حريق الحمدانية.. فاجعة جديدة في العراق، بعد أن استحالت فرحة زفاف إلى مأساة راح ضحيتها أكثر من 100 قتيل و150 جريحًا، نصفهم إصاباتهم حرجة، وأرجعت وزارة الصحة والدفاع المدني العراقية الانهيار السريع لأجزاء من القاعة، إلى “استخدام مواد بناء شديدة الاشتعال ومنخفضة التكلفة”، وهي مخالفة لمعايير السلامة.
تبدو الواقعة للوهلة الأولى وكأنها حادثة كغيرها من الحوادث، لكنها في العراق تفضح ملفًّا متكررًا من الفساد والإهمال وغياب الرقابة.
فتّش عن الكوبوند
كيف تسير الأمور في العراق؟ تحصل الفاجعة، تسارع السلطات إلى التضامن وإعلان الحداد واستغلال الحدث سياسيًّا بالخطابات والتسقيط السياسي، يعقبه القبض على متعاقدين فرعيين يستخدَمون ككبش فداء، وليس المقاولين الرئيسيين الذي يعملون كواجهات لحيتان الفساد، ثم ماذا؟ تعود الفاجعة للحدوث مرة أخرى، بالحريق أو الانهيار أو الغرق أو أي أمر آخر يمكنه أن يحصد أرواح الناس.
بالنسبة إلى حريق الحمدانية في الموصل، أكدت السلطات المدنية أن سبب الحريق الذي اندلع خلال حفل زفاف، كان ناجمًا عن استخدام الألعاب النارية في القاعة، ما تسبّب في إشعال النيران في البداية داخل القاعة، ومن ثم انتشر الحريق بسرعة كبيرة، وجاء في بيان صادر عن الدفاع المدني أن القاعة كانت مغلّفة بألواح الأليكوبوند، وهي مادة بناء تتكون من الألمنيوم والبلاستيك وتعتبر سريعة الاشتعال.
وأُشير إلى أن استخدام هذه الألواح في البناء يتعارض مع التعليمات الأمنية الصادرة قانونيًّا، ووفقًا للسلطات المدنية أدى الحريق إلى انهيار أجزاء من القاعة، نتيجة استخدام مواد بناء سريعة الاشتعال واقتصادية، ما تسبّب في تدهور الوضع في غضون دقائق عندما اندلع الحريق.
ليست النار فقط.. أسباب كثيرة ساهمت في ارتفاع أعداد ضحايا #حريق_الحمدانية في #العراق.. على رأسها الإهمال والمخالفات#الموصل#العربية pic.twitter.com/9Crtl3kqmU
— العربية (@AlArabiya) September 27, 2023
الحرائق أمر طبيعي في العراق، ففي الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي، سُجّل في العراق أكثر من 19 ألف حريق في مختلف مناطق البلاد، ووصل عدد ضحايا الحرائق إلى حوالي 855 شخصًا خلال السنوات الثلاث الماضية، وتشير الإحصائيات إلى أن البلاد تشهد سنويًّا حوالي 30 ألف حريق.
وتقول مديرية الدفاع المدني إن أغلب الأبنية التي شُيّدت بعد العام 2003 لا تخضع لمعايير الجودة والسلامة، ومعظمها تستعمل مواد الساندوتش بانل والكوبوند.
مادة الساندوتش بانل هي صفائح معدنية معزولة تستخدَم في البناء، وتحمل ميزة العزل الحراري لكنها تكون سريعة الاشتعال، وتستخدَم لتغطية واجهات المباني وتوفير العزل الصوتي والحراري وإنشاء مخازن التبريد، وتستخدَم على نطاق واسع في المنشآت الصناعية والتجارية والزراعية والاجتماعية والمستشفيات.
أما ألواح الكوبوند أو الكلادينغ، فهي مجموعة من الألواح المعدنية المصنوعة من الألمنيوم، وتحتوي على طبقة داخلية عازلة للحرارة والبرودة، وتستخدَم هذه الألواح عادة لتغطية واجهات المباني، وتتميز بمقاومتها للصدأ والكسر وتثبت جودتها على المدى الطويل، كما تستخدَم في مجموعة متنوعة من المباني والمنشآت لتحسين الأداء البصري والوظيفي.
يشير الخبراء إلى أن استخدام مثل هذه المواد البنائية يسهّل عمل المقاولين والمتعهّدين في ظروف غير مستقرة، مثل تلك التي يواجهها العراق، مع ملاحظة وجود تحديات تتعلق بالجودة والسلامة يجب معالجتها بعناية عند استخدام هذه المواد في المشاريع البنائية.
