تواجه مصر أوضاعًا اقتصاديةً معقدة تتمثل بقفزات غير مسبوقة في معدلات الديون والبطالة والتضخم، أدت في النهاية إلى الزج بالملايين في آتون الفقر والعوز، وسط انتقادات حادة للسياسات الاقتصادية التي تتبناها الحكومة على مدى السنوات الأخيرة.
تحذر كل التقارير الصادرة عن مؤسسات التقييم المالي والاقتصادي من الانزلاق لما هو أسوأ في حال الاستمرار على ذات الرؤى والتوجهات التي غاب عنها بشكل كبير فقه الأولويات الاقتصادية في ظل إصرار غير مفهوم من السلطات الحاكمة على المضي فيها دون الانتباه لأي أصوات أخرى.
بعيدًا عن التقييمات السلبية لمؤسسات التصنيف، والمؤشرات الواقعية التي لا تحتاج إلى دليل أو برهان على ما وصل إليه الوضع من تدنٍ على المستويات كافة، يُصر النظام المصري عبر خطابيه الإعلامي والسياسي معًا على الاحتفاء بما حققه من إنجازات، ضاربًا بالواقع عرض الحائط.. فإلى أي مدى يمكن للمواطن المصري تحمل تلك الازدواجية؟
مؤشرات اقتصادية صادمة
يكتسي المؤشر العام للاقتصاد المصري خلال العقد الأخير باللون الأحمر، إيذانًا بالتراجع والانخفاض المستمر على كل المسارات، حتى تلك التي أفلتت مؤقتًا واكتست باللون الأخضر سرعان ما تعاود احمرارها مرة أخرى، لتعود الأمور إلى أجوائها السلبية التي خيمت على المشهد ككل.
البداية مع مؤشر التضخم الذي تعاني منه الدولة المصرية بشكل حاد خلال السنوات الماضية، حيث وصل لمستويات لم يصل إليها من قبل، متخطيًا حاجز الـ40% وفق الرواية الرسمية وإن كان يبلغ أضعاف هذا الرقم في الواقع، واللافت هنا أن هناك ازدواجية وتباين واضح في الأرقام الصادرة عن الحكومة المصرية بشأن معدلات التضخم.
ففي 11 يوليو/تموز 2023 أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) أن المعدل السنوي للتضخم وصل إلى 36.8% في يونيو/حزيران 2023 مقابل 32.7% في مايو/أيار 2023، وبعد ساعات قليلة من هذا الإعلان خرج البنك المركزي (حكومي) معلنًا هو الآخر أن التضخم سجل 41.0% في يونيو/حزيران 2023 مقابل 40.3% في مايو/أيار 2023.
ما بين هذا وذاك، فإن معدلات التضخم في الواقع أكبر من ذلك بكثير، إذ يكفي مقارنة أسعار السلع الأساسية اليوم بما كانت عليه قبل عام، حيث بلغت نسب الزيادة في بعض الأحيان ما بين 200 – 400%، بما يشمل السكر والأرز واللحوم والألبان والزيوت، وهي سلع استهلاكية لا يستغني عنها المواطن المصري، ناهيك عن أسعار الكهرباء والغاز والمياه والمواصلات التي قفزت هي الأخرى بنسب مهولة.
ووفق آخر إحصاء للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فقد وصلت معدلات البطالة في مصر إلى 7.4% من إجمالي قوة العمل في الربع الثالث من 2022، بزيادة قدرها 0.2% عما كانت عليه خلال الربعين السابقين من العام 2023، في ظل توقعات بزيادة تلك المعدلات خلال العامين القادمين.
