قبل ما يقرب من الشهر ونصف من الآن، أعلن الرئيس اللبناني ميشال عون تفضيله فكرة الفراغ النيابي على العودة إلى قانون الستين الذي كانت تطالب به عدد من الكتل النيابية والسياسية، مما أعاد خلط الأوراق، خصوصًا بعد تقديم وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر (تيار الرئيس) جبران باسيل اقتراحه وقتها بقانون انتخابي يجمع بين نظامي النسبي والأكثري، وهو اقتراح رأى فيه البعض محاولة “تهميش” لهم، ويهدف إلى المساس باتفاق الطائف والعودة بالبلاد إلى ما قبل العام 1975.
واليوم يبدو أن عون أسقط نفسه في حفرة النسبية ويبحث عمن يخرجه منها، خصوصًا بعد محاولة حزب الله فرض قانون النسبية على أساس لبنان دائرة واحدة، وهي الحالة التي تقصي تيار عون في حال الانتخاب وفقًا لها، والأخطر صعوبة موقف تيار عون ومؤيديه حال رغبتهم في التراجع عن قرار النسبية الذي سبق وتم التهديد بالحشد الجماهيري لتمريره إن لم توافق القوى السياسية عليه أو الفراغ النيابي كما كان يهدد عون قبل اليوم بشهر ونصف تقريبًا.
انتكاسة للكتلة المسيحية
لمن لا يتابع جيدًا السياسة اللبنانية والموقف الداخلي، ربما يشعر ببعض الحيرة، كيف طالب تيار عون بالنسبية واليوم يشعر بأن هذا القانون في حال تطبيقه يمثل انتكاسة للكتلة المسيحية في البرلمان؟
للتوضيح، فإن التوصيف الأمثل للحالة الحالية التي تنتاب العونيين أن قانون النسبية تحول من مطلب إلى مقتل، ربما بخطأ في الحسابات السياسية أو اختلاف بين زمن الاتكال على الحليف الشيعي “حزب الله وحركة أمل” وقت الانتخابات الرئاسية للوصول إلى قصر بعبدا، وزمن الاستناد إلى الثنائية مع تكتل القوات لتثبيت الحصة المسيحية في السلطة.
يبدو أن عون أسقط نفسه في حفرة النسبية ويبحث عمن يخرجه منها، خصوصًا بعد محاولة حزب الله فرض قانون النسبية على أساس لبنان دائرة واحدة، وهي الحالة التي تقصي تيار عون في حال الانتخاب وفقًا لها
كيف اختلف الأمر إذًا، وما أسباب التحول في العلاقة القوية وقت الانتخابات بين العونيين وحزب الله؟
برؤى المراقبين فإن حسابات التيار الوطني الحر ما قبل وصول قصر بعبدا ليست كما بعدها، فمعركة الرئاسة فرضت على عون وتياره في السابق أن يتخلى عن الأسس والثوابت التي تحفظ الوجود المسيحي في التركيبة اللبنانية، حتى إنه طالب وقتها بانتخاب الرئيس من “الشعب”، أي من الأغلبية العددية الإسلامية، وهي الطريقة التي ضمنت له أصوات مؤيدي حزب الله للوصول لمبتغاه.
أما اليوم فإن الرئيس المسيحي مطالب بتكريس العونية السياسية ودور المسيحيين في مستقبل لبنان، وهو ما لا يمكن تحقيقه مع فكرة النسبية على أساس لبنان دائرة واحدة، لأنها تعني وصول الكتل الإسلامية بشقيها الشيعي والسني بأغلبية كبيرة للبرلمان تقارب الـ75 مقعدًا، بناء على نسبة (28.5% عدد المقترعين السنة، مقابل 28.3% عدد المقترعين الشيعة)، بينما لن يتبقى لتيار عون ومسيحييه سوى ما يقارب الـ45 نائبًا في حال ظلت نسبة الـ36% لنسبة الناخبين المسيحيين كما هي، بضم مسيحيي الخارج لهم، وهو أمر غير مضمون العواقب.
