم القديم جوًا، أي ربط دول العالم من خلال رحلات التحويل، وذلك يعني أن مطاري أمستردام وفرانكفورت سيفقدان كثيرًا من أهميتهما الاقتصادية.
الاتحاد الأوروبي أدار تركيا، كحديقة خلفية، منذ تأسيس تركيا كجمهورية عام 1923، فمن الصعب عليه أن يرى تركيا تتجه نحو الاستقلالية والتفرد بالقرار ولا ينزعج
إذًا، لمؤشرات التنافس الاقتصادي أيضًا دور في زيادة حدة التوتر، فعلى ما يبدو ترى الدول الأوروبية أن النفوذ الاقتصادي التركي يعني تحقيق تركيا استقلالية سياسية وعسكرية قد لا تتناغم أحيانًا مع رغباتها القومية، وبعيدًا عن الميل للتعاطف مع دولةٍ ما، لا بد من الإشارة إلى أن الاستقلالية الاقتصادية هي المفتاح الأساسي بالفعل لتحقيق السيادة القومية والاستقلالية السياسية والعسكرية الحقيقية.
وبما أن الاتحاد الأوروبي أدار تركيا، كحديقة خلفية، منذ تأسيس تركيا كجمهورية عام 1923، من الصعب عليه أن يرى تركيا تتجه نحو الاستقلالية والتفرد بالقرار ولا ينزعج، ولعل الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التركية الموقعة مع روسيا والصين تبيّن أن نظرتي بعيدة عن تأييد دولة ما على حساب الأخرى.
على ما يبدو تحاول الدول الأوروبية تشكيل ضغط سياسي واقتصادي واجتماعي وإعلامي، من خلال تقليب الرأي العام ضد الحكومة التركية، للحيلولة دون تحقيق تركيا ما ترمي إليه، وفي حين تمتعت تركيا بالإرادة السياسية واستمرت في طريقها نحو التحرك المستقل فإن التوتر بينها وبين الدول الأوروبية سيبقى دوريًا ودائمًا.
ـ النظرة التوجيهية
استنادًا إلى التصريحات الصادرة عنها، يبدو واضحًا أن دول الاتحاد الأوروبي التي تصنف نفسها على أنها من دول العالم الأول، تقيّم تركيا على أنها من دول العالم الثالث، وهذا ما يؤكّد أنها تنظر إلى تركيا على أنها “تابع” وهي “موجه مركزي، وما يعزز النظرة التوجيهية الفوقية للاتحاد الأوروبي، هو مبدأ “الطبقية الدولية”، حيث ترتبط تركيا بعلاقات اقتصادية ذات مؤشرات تبيّن الاتحاد الأوروبي على أنه مُصدِّر سلع وسياح واستثمارات أعلى من تلك التي تصدرها تركيا له، وهذا يجعله قويًا وذا سيطرة اقتصادية على تركيا.
ووفقًا لمبدأ “الطبقية الدولية” فإن الدول المسيطرة اقتصاديًا تنظر للدول المتعاونة معها على أنها دول “تابعة وضعيفة” يجب أن تبقى تحت تصرفها وأمرها.
تضغط بعض الدول الأوروبية، عبر تأجيج التوتر، على تركيا لثنيها عن مواصلة التعاون مع روسيا
وعلى الأرجح، تضغط بعض الدول الأوروبية، عبر تأجيج التوتر، على تركيا لثنيها عن مواصلة التعاون مع روسيا، كما يبدو أنها تحاول إعاقة تحول النظام البرلماني في تركيا إلى نظام رئاسي، لأن النظام الرئاسي يعني انتهاء إمكانية توجيه المسار السياسي في تركيا، فمن خلال النظام البرلماني يمكن للاتحاد الأوروبي دعم أحزاب المعارضة ضد الحزب الحاكم، سواء كان حزب العدالة والتنمية أو غيره، ولكن مع تأسيس النظام الرئاسي ستفقد هذا العنصر المؤثر، لأن الرئيس الذي سيتم اختياره لا شك سيكون مخاطبًا لآمال الشعب التركي المعارض أصلًا للتقارب مع الاتحاد الأوروبي.
ختامًا، الاتحاد الأوروبي بحاجة لتركيا لتسريع حل أزمتي الإرهاب واللاجئين، والبقاء على نفوذه العسكري والسياسي في المنطقة، وتركيا بحاجة إلى الاتحاد الأوروبي، لتشكل عنصر موازنة يدعم رؤيتها حيال حل الأزمة السورية، وانطلاقًا من ذلك، قد يتعرض الاتحاد الأوروبي لنتائج سلبية في حالة ما إذا سمحت تركيا للاجئين بالانطلاق نحو بلدانها، وقد تتأثر تركيا سلبًا في حال تخلى الاتحاد الأوروبي عن دعمها في موقفها من حل الأزمة السورية، لا سيما في ظل ظهور بعض ملامح التنسيق الروسي الأمريكي في سوريا، تحديدًا في منبج، أما التداعيات الإيجابية لتركيا من هذا التوتر، فتتمثل في ضمان مرور الاستفتاء الشعبي لصالح النظام الرئاسي، وتقريب روسيا أكثر منها، ولكن هل يمكن لتركيا تحقيق ذات المنافع التي تحققها من خلال التعاون مع دول الاتحاد الأوروبي؟