من المتوقع ارتفاع الدين الخارجي المصري خلال الفترة من 2022 – 2027 بنحو 217.7 مليار دولار أمريكي، ليصل حجم الدين إجماليًا بنهاية عام 2027 إلى 506.58 مليار دولار أمريكي
تتعارض الرواية الرسمية مع الواقع المعاش، حيث تتجاوز نسب البطالة الفعلية تلك الأرقام بشكل كبير، في ضوء الآليات التي تعتمد عليها الحكومة في إحصاء العاطلين عن العمل، حيث تتعامل مع الباعة الجائلين وعمال اليومية البالغ عددهم أكثر من 12 مليون شخص على أنهم ضمن الطبقة العاملة رغم فقدان الجزء الأكبر من هؤلاء العمال لوظائفهم بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية وجائحة كورونا والوضع الداخلي الصعب.
انعكس هذا الأمر بطبيعة الحال على معدلات ادخار المصريين، التي لم تتجاوز 10% من الناتج المحلي في أفضل حالاتها خلال الفترة بين 2014 – 2020، رغم تجاوزها حاجز الـ 16% خلال السنوات الأخيرة ما قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011، فيما فقد المصريون نحو 50% من ثرواتهم خلال تلك الفترة بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة، وفق البيانات الرسمية لوزارة المالية المصرية.
نتاجًا لكل تلك المؤشراتK بات أكثر من ثلث المصريين البالغ عددهم 105 ملايين مواطن تحت خط الفقر، حيث تصل متوسطات الأجور في مصر إلى قرابة 69 ألف جنيه سنويًا (2225 دولارًا) علمًا بأن حد الفقر بحسب البنك الدولي 1387 دولارًا (3.8 دولار يوميًا)، وهو ما يعني أن متوسط الأجور أكثر بقليل من خط الفقر الدولي.
تشير تقديرات أخرى إلى أن معدلات الفقر الحقيقية تتجاوز 60% من إجمالي السكان، ما يعني أن أكثر من 60 مليون مصري يعانون من الفقر، بعضهم يصل إلى مستويات من الفقر الحاد، وسط توقعات بزيادة تلك الأرقام إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
الكارثة الكبرى
تمثل أرقام الدين الخارجي تحديدًا، المؤشر الأكثر فضحًا لما وصل إليه الاقتصاد المصري من تأزم، هذا الدين الذي يلتهم الجزء الأكبر من ميزانية الدولة المخصصة في الأساس لتلبية احتياجات المواطنين، حيث قفز بصورة كبيرة من 34.9 مليار دولار عام 2011 إلى 43.2 مليار عام 2013، وصولًا إلى 48.1 مليار دولار في العام 2015.
ومع عام التعويم الأول في 2016 قفز إلى 56 مليار دولار، ثم 79 مليارًا في 2017 و92.6 مليار دولار في عام 2018 ليتجاوز نادي المئوية لأول مرة في تاريخه عام 2019 حين وصل إلى 108.7 مليار دولار، ليقفز منها إلى 123.5 مليار في 2020 و137.9 مليار في 2021، ثم 157.8 مليار عام 2022 إلى أن وصل إلى الرقم الأعلى في تاريخ الدولة المصرية 165.4 مليار دولار حتى النصف الأول من العام 2023، إضافة إلى 4 تريليونات جنيه إجمالي الديون الداخلية على الحكومة المصرية، وفق أرقام البنك المركزي المصري.
تشير التقديرات الصادرة عن المؤسسات المالية الدولية إلى أنه من المتوقع ارتفاع الدين الخارجي المصري خلال الفترة من 2022 – 2027 بنحو 217.7 مليار دولار أمريكي، ليصل حجم الدين إجماليًا بنهاية عام 2027 إلى 506.58 مليار دولار أمريكي، حسب تقرير لموقع Trading Economics.
في ضوء ذلك، فإن القاهرة مطالبة بالتزامات خارجية لسداد أقساط وفوائد تلك الديون حتى نهاية 2026، هذا إن لم تلجأ للاستدانة مرة أخرى، وذلك على النحو التالي: 11.327 مليار دولار يحين موعد سدادها بنهاية 2023، و10.9 مليار دولار في النصف الأول من 2024، و13.3 مليار في النصف الثاني من نفس العام، أما في العام 2025 فمطالبة بسداد نحو 9.3 مليار دولار في النصف الأول و5.8 مليار دولار في النصف الثاني، مقارنة بـ6.6 مليار دولار واجبة السداد في النصف الأول من 2026 بخلاف 10.2 مليار دولار في النصف الثاني منه، حسب بيانات البنك المركزي المصري.