فيديو جديد للرقصة الأخيرة لعروسي الحمدانية قبل اشتعال القاعة#فاجعة_الحمدانية #حريق_الحمدانية #العراق #أخبار_المشهد #المشهد pic.twitter.com/UFfHebW11B
— Al Mashhad المشهد (@almashhadmedia) September 28, 2023
يقول صادق الزيادي، وهو موظف في أمانة بغداد، إن العاصمة شهدت منذ العام 2003 حالة من الفوضى غير مسبوقة، فيما يتعلق بألوان البناء وعمليات البناء وإعادة تأهيل المباني التي تعرّضت للقصف خلال الغزو الأميركي للعراق.
ويضيف: “لم تعد المواد البنائية الفاخرة المستمدّة من البيئة العراقية، مثل الطابوق والمنجور والحجر والسيراميك الكربلائي، ضمن الأولويات للمشرفين على إعادة ترميم المباني التراثية والحكومية، الأمر نفسه ينطبق على المطاعم والكازينوهات والفنادق والمستشفيات ومباني الكليات الأهلية، وذلك بسبب انتشار استخدام مواد الكوبوند في تلك المباني، وتفشّي الفساد بشكل غير مسبوق في أجهزة أمانة بغداد والجهات الرقابية المسؤولة عن مراقبة الأعمال العمرانية في العاصمة”.
بينما يقول مقاولون آخرون إن هذه المواد المستخدمة ملائمة للوضع العراقي غير المستقر أمنيًّا، من حيث وجود التفجيرات والحوادث الأمنية المضرّة بالمباني، حيث يسهل تبديلها وصيانتها وتنظيفها لتحافظ على رونقها بشكل مستمر.
ليست الأولى.. وربما ليست الأخيرة
ليست هذه المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذه الحوادث، بسبب استخدام مواد غير خاضعة لمعايير السلامة، حيث في عام 2020 اندلع حريق كبير في سوق باب المعظم وسط العاصمة بغداد، واتضح فيما بعد أن الأبنية هناك شُيّدت بشكل ينتهك القوانين، إذ تمَّ استخدام تقنية الساندوتش بانل في بنائها وتغليفها بمادة الأليكوبوند.
هذا الأمر زاد من احتمالية وقوع الحرائق وزاد من سرعة انتشارها، ووفقًا لمدير عام الدفاع المدني آنذاك اللواء كاظم بوهان، كانت هذه المواد تمثل تهديدًا كبيرًا للأمان، وفي عام 2021 شهد العراق حوادث مأساوية أخرى في غضون فترة قصيرة، ففي 25 أبريل/ نيسان اندلع حريق في مستشفى ابن الخطيب المتخصص في علاج مصابي كوفيد-19 والأمراض الانتقالية في بغداد، أسفر عن مقتل ما لا يقلّ عن 82 شخصًا وإصابة نحو 110 آخرين.
المشاريع الوهمية في العراق… مئات المليارت تذهب لجيوب الفاسدين
وفي 13 يوليو/ تموز، وقع حادث آخر أسفر عن وفاة ما لا يقلّ عن 58 شخصًا وإصابة العديد الآخرين، في حريق اندلع في مركز لعزل مرضى كوفيد-19 في مستشفى الحسين التعليمي، وسط مدينة الناصرية جنوب بغداد.
يقول الناطق الإعلامي باسم مدير الدفاع المدني جودت عبد الرحمن، إنّ المصانع والأبنية التجارية والمخازن غير الرسمية، والأبنية الأخرى التي تحتضن تجمعات كبيرة، بُنيت في غفلة ولم يتم استحصال الموافقات الرسمية وإجازات البناء حولها، ورغم أن المديرية حددت العديد من هذه الأبنية وقامت بتغريمها، إلا أن إجراءً حقيقيًّا لم يتخذ ضدها، وهكذا استمرت هي وغيرها بالعمل.
رغم أن استخدام هذه المواد مخالف للقوانين، إلا أن غياب الرقابة من قبل الدوائر المختصة، وعلى رأسها الشعب الهندسية في وزارة الإسكان، يحول دون تطبيقها، فضلًا عن الفساد والمحسوبية المنتشرة في كل مفاصل الدولة في العراق تقريبًا.
العراق يشيّع ضحايا الفاجعة💔#فاجعة_الحمدانية https://t.co/QtcP5QrwHD
— Sahar Ghaddar (@sahar_ghaddar) September 28, 2023
يقول الناشط في مجال مكافحة الفساد، سعيد ياسين موسى، إن الخلل يكمن في غياب اعتماد سياسات عامة والقصور في تحليل البيئة، والمراجعة والتقييم والتقويم والمتابعة وعدم كفاءة الإدارات، ويضيف: “إن الحل يكمن في إعادة النظر بكل المنظومة الرقابية الخاصة بمتابعة البناء في العراق، سواء كانت أبنية صحية أم اجتماعية أم رياضية”.
عرس الحمدانية الذي أدخل العراق في حداد، يغلب ألّا يكون الأخير في سلسلة الكوارث التي تحل في البلاد، طالما أن المنظومة الرقابية فاشلة في أداء دورها، وأن الإرادة للتغير وحماية أرواح الناس غائبة بدورها عن صانع القرار السياسي.