ترجمة وتحرير نون بوست
لطالما داعب حلم الدراسة في غزة الطالبة التركية، “رقية دمير”، البالغة 26 سنة، وهو الأمر الذي جعلها أبعد ما يكون عن شابة نموذجية. في واقع الأمر، صممت رقية على متابعة دراسة الماجستير في غزة، لما للقطاع الفلسطيني المحاصر من مكانة في قلبها. وبالعودة إلى أصولها، فقد نشأت رقية دمير في عائلة محافظة، حيث كان التضامن مع القضية الفلسطينية حاضرا بقوة. وبالتالي، لم تتكبد عائلتها عناء إقناعها بالعدول عن فكرة الدراسة في غزة.
في الحقيقة، تمكنت الطالبة التركية، وهي آخر العنقود، من كسب موافقة عائلتها، ذلك أن شعورها بالانتماء للشعب الفلسطيني ساهم في تقليل المخاوف المرتبطة بالمخاطر التي قد تنجر عن قرارها. في الأثناء، يتوق شباب غزة إلى مغادرة القطاع القابع تحت وطأة الفقر سعيا لمتابعة الدراسة في الخارج، إلا أن صعوبة الانتقال فضلا عن القيود المفروضة على الحدود من إسرائيل ومصر على حد سواء تقف عقبة أمام أحلامهم.
تقديرا من رقية للعقبات التي تواجه طلاب غزة ونضالهم بهدف ممارسة حقهم في التعليم، كافحت الشابة التركية وتحدّت الصعاب لتشق طريقها إلى القطاع وتخوض تجربة الحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية
في الواقع، فرضت إسرائيل حصارا على قطاع غزة منذ سنة 2007، وذلك في أعقاب فوز حركة حماس بالانتخابات. علاوة على ذلك، أبقت مصر على معبر رفح الحدودي مغلقا، منذ الإطاحة بحكم الرئيس المصري، محمد مرسي، عن طريق الانقلاب العسكري. في المقابل، لم تسمح الحكومة المصرية لسكان غزة بالعبور إلا في حالات استثنائية ولفترات وجيزة. كنتيجة لذلك، اضطر العديد من طلاب غزة إلى التخلي عن أحلامهم في الحصول على درجات علمية من الجامعات الأجنبية.
في هذا الإطار، وتقديرا من رقية للعقبات التي تواجه طلاب غزة ونضالهم بهدف ممارسة حقهم في التعليم، كافحت الشابة التركية وتحدّت الصعاب لتشق طريقها إلى القطاع وتخوض تجربة الحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية. وفي تعليقها على تجربة العبور إلى غزة، قالت رقية: “كنت على معبر رفح برفقة العديد من الفلسطينيين الذين يتحيّنون فتح نافذة للعبور، حيث أننا قضينا خمسة أيام ننام خلالها على الأرض الباردة، في غياب وسائل الراحة على غرار الأسرّة والمياه النظيفة”.
أخيرا، وبعد فتح الحدود، تبخرت المعاناة التي عاشتها رقية في الهواء حين خطت أولى خطواتها على الأراضي الفلسطينية. وفي الحقيقة، غمرت السعادة الطالبة التركية ما دفعها إلى الجثو على ركبتيها تعبيرا منها على سعادتها في تلك اللحظة. وفي هذا الصدد، صرحت رقية قائلة: “لقد قبّلت الأرض، لم أصدق أنني وصلت أخيرا إلى غزة”. كما أضافت رقية أن “الأمر يستحق العناء” في إشارة منها إلى التجربة التي عاشتها والتي تمثل المعاناة اليومية للفلسطينيين العالقين على الحدود المصرية مع غزة على أمل فتح معبر رفح.