يرى خبراء أن قرارات إنشاء المشروعات العملاقة كالعاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة والقطار الكهربائي هي قرارات سياسية أكثر من كونها قرارات اقتصادية
تحتل الدول العربية – الخليجية تحديدًا – صدارة الجهات الدائنة لمصر حيث تمتلك نحو 25.1% من إجمالي الديون الخارجية على الدولة، يليها صندوق النقد بنحو 15% (أي أن دول الخليج والصندوق يمتلكان 40% من إجمالي ديون مصر الخارجية) بجانب 11.8 مليار دولار مستحقة للبنك الدولي للإنشاء والتعمير، و4.7 مليار دولار لبنك الاستثمار الأوروبي، و3.1 مليار لبنك التصدير والاستيراد الإفريقي، و2.7 مليار دولار لبنك التنمية الإفريقي.
ما يعمق أزمة الديون الخارجية على مصر، موجة الخروج الآمن للاستثمارات الأجنبية في البلاد، ففي أقل من عام واحد فقط سحب المستثمرون الأجانب ما لا يقل عن 20 مليار دولار من السوق المصري، ما تسبب في تفاقم الأزمة ووضعت الدولة المصرية في مأزق حقيقي أمام التزاماتها الخارجية.
غياب فقه الأولويات
من السمات الأبرز للمشهد الاقتصادي المصري خلال السنوات الماضية غياب فقه الأولويات، حيث ركنت السلطة منذ عام 2015 إلى تكثيف المشروعات التي وصفتها بـ”القومية” والتهمت جزءًا كبيرًا من القروض التي حصلت عليها الدولة خلال تلك الفترة، رغم أنها تأتي في مرتبة أقل نسبيًا من قائمة الأولويات الملحة التي يحتاج إليها المصريون في تلك الوضعية الحرجة، حيث مال البعض إلى أن الهدف الأبرز وراء تلك المشروعات البحث عن مجد شخصي للسيسي ونظامه.
أثارت تلك المشروعات الجدل داخل الشارع المصري ولدى الخبراء الاقتصاديين، بين من يراها ذات جدوى عالية وتخلق فرص عمل جديدة وتؤصل لبنية تحتية قادرة على جذب الاستثمارات الخارجية، وآخرين يشككون في جدواها في هذا الوقت الذي تكافح فيه مصر للخروج من عنق الزجاجة.
من جانبه يرى الباحث تيموثي قلدس، زميل السياسات في “معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط” (مقره أمريكا)، أن قرارات إنشاء تلك المشروعات العملاقة “سياسية أكثر من كونها قرارات اقتصادية”، مضيفًا في مقابلة مع (DW عربية)، أن الحكومة المصرية أطلقت مشروع العاصمة الإدارية الجديدة الذي يتكلف 50 مليار دولار قبل فترة قليلة من الذهاب لصندق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، ثم تبعت ذلك بالشروع في بناء أطول برج في إفريقيا ومشروع القطار الكهربائي (المونوريل) المقرر أن يكون أطول خطوط المونوريل في العالم، وتابع “كلاهما يفتقدان المنطق الاقتصادي نظرًا لبناء المشروع في منطقة صحراوية مترامية الأطراف”.
ثم جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية وجائحة كورونا لتلقي بظلالها على تلك المشروعات التي توقف العمل في كثير منها، أو تباطأ نسبيًا، في ظل أزمة السيولة الدولارية، ما دفع بعض الخبراء للحديث عن احتمالية أن تكون هناك ارتدادات سلبية لتلك المستجدات على استمرارية تلك المشروعات، كما ذهب أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، عمرو عادلي، إلى أن الأزمة الاقتصادية الحاليّة “ستؤثر في الأغلب على الاستمرار في هذه المشروعات خاصة تلك التي تعتمد على مكون دولاري في صورة معدات أو تكنولوجيا مستوردة، أو معتمدة على ائتمان خارجي للتنفيذ”.
