يبدو أن الدب الروسي الذي نجح في فرض سيطرته على المشهد السوري من خلال امتلاكه لمعظم خيوط اللعبة بعدما استطاع إبعاد أمريكا عن ساحة الصراع والتفاوض طيلة العامين الماضيين، يسعى لإعادة نفس التجربة – التي يرى الخبراء أنها ناجحة بصورة كبيرة – بشمال إفريقيا، من خلال البحث عن موضع قدم داخل ليبيا.
وطبقًا لمصادر دبلوماسية، أمريكية ومصرية، فإن روسيا نشرت فيما يبدو قوات خاصة في قاعدة جوية تقع في غرب مصر، قرب الحدود مع ليبيا، في الأيام الأخيرة، وهو ما أثار قلق العديد من القوى الدولية، حسب التقرير الذي نشرته وكالة “رويترز” .
تصريحات الدبلوماسيين الأمريكيين والمصريين التي نقلتها “رويترز” بشأن وجود عسكري روسي على الحدود المصرية الليبية، تضع العديد من التساؤلات عن الهدف من وراء نشر هذه القوات، ودور القاهرة في هذه العملية ودوافعها للقيام بذلك، إضافة إلى رد الفعل الأمريكي حيالها خاصة أنها تهدد مصالحه في هذه المنطقة.
البحث عن موطئ قدم في ليبيا
تعاني موسكو من غياب شبه تام للوجود العسكري داخل ليبيا منذ 2011، إذ كرست معظم جهودها لتفعيل الوجود السوري في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها والتي تقف حجر عثرة أمام فتح أي جبهات جديدة، مما ترك الساحة الليبية خالية لبعض القوى الدولية الأخرى، في مقدمتها أمريكا وفرنسا وإيطاليا،، ومن ثم تسعى روسيا وبجدية تامة للتفكير في إحياء وجودها القديم في ليبيا مرة أخرى.
التقرير الذي نشرته “رويترز” أشار إلى نشر قوات عمليات خاصة روسية قوامها 22 جنديًا وضابطًا، وطائرات دون طيار عند سيدي براني بمرسي مطروح على بعد 100 كيلومتر من حدود مصر مع ليبيا، فبراير الماضي، وأن الهدف المباشر لنشر هذه القوات يتمثل في دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، والذي تعرض في الآونة الأخيرة لضربة موجعة حين هاجمت سرايا الدفاع عن بنغازي قواته عند مواني النفط التي تخضع لسيطرته وذلك في 3 من مارس الحالي.
المصادر أشارت إلى أن طائرات حربية روسية حملت نحو ست وحدات عسكرية إلى مرسى مطروح قبل أن تذهب إلى ليبيا بعد نحو عشرة أيام، وذلك من أجل أن تكون على الأهبة لتقديم الدعم الفوري للقوات الموالية لحفتر شرقي ليبيا.
يذكر أن اجتماعًا عقده مسؤولون روس مع حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس واللواء خليفة حفتر في الأشهر الأخيرة لبحث سبل حلحلة الأزمة بعدما وصلت إلى طريق مسدود، إلا أن الاجتماع باء بالفشل في ظل تمسك كل طرف بشروطه، إلا أن موسكو قد أبدت استعدادها لدعم حفتر وقواته دبلوماسيًا.
المصادر أشارت إلى أن طائرات حربية روسية حملت نحو ست وحدات عسكرية إلى مرسى مطروح قبل أن تذهب إلى ليبيا بعد نحو عشرة أيام
وفي تصريح لـ”رويترز” قال أوليج كرينيتسين رئيس مجموعة (آر. إس. بي) الأمنية الروسية إن قوة من بضع عشرات من المتعاقدين الأمنيين المسلحين من روسيا عملوا حتى الشهر الماضي في منطقة بليبيا خاضعة لسيطرة حفتر، وهو ما علق عليه مسؤولون أمنيون أمريكيون بأنها خطوة أولية لاستعادة موسكو موطئ قدم لها في ليبيا، انطلاقًا من السوابق التاريخية التي تشير إلى دعم الاتحاد السوفيتي السابق للعقيد الليبي معمر القذافي، وهو ما تسعى لإعادته مرة أخرى مع حفتر.