من ماليزيا إلى غزة
في السابق، بدأت رقية تعليمها في جامعة أزمير حيث درست علم الفلك. لكن سرعان ما تلاشى طموحها المتعلق بدراسة النجوم، حينما تم التعامل معها بقسوة على خلفية الحق في ممارسة معتقداتها الدينية. وتجدر الإشارة إلى أن الطالبات التركيات، المحجبات على وجه الخصوص، كنّ مجبرات على نزع الحجاب في حرم الجامعة، ذلك أن مبدأ العلمانية كان يطبّق على الجامعات التركية باعتبارها مؤسسات تابعة للدولة.
علاوة على ذلك، كانت الطالبة المحجبة معرضة للطرد من الجامعة في حال خالفت هذا القرار، الذي تم إلغاؤه تقريبا في كامل الجامعات التركية سنة 2010. في الأثناء، واعتراضا منها على القرار الرسمي، غادرت رقية تركيا بهدف الدراسة في بلد مسلم، الأمر الذي من شأنه أن يسمح لها بممارسة حقوقها الدينية بكل حرية. وفي نهاية المطاف، التحقت الطالبة التركية بمقاعد الدراسة في جامعة ماليزيا، غير أنها اضطرت إلى العودة إلى “نقطة الصفر” نظرا إلى أن علم الفلك لم يكن من بين الشعب المتاحة.
“لقد قبّلت الأرض، لم أصدق أنني وصلت أخيرا إلى غزة” رقية دمير
كنتيجة لذلك، وقع اختيار رقية على علم النفس حيث يعدّ ذلك أفضل قرار اتّخذته في تلك المرحلة. وعلى الرغم من مزاولة رقية لتعليمها في ماليزيا، إلا أن تطلعاتها لمواصلة تعليمها العالي في غزة لم تهتزّ. فضلا عن ذلك، أثارت الطالبة التركية دهشة أصدقائها الفلسطينيين من خلال أحاديثها المتواترة والكم الهائل من الحب الذي تحمله لغزة. في المقابل، استبعد أصدقائها أن تكون مهمة الشابة سهلة، خاصة وأنهم كفلسطينيين عاجزون عن الدخول إلى القطاع بسبب القيود المفروضة على الحدود.
في هذا الصدد، أوضحت رقية قائلة: “لقد أخبرني أصدقائي أن الدخول إلى القطاع كان شبه مستحيل، والأمر نفسه ينطبق عليهم على الرغم من أنهم فلسطينيون”. ولحسن الحظ، لم تنطفئ شعلة أمل رقية بفضل العلاقات التي كانت تجمعها بالمؤسسات الأكاديمية في كل من ماليزيا وقطاع غزة.
في هذا السياق، قالت رقية: “بكل بساطة، لم أتخلّ عن حلمي، حيث أنني طلبت يد العون من أولئك الذين كانت لديهم صلات مع المؤسسات التعليمية في قطاع غزة”.
في الحرم الجامعي
على إثر إتمام رقية لبحثها عن الجامعة المناسبة، راسلت الطالبة المهندس الفلسطيني، علاء الدين الحايك، الذي يعدّ صديق العائلة المقيم في غزة، والذي تحصل على شهادة الماجستير في تركيا. ونظرا للعلاقات المتينة التي يمتلكها المهندس الفلسطيني داخل الجامعة الإسلامية في غزة، لم يتوان هذا الأخير عن مساعدة رقية بغية تحقيق غايتها. وقد أفاد الحايك قائلا: “لقد شجعتها على التقدم بطلب الدراسة في الجامعة الإسلامية في غزة، كما مكّنتها من الاتصال بالإدارة بهدف إتمام عملية القبول والتسجيل”.