نتيجة واحدة وأسباب شتى
يستعرض الخبير الاقتصادي المصري، عبد التواب بركات، في دراسة له، أبرز الأسباب التي أودت بالاقتصاد المصري إلى حالته المأزومة تلك، لافتًا إلى أنه رغم الإمكانيات التي يتمتع بها والموارد الطبيعية المتعددة، فإن الإفراط في تلك الأسباب قاد في النهاية إلى طريق مسدود لا يمكن الخروج منه إلا بزلزال كبير يهدم كل المرتكزات التي ارتكزت عليها المنظومة الاقتصادية طيلة السنوات الماضية.
يحمّل بركات السياسات الاقتصادية التي انتهجتها السلطات المصرية منذ عام 2014 وحتى اليوم المسؤولية الكبرى فيما وصلت إليه البلاد من تدهور اقتصادي واجتماعي، لافتًا إلى أن التركيز على مشروعات بعينها دون الأخرى، والابتعاد عن مناطق الاشتباك مع هموم الاقتصاد الوطني ومشكلاته الملحة، في مقابل الإكثار من المشروعات الأقل أهمية، قاد في النهاية إلى الزج بأكثر من 60% من الشعب المصري في مستنقع الفقر والعوز.
يمثل تغول المؤسسة العسكرية (الجيش) على الاقتصاد الوطني أحد معاول الهدم القوية للمنظومة الاقتصادية، حيث احتكرت الشركات التابعة للجيش معظم السلع الإستراتيجية
ويرى الخبير الاقتصادي المصري أن النظام الحاليّ في ضوء ما يتبعه من سياسات أصبح عاجزًا عن مواجهة التحديات التي تواجه الدولة، وهو ما دفعه لأن يعتمد على الضرائب المحصلة من جيوب المواطنين لإنعاش إيرادات الدولة (77% من الإيرادات قادمة من الضرائب وتقديرات أخرى تشير إلى أكثر من هذا الرقم)، منوهًا أن السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية التي تبناها منذ 2016 كانت في معظمها تخدم على تجميل وجه النظام الحاكم وترسيخ أركان مجده الشخصي بعيدًا عن مصالح مصر العامة.
ثم تأتي فوضى القروض الأجنبية واستسهال الاقتراض والاستدانة، في ظل إهمال وتجاهل إستراتيجيات توطين الصناعات وزيادة نسبة المستلزمات الداخلة في الصناعة وارتفاع معدلات الواردات بشكل كبير، لتعمق الأزمة وتزيد من التهام العملات الأجنبية.
كذلك الإذعان لمطالب صندوق النقد الدولي والجهات المانحة، واللجوء إلى تعويم العملة المحلية ثلاث مرات متتوالية – مع توقع التعويم الرابع قريبًا – ليزيد الطين بلة، حيث فقدت العملة الوطنية (الجنيه) أكثر من 90% من قيمتها التي كانت عليها في بدايات 2016 (كان الدولار يساوي 8 جنيهات واليوم يساوي 31 جنيهًا)، ما أسفر عن طفرة كبيرة في أسعار السلع والخدمات كانت نتيجتها تعميق الأزمة ومزيد من تدني الحياة المعيشية للمواطنين.
يمثل تغول المؤسسة العسكرية (الجيش) على الاقتصاد الوطني أحد معاول الهدم القوية للمنظومة الاقتصادية، حيث احتكرت الشركات التابعة للجيش معظم السلع الإستراتيجية وزاحمت القطاع الخاص في مجالات العقارات والأدوية والصناعات الغذائية والزراعية والثروة السمكية، حتى سحبت البساط من تحت أقدامه بصورة شبه كلية.