السيناتور الأمريكي لينزي جراهام أكد أن هدف روسيا من هذا التدخل هو تكرار النموذج السوري، وذلك في رده على سؤال عما إذا كانت روسيا تحاول أن تفعل في ليبيا ما فعلته في سوريا فقال: “نعم هذه طريقة جيدة لوصف ذلك”، بينما أشار دبلوماسي غربي أن روسيا تتطلع إلى دعم حفتر على الرغم من أن تركيزها الأولي على الأرجح سيكون على منطقة الهلال النفطي في ليبيا.
الهجوم على القوات الموالية لحفتر من قبل سرايا الدفاع عن بنغازي
القاهرة وموسكو تنفيان
في أول رد فعل حيال تلك التصريحات، نفى مجلس الاتحاد الروسي، اليوم الثلاثاء، ما أثير بشأن إرسال موسكو عسكريين وطائرات من دون طيار إلى قاعدة جوية في مصر، حيث وصف فلاديمير جاباروف النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي، تلك الأنباء بـ”الوهمية” وأنها لا تستحق الاهتمام، قائلاً: “روسيا لم تفعل ذلك ووزارة الدفاع لا تؤكدها، إنها أنباء وهمية لا تستحق الاهتمام”.
المسؤول الروسي أشار إلى أن مثل هذه الأخبار المتناثرة هنا وهناك ليست الأولى من نوعها، ولا تعدو كونها أخبار مضللة تدخل في إطار الحرب الإعلامية التي تشنها الدول ضد بعضها البعض.
ومن القاهرة، نفى العقيد تامر الرفاعي المتحدث باسم القوات المسلحة المصرية، وجود أي جندي أجنبي على الأراضي المصرية، قائلاً إنها مسألة سيادة، مؤكدًا أن مثل هذه الأخبار لا أساس لها من الصحة، ومصر ترفض أي وجود أجنبي على أراضيها، سواء كان روسيًا أو غيره.
جاباروف ردًا على أنباء نشر قوات روسية على الحدود المصرية الليبية: روسيا لم تفعل ذلك ووزارة الدفاع لا تؤكدها، إنها أنباء وهمية لا تستحق الاهتمام
ليست الأولى
تمتلك روسيا العديد من القواعد العسكرية في مختلف بلدان العالم، إلا أنها تعاني من غياب لتلك القواعد في منطقة شمال إفريقيا، ولم تخف موسكو رغبتها أكثر من مرة في بناء قاعدة لها في مصر أو الدول المجاورة لها على الشريط الحدودي الملاصق للبحر المتوسط والذي يضم ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا.
وكان الاتحاد السوفيتي يمتلك في السابق قاعدة عسكرية بحرية له في مدينة سيدي براني بالقرب من مرسي علم غرب مصر وذلك حتى عام 1972، إلا أنه ومع تدهور العلاقات بين القاهرة وموسكو إبان فترة الرئيس الراحل أنور السادات، غادرت القوات الروسية هذه القاعدة والتي كانت تستخدم لمراقبة السفن الحربية الأمريكية.
وفي أكتوبر الماضي أشارت صحيفة” “إزفيستيا” الروسية إلى وجود مباحثات روسية مصرية بشأن استئجار موسكو منشآت عسكرية مصرية وفي مقدمتها قاعدة جوية في مدينة سيدي براني، نفس المدينة التي كانت بها القاعدة البحرية الروسية القديمة كما تم ذكره.
الصحيفة نقلت عن مصدر في الخارجية الروسية، ومقرب من وزارة الدفاع، أنه تم التطرق في أثناء المحادثات إلى أن القاعدة ستكون جاهزة للاستعمال بحلول عام 2019، في حال توصل الطرفان إلى اتفاق.
في أكتوبر الماضي أشارت صحيفة” “إزفيستيا” الروسية إلى وجود مباحثات روسية مصرية بشأن استئجار موسكو منشآت عسكرية مصرية وفي مقدمتها قاعدة جوية في مدينة سيدي براني
إلا أن القاهرة نفت هذا الكلام جملة وتفصيلاً، وهو ما جاء على لسان المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية علاء يوسف، والذي أكد رفض مصر الكامل لوجود أي قواعد عسكرية أجنبية فوق أراضيها، انطلاقًا من مبدأ السيادة والاستقلالية.