هذه المخاوف هي التي دفعت وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر (تيار الرئيس) جبران باسيل، للعودة لاقتراح قانون للانتخاب ينص على التصويت وفق الأكثري على أساس 14 دائرة مختلطة، على أن تنتخب كل طائفة نوابها، ووفق النسبي على أساس 5 دوائر، وهي المحافظات الخمس التاريخية، وهو قانون مختلط “يريح الجميع”، لكن يأتي من خلاله معظم النواب المسيحيين بالأكثرية، وهي الفكرة التي رد عليها حزب الله برسالة وصفت إعلاميًا بالـ”فجة”، واعتبرها آخرون نوعًا من التهديد، قال فيها إن باسيل وتياره يبحثان عن “حقوق المسيحيين” وهو “تقوقع طائفي” لن يؤدي إلى إبعاد البلاد عن جدلية “الطائفية السياسية”.
سيتم الاتفاق نظريًا على صيغة قانون “معطلة” مؤقتًا، مما يجعل التمديد للمجلس أمرًا حتميًا ولو لفترة لا تتجاوز الأشهر الست، بحيث تبقى الكتل النيابية على تمثيلها من دون الخوض في اختبار الأحجام الذي قد يخلق ميزان قوى جديد
مجلس أرثوذوكسي
أدرك العونيون الآن أن النسبية خطر عليهم، ويحاولون التملص منها، لكن إمكانية الاعتراض اليوم تختلف عن السابق، بعد أن هددوا الحريري و14 آذار سابقًا بالشارع، إذا لم يقر قانون انتخابي يراعي “التمثيل المسيحي”، فهم لا يستطيعون اليوم النزول إلى الشارع نفسه بفكرة عكس تلك التي هددوا بها سابقًا فيها رائحة حزب الله.
هناك عدة سيناريوهات للموقف في لبنان بعد طرح باسيل فكرته كاملة لقانون الانتخابات النيابية، والتي تقضي كما قلنا بتقسيم المقاعد بالتساوي بين الأكثري والنسبي، على أساس 14 دائرة مختلطة على أن تنتخب كل طائفة نوابها، واعتماد النسبية في 5 دوائر وهي المحافظات الخمس التقليدية، بالإضافة لتشكيل مجلس شيوخ ينتخب على الأساس الأرثوذكسي ورئيسه مسيحي غير ماروني احترامًا للمناصفة.
سيناريوهات المواجهة
هنا تبقى السيناريوهات التي يمكن استخلاصها من التسريبات القليلة لوجهة نظر الفرقاء عن طرح باسيل، حيث تشير التسريبات إلى تحفظ الثنائي الشيعي باعتبار أن تلك الصيغة ستعني أن النتيجة ستحدد سلفًا، خصوصًا مع فكرة دمج المناطق ذات الأكثرية المسيحية ضمن دائرة واحدة أو أكثر، كدمج بشري البترون وجبيل الكورة وزغرتا، ضمن دائرة واحدة، وكذلك دمج كسروان مع المتن وبعبدا ضمن دائرة واحدة، مما يعني محاصرة تيار المردة في زغرتا.
أدرك العونيون الآن أن النسبية خطر عليهم ويحاولون التملص منها، لكن إمكانية الاعتراض اليوم تختلف عن السابق، بعد أن هددوا الحريري و14 آذار سابقًا بالشارع، إذا لم يقر قانون انتخابي يراعي “التمثيل المسيحي”
استفتاء وحوار وطني
في المقابل يرى التيار العوني أن رفض الكتلة الشيعية لتلك الصيغة المختلطة ليس لها سوى توصيف واحد، هو محاولة تأجيل الانتخابات وإلا اللجوء إلى إجراء استفتاء شعبي في شأن القانون الذي يريده اللبنانيون أو الدعوة لعقد حوار وطني شامل يضمن كل القوى لأجل إيجاد القانون الجديد في أسرع وقت ممكن.
فراغ وتمديد بشروط
السيناريوهات كلها مفتوحة بينها سيناريو الفراغ النيابي التي هدد به عون سابقًا، لكن بصورة مختلفة، كون اللجوء لفكرة الفراغ أو التمديد للمجلس الحالي في ظل وجود قانون انتخابي غير مقبولة دستوريًا، ولن يكون في إمكان أي قوة سياسية في البلاد تحمل تبعاتها، لذا سيتم الاتفاق نظريًا على صيغة قانون “معطلة” مؤقتًا، مما يجعل التمديد للمجلس أمرًا حتميًا ولو لفترة لا تتجاوز الأشهر الست، بحيث تبقى الكتل النيابية على تمثيلها من دون الخوض في اختبار الأحجام الذي قد يخلق ميزان قوى جديد، وهو اتفاق – في حال تحققه – مريح حاليًا للجميع بدرجات متفاوتة.