أدى هذا التغول إلى غلق مئات المصانع والشركات، واضطرار الكثير من رجال الأعمال إلى تغيير نشاطهم الاقتصادي في ظل المنافسة غير المتكافئة مع شركات الجيش التي تتمتع بامتيازات وتسهيلات لا تُمنح لغيرها مما يعطيها التفوق والريادة، وهو الأمر الذي أثار حفيظة المؤسسات المالية الدولية التي كان من ضمن شروطها لمنح القروض لمصر فك حالة الاشتباك المعقدة بين الجيش والاقتصاد وإحداث نوع من التخارج النسبي.
يرجع البعض المأزق الاقتصادي الحاليّ إلى تفشي الفساد السياسي والحقوقي في البلاد، فتعبيد الطريق أمام الجنرالات والمحظيين والمقربين من النظام على حساب الأكفاء من أبناء الوطن، فضلًا عن الاعتماد على إرث الفساد المتوارث من عهد مبارك، كل ذلك حوّل السوق المصري إلى بيئة طاردة للاستثمارات، ما دفع رؤوس الأموال للهروب والبحث عن بيئات أكثر خصوبة وملاءمة، وهو ما تدفع الدولة ثمنه اليوم: شح في الاستثمارات ونهب للموارد وفقدان للشفافية والنزاهة.
ما عزز من صعوبة المشهد توقف الدعم الخليجي المقدم لمصر خلال العامين الماضيين في ظل توتير الأجواء بين القاهرة وحلفائها من الأنظمة النفطية التي أبدت تحفظها على السياسات الاقتصادية التي تتبعها السلطات المصرية، نجم عنه التراجع نسبيًا عن الدعم المطلق المقدم منذ 2013، ما أوقع الحكومة المصرية في مأزق كبير خاصة أنها لم تضع في حساباتها تلك الضربة المفاجئة.
لم يكن السيسي وحده المسؤول عما وصل إليه الاقتصاد المصري من تدهور وانهيار، حيث تسببت الجائحة (كوفيد 19) في غلق صنبور العملة الصعبة في البلاد كالسياحة التي تراجعت معدلاتها وقناة السويس التي تأثرت حتمًا بحركة التجارة العالمية، كذلك الحرب الروسية الأوكرانية التي دفعت أسعار السلع الأساسية إلى الارتفاع بشكل كبير.
مستقبل مثير للقلق
تشير الكثير من التقارير الواردة عن المنظمات الدولية إلى أن الأوضاع الحاليّة في مصر تشي بضبابية في المستقبل، وأن القادم لن يكون – في ظل الظروف والسياسات الراهنة – أفضل حالًا مما هو عليه الآن، ومن هنا جاءت معظم التصنيفات سلبية، آخرها ما كان في فبراير/شباط الماضي حين خفضت وكالة موديز إنفستورز سيرفيس الأمريكية مؤخرًا التصنيف الائتماني لمصر من B2 إلى B3، ما يعني قدرة الاقتصاد المصري المنخفضة على امتصاص الصدمات، ما يضطرها إلى طرح المزيد من السندات الباهظة غير المرغوب فيها، وينذر بتضخم الديون وتفاقم الوضع.
في تقرير لوكالة “رويترز” صادر في يونيو/حزيران الماضي، كشفت أن مهمة مصر في جمع السيولة الدولارية المطلوبة لسداد فاتورة ديونها الخارجية تزداد صعوبة يومًا بعد الآخر، في ظل التمادي في سياسة الاقتراض الخارجي طيلة السنوات الثمانية الماضية التي أسفرت عن زيادة معدلات القروض بمعدل 4 أضعاف مما كانت عليه قبل ذلك، فيما قالت وكالة موديز للتصنيف الائتماني إن مواعيد استحقاق الدين الخارجي الكبير لمصر أصبحت تمثل تحديًا متزايدًا.
حتى الاحتياطي النقدي الأجنبي الذي كانت ترتكن إليه الدولة المصرية لسد التزاماتها الخارجية تعرض هو الآخر لهزة عنيفة، حيث اضطرت الدولة لسحب أكثر من 40 مليار دولار من صافي الأصول الأجنبية في النظام المصرفي خلال العامين الماضيين في ظل شح النقد الأجنبي، وهو ما انعكس بشكل كبير على قدرات الدولة ووزنها الاقتصادي ومعدلات العجز بها.