المصادر المصرية لم تنف العروض المقدمة لبناء قواعد عسكرية فوق أراضيها، إذ أشارت إلى سعي دول كبرى أخرى لإنشاء قواعد على الأراضي المصرية، إلا أن القيادة السياسية رفضت مثل هذه العروض من حيث المبدأ، في إشارة منه للعرض الذي تقدمت به الولايات المتحدة سابقًا.
وبعد مرور ستة أشهر على ما تم تداوله بشأن رغبة موسكو استئجار قاعدة جوية لها غرب مصر، ها هو الحديث يتجدد مرة أخرى عن وجود عسكري روسي في نفس المنطقة السابقة التي كانت ترغب روسيا في بناء قاعدة بها، وهي مدينة سيدي براني بمرسي مطروح على بعد 100 كيلومتر من حدود مصر مع ليبيا، فضلاً عن كونها المنطقة السابقة التي كانت بها القاعدة البحرية القديمة، مما يدفع إلى التساؤل عن مدى صحة مثل هذه الأنباء، ورغم النفي المتبادل بين موسكو والقاهرة فإن ملامح صفقة تبادلية ربما يكون الحل لعودة العلاقات المصرية الروسية مرة أخرى بعد التوتر الذي شابها الفترة الأخيرة منذ سقوط الطائرة الروسية ديسمبر 2015، فهل من الممكن أن تتم هذه الصفقة؟
هزة اقتصادية عنيفة تعرضت لها مصر منذ سقوط الطائرة الروسية في سيناء ديسمبر 2015
القاعدة مقابل عودة الرحلات
العديد من التأويلات ذهبت إلى احتمالية أن تكون هناك صفقة تبادلية بين القاهرة وموسكو بشأن القاعدة العسكرية المزمع إنشاؤها على الحدود مع ليبيا، فالقاهرة التي تسعى إلى استئناف الرحلات الجوية الروسية مرة أخرى بعد انقطاع دام ما يقرب من عام ونصف تقريبًا منذ سقوط الطائرة الروسية في سيناء أكتوبر 2015، خاصة بعدما تكبدت مصر العديد من الخسائر الاقتصادية بسبب تعليق تلك الرحلات لا سيما أن السياحة الروسية تعد المصدر الأول في قائمة الدخول الناتجة عن السياحة الأجنبية.
كما أن القاهرة تسعى إلى تعميق علاقتها بروسيا في الفترات القادمة في محاولة للدخول ضمن التحالف الروسي في المنطقة لا سيما بعد النجاحات التي حققها في الفترة الأخيرة، في ظل التقارب الواضح بين موسكو وأنقرة وهو ما قد يؤثر على دور مصر الإقليمي ما لم تسع لتخفيف حدة التوتر مع الدب الروسي.
اختيار روسيا لمصر كبوابة للتدخل في الشأن الليبي ليس اختيارًا فرضته الجغرافية، إذ إن العلاقات القوية التي تربط بين حفتر ونظام السيسي كان لها دورًا مؤثرًا في هذه الخطوة
وفي المقابل تسعى موسكو إلى البحث عن موطئ قدم لها في ليبيا، خاصة في منطقة الهلال النفطي، انطلاقًا من توجهاتها التوسعية الأخيرة الرامية إلى المزيد من النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن ذلك لا يمكن له أن يتم إلا عبر بوابة مصر القريبة من الحدود الشرقية الليبية، تجنبًا لأي رد فعل عنيف من قبل المجتمع الدولي حال دخولها بشكل مباشر عن طريق إنزال قوات عسكرية داخل ليبيا دون تنسيق مسبق.
كما أن اختيار مصر كبوابة للتدخل في الشأن الليبي ودعم قوات حفتر ليس اختيارًا فرضته الجغرافية وفقط بحكم التلاصق الحدودي بين الجانبين، إذ إن العلاقات القوية التي تربط بين حفتر ونظام السيسي كانت أبرز المغريات التي دفعت موسكو إلى التفكير في هذه الخطوة.
ويبقى السؤال: في ظل الصراع نحو المصالح، هل من الممكن أن تعيد القاهرة النظر في مواقفها الرافضة لوجود أي قواعد عسكرية فوق أراضيها، وأن تقبل أن تكون معبرًا لدخول القوات الروسية إلى ليبيا لتحقيق أهدافها التوسعية في مقابل استئناف الرحلات الجوية لمصر مرة أخرى؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.