بدأت رقية تعليمها في جامعة أزمير حيث درست علم الفلك. لكن سرعان ما تلاشى طموحها المتعلق بدراسة النجوم، حينما تم التعامل معها بقسوة على خلفية الحق في ممارسة معتقداتها الدينية
سُعد فريق القبول بقبول ملف الطالبة التركية كما بذلوا أقصى جهودهم لتسهيل العملية، حيث اعتبر القائمون على الجامعة الإسلامية رغبة رقية بمثابة رسالة تضامن مع شعب غزة. كنتيجة لذلك، سرعان ما أرسلت الجامعة بخطاب قبول رسمي إلى الطالبة التركية. وفي تعليقه على الأحداث، قال الحايك: “كانت الخطوة التي اتخذتها رقية شجاعة جدا والأولى من نوعها”، ذلك أنها قدّمت برسالة واضحة مفادها أن أهل غزة ليسوا وحدهم، وأن نضال القابعين على هذه الأرض المحاصرة يتم تقديره من طرف إخوتهم وأخواتهم في العالم الإسلامي والعربي.
الطالبة التركية رقية دمير تزاول تعليمها في الجامعة الإسلامية بغزة
وعلى إثر وصول رقية إلى الجامعة الإسلامية، لم يتوان الأساتذة عن التعبير عن دعمهم الكامل للطالبة، ذلك أنها لم تكن تتقن اللغة العربية مما صعّب فهمها للمحاضرات. وفي هذا الإطار، قام الدكتور سمير قوته بإلقاء محاضرات علم النفس باللغتين الانجليزية والعربية بهدف تسهيل عملية التعلم خلال بداية الفصل الأول. وحول هذه المبادرة، أوضح قوته قائلا: “إنه لمن واجبنا أن نحرص على أن تكون عملية دراستها سهلة وسلسة. نحن سعداء جدا لإقدامها على هذه المغامرة كما أننا فخورون باستقبال جامعتنا لطالبة تركية”.
أصدقاء جدد
تعبيرا عن تقديرها لرقية، سمحت لها الجامعة الإسلامية في غزة بكتابة ومناقشة الأطروحة النهائية باللغة الإنجليزية بهدف مساندة الطالبة التركية، حيث قال القائمون على الجامعة: “نحن نبحث عن استقطاب المزيد من الطلبة الدوليين الراغبين في التعبير عن دعمهم للقضية الفلسطينية وكسر الحصار الإسرائيلي على غزة”.
في أواخر السداسي الأول، بدا من الواضح أن رقية كانت من بين المتفوّقين في الجامعة، ذلك أن مستواها في اللغة العربية قد شهد تحسنا ملحوظا. وقد قالت دمير إن “من بين تلك الأشياء التي جعلتني أُقدم على الدراسة في غزة هي أن هذه الفرصة الذهبية مكنتني من صقل مهاراتي في اللغة العربية، نظرا لكوني “منغمسة” تماما في مجتمع عربي”.
بالإضافة إلى ذلك، سمحت هذه الفرصة للطالبة التركية بإنشاء صداقات جديدة تعتز بها، على غرار، ريم أحمد، التي شاركتها برنامج الماجستير في الجامعة الإسلامية في غزة. وفي هذا الصدد، قالت ريم أحمد لموقع ميدل إيست آي: “نحن محظوظون جدا لتواجد رقية في جامعتنا، إذ أنها أضافت لمسة خاصة على الصفوف التي نرتادها. فضلا عن ذلك، وباعتبارنا مجموعة من طلبة التعليم العالي، فإننا نحرص على أن تشعر شقيقتنا التركية بالراحة التامة في المحاضرات ونتأكد من فهمها لما يشرحه الأساتذة”.
“لقد أخبرني أصدقائي أن الدخول إلى القطاع كان شبه مستحيل، والأمر نفسه ينطبق عليهم على الرغم من أنهم فلسطينيون” رقية دمير
في حقيقة الأمر، لم يكن من المفاجئ بالنسبة لريم أحمد أن تعلم أن هناك عديد الطلبة الأتراك المساندين والمتضامنين مع الفلسطينيين، غير أنها رأت أنه من غير الطبيعي أن تتخلى فتاة تركية شابة عن حلم الدراسة في جامعات مرموقة في الخارج وتختار جامعة في غزة.