قد يتبنى السيسي إصلاحات صندوق النقد من أجل إيقاف تدهور الاقتصاد المصري لكن من الصعب أن يتغير الوضع إلى الأفضل دون تصحيح حقيقي للمسار
منذ الحرب الروسية الأوكرانية تشهد أسعار السلع والخدمات في مصر قفزات جنونية، ما أثقل كاهل المواطنين بشكل لم يشهدوه منذ مئات السنين، كذلك يترقب الشارع المصري تعويمًا رابعًا من المحتمل أن يشهده الجنيه خلال الأيام المقبلة، استجابة لشروط صندوق النقد الذي أجّل مراجعاته لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري لحين الرضوخ لتلك الشروط حتى يفرج عن الأقساط المتبقية من القرض التي حصلت القاهرة على حصة منه قبل عدة أشهر.
فيما يقول خبراء إن القاهرة وبالاتفاق مع الصندوق أرجأت خطوة التعويم الرابع لما بعد الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها نهاية هذا العام تجنبًا لأي غضب شعبي أو زيادة في معدلات الاحتقان، خوفًا من تأثير ذلك على فوز السيسي بالولاية الثالثة، ما يعني أن تلك الإجراءات المؤجلة من المرجح أن تكون قاسية جدًا على المواطن.
وحاولت القاهرة إنقاذ ما يمكن إنقاذه خلال الآونة الأخيرة من خلال تبني بعض السياسات والإستراتيجيات لإنعاش خزانة الدولة بالعملة الصعبة، مثل بيع ورهن السندات، وبيع أصول الدولة لصناديق سيادية خليجية، وطرح أكثر من 30 شركة تابعة للجيش للبيع، لكنها لم تؤتِ ثمارها المنشودة في ظل التقييم المتراجع لتلك الأصول من جانب، وعزوف بعض المستثمرين عن الشراء بسبب عدم الاستجابة لشروطهم التي تراها الحكومة المصرية صعبة وغير مقبولة من جانب آخر.
يرى الباحث الأكاديمي، ديفيد شينكر، مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أن السيسي قد يتبنى إصلاحات صندوق النقد من أجل إيقاف تدهور الاقتصاد المصري لكن من الصعب أن يتغير الوضع إلى الأفضل دون تصحيح حقيقي للمسار.
وأضاف في تحليله المنشور على موقع المعهد الإلكتروني “في حال استمرار الأزمة، ستخفف على ما يبدو التجربة المريرة لثورة عام 2011 من انتشار الاحتجاجات على نطاق واسع. ومع ذلك فقد تزداد الأمور سوءًا وقد تشهد مصر احتجاجات عفوية عرضية وارتفاع معدل الجريمة وازدياد هروب رؤوس الأموال وزيادة القمع، ما يدفع المصريين إلى الهجرة، سواء بشكل قانوني أم غير قانوني، عن طريق القوارب إلى أوروبا، على غرار ما يحدث في تونس ولبنان”.
رغم تلك الصورة القاتمة فمصر لم تصل بعد إلى مستوى سريلانكا (أعلنت إفلاسها وعدم قدرتها على سداد ديونها العام الماضي ويُتوقع أن يستمر هذا الإفلاس إلى عام 2026) فيما يتعلق بفكرة التخلف عن السداد، كما كشفت مؤسسة “أكسفورد إيكونوميكس أفريكا” في مذكرة بحثية صدرت في أغسطس/آب 2022، فلديها احتياطي أعلى بكثير مما عليها من ديون، لكن المضي قدمًا في تلك السياسات الاقتصادية التي ثبت بالدليل القاطع فشلها، ينذر بمستقبل أكثر ظلامًا قد يضع البلد بأكملها أمام طريق مسدود سيدفع ثمنه الجميع.