الدعم الذي حظيت به رقية
على الرغم من أن رقية تعيش في غزة بعيدا عن عائلتها، إلا أنها محاطة بأصدقاء لم يتركوا شعور الوحدة يتسلل إلى قلبها، حيث تقول الطالبة التركية: “أنا ممتنة جدا لأصدقائي وجيراني الذين جعلوني أشعر أنني في وطني وبين أهلي. فهم دائما ما يقفون إلى جانبي”. في الواقع، لم ترى رقية عائلتها منذ عدة أشهر، إلا أنها تتواصل معهم عبر مكالمات الفيديو. وفي هذا السياق، علّقت الطالبة قائلة: “سُعدت أمي جدا عندما علمت أن وزني قد زاد، حيث اعتبرتها علامة على أنني في صحة جيدة وراحة تامة في غزة”.
وتجدر الإشارة إلى أن أحد الذين احتضنوا رقية كانت جارتها، تمام مهاني، أم لخمسة أطفال، حيث اعتبرت رقية في مقام ابنتها السادسة. وقالت مهاني للموقع: “أصبحت رقية جزءا من عائلتنا، نحن سعيدون أننا جيران، فمن الرائع أن ترى فتاة قد كبرت في بلد مثل تركيا تمتلك الشجاعة للعيش في مدينة خطيرة مثل غزة”. وفي الحقيقة، مثّل هؤلاء الأصدقاء دعما أساسيا لرقية على المستوى العاطفي، خاصة حين لمست شخصيا معنى الحياة القاسية في غزة.
تعبيرا عن تقديرها لرقية، سمحت لها الجامعة الإسلامية في غزة بكتابة ومناقشة الأطروحة النهائية باللغة الإنجليزية بهدف مساندة الطالبة التركية
تجربة الحرب
نظرا إلى أن رقية لم تخض تجربة الحرب أو الفوضى في بلدها تركيا، فقد تعرضت الطالبة التركية لخوف شديد عند أول تجربة لها مع العنف المسلط على غزة. وخلال أول ليلة لها في مخيم جباليا للاجئين، استهدفت غارتان إسرائيليتان منزلا قريبا من منزل الطالبة، وهي التي لم تر من قبل طائرات حربيّة أو تشهد قصفا لموقع ما. ولكن من ألطاف الله أن أحدا لم يتأذى تلك الليلة، وتبين فيما بعد أن المنزل هو إحدى قواعد المقاومة الخالية. وفي وصفها لما حدث، قالت رقية: “لقد سخر مني الأهالي وأعلموني بأنّي سأتعود على مثل هذه الغارات”.
الطالبة التركية، رقية دمير في غزة
في الحقيقة، صدُقت توقعاتهم، وهذا ما كشف عنه تصريحها حيث أفادت أنه “بعد أسبوعين فقط، تمّت دعوتي لمأدبة عشاء من قبل عائلة فلسطينية، وقد وقعت يومها ثلاثة غارات، غير أن هذا الأمر لم يفسد مخططي بالذهاب والاستمتاع برفقة هذه العائلة الرائعة”. في المقابل، وجدت رقية أنه لمن المخيب للآمال أن يتعود سكان غزة على الغارات الإسرائيلية، التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتهم. وبالتالي، أكدت دمير على أن “شعب غزة يستحق أن يعيش في سلام، فمن غير العدل أن يتعرضوا للأعمال الوحشية ولجرائم الحرب”.
خلال وقت الفراغ، تستمع دمير بزيارة أشهر معلم في غزة وهو الميناء، الذي يساعدها في التخفيف من وطأة الحنين إلى الوطن، حيث قالت: “أنا من أشد المحبين لميناء غزة، فالنسيم العليل يمدني بالنشاط كما أنه يذكرني بالأيام الخوالي في ديار بكر”.
المصدر: ميدل إيست آي