في أكتوبر/ تشرين الأول 1973، كانت الأحزاب المتنافسة في الانتخابات البرلمانية التركية (بعد انقلاب عام 1971) تواجه تحديًا يخص مستقبل خيارات إدارتها للاقتصاد نظرًا للضغوط الاقتصادية التي كانت تواجهها الجمهورية التركية آنذاك بسبب صعود أسعار النفط على إثر الحظر العربي للنفط.
يرى ديفيد شيريف، مراسل الإيكونوميست في فرانكفورت، أنه كان على تركيا آنذاك، كمستورد كبير للمواد البترولية، إما الاستمرار في تقديم الوقود والسلع الأساسية بأسعار مدعومة أو تعويم الليرة (لتحويل العبء من الدولة إلى المواطن)، من بين الخيارين، اضطرت الدولة التركية، في هذه الفترة الحساسة، لاختيار الاتجاه الأول واستمرت في دعم الأسعار وإبقاء سعر العملة عند 14 ليرة قبالة الدولار الأمريكي.
بعد فوز الائتلاف البرلماني لبولنت أجاويد رئيس حزب الشعب الجمهوري، كانت الضغوط في تزايد مع عودة عدم الاستقرار للمجال السياسي ودخول القوات التركية جزيرة قبرص في يوليو/ تموز 1974، كانت الحكومة التركية التي رأسها أجاويد آنذاك تبقي على عجز ضخم في الحساب الجاري بفضل استمرار التمويل الأجنبي وتحويلات الأتراك العاملين في غرب أوروبا ودفع أسعار فائدة مرتفعة على ودائع بالعملات الأجنبية، ولكن بحلول عام 1977، وصل الدين الخارجي للجمهورية التركية إلى مراحل خطرة.
بعكس سبعينيات القرن الماضي، تمتع الاقتصاد التركي منذ منتصف العقد الماضي بمعدلات نمو مرتفعة مدفوعًا بمعدلات استهلاك قوية بعد لبرلته، ومع استمرار تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، استطاعت تركيا تحقيق معدلات نمو مرتفعة نسبيًا بعد الربيع العربي ولكن بوتيرة أضعف، إذ كان لتعاظم عدم الاستقرار الإقليمي على التجارة الخارجية والسياحة تأثير على الأداء الاقتصادي، ولكن في عام 2016، جاءت محاولة الانقلاب غير الناجحة والعمليات الواسعة التي نفذها كل من حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة الإسلامية لتسدد ضربات موجعة للاقتصاد، يتمتع الاقتصاد التركي بمرونة ربما تجعله قادرًا على تجاوز هذه الأزمات ولكن قد تتزايد كلفة امتصاص الضربات.
بعكس سبعينيات القرن الماضي، تمتع الاقتصاد التركي منذ منتصف العقد الماضي بمعدلات نمو مرتفعة مدفوعًا بمعدلات استهلاك قوية بعد لبرلته
في وقت يحاول فيه حزب العدالة والتنمية حشد الناخبين للتصويت بـ”نعم” في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، يرى البعض أن الحكومة تنفذ سياسات اقتصادية تخدمها سياسيًا في الشارع التركي ولكنها لا تدعم الاقتصاد على المدى الطويل.
في هذا الوقت الحساس، على الرغم من أن حزب العدالة والتنمية لا يواجه نفس الضغوط الاقتصادية التي واجهها يومًا ائتلاف حزب الشعب الجمهوري في السبعينيات ولكنه لا يمر بتحديات اقتصادية غير ضئيلة، واليوم يزيد التصعيد الخطابي بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، في سياق النزوع القومي الذي يشهده الطرفان، من الضغوط على الاقتصاد التركي، إذ إن هروب رؤوس الأموال الأجنبية خاصة الأوروبية، أصبح خطرًا حقيقيًا، ولكن لن تتأثر أنقرة فقط بهذه التطورات.
في يوليو/ تموز 2016، في أعقاب محاولة الانقلاب العسكري غير الناجحة ضد حزب العدالة والتنمية، خفضت وكالات ائتمانية عالمية من التصنيف الائتماني لتركيا، حيث خفضت وكالة “ستاندارد أند بور” تصنيف تركيا آنذاك بدرجة واحدة إلى “بي بي” BB بسبب تزايد عدم اليقين السياسي الذي قد يؤثر على نمو الاستثمار واستقرار الإدارة المالية للبلاد، ولاحقًا في سبتمبر/ أيلول، خفضت وكالة “موديز” أيضًا من تصنيف تركيا الائتماني من “بي إيه واحد” (Ba1) إلى “بي إيه إيه ثلاثة” (Baa3) بسبب المخاطر الاقتصادية والسياسية.
كان لخفض التصنيفات الائتمانية لتركيا تأثيرًا على تدفق رؤوس الأموال الأجنبية والأوروبية، إذ إن مد خطوط الائتمان التي تساهم مؤسسات مالية أوروبية في تقديمها للمصارف التركية في صورة قروض مشتركة Syndicated loans تتأثر بالتقييمات الدورية التي تصدرها المؤسسات الائتمانية والاستشارية العالمية، ونظرًا للدور الذي تلعبه التوترات السياسية في تشكيل وتوجيه قرارات المستثمرين، ربما كان للتوترات المتزايدة بين أنقرة والعواصم الأوروبية، إلى جانب صعود المخاطر الاقتصادية، دور أيضًا في تراجع تدفق الاستثمارات لتركيا في أعقاب محاولة الانقلاب غير الناجحة، كما كان هروب ما يصطلح على تسميته “المال الساخن” Hot money هو الظاهرة الأبرز بعد محاولة الانقلاب وفرض حالة الطوارئ.
في وقت يحاول فيه حزب العدالة والتنمية حشد الناخبين للتصويت بـ”نعم” في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، يرى البعض أن الحكومة تنفذ سياسات اقتصادية تخدمها سياسيًا في الشارع التركي ولكنها لا تدعم الاقتصاد على المدى الطويل
هناك عدد من العوامل السياسية التي أثرت، على الأرجح، سلبًا على مزاج المستثمرين الأجانب خلال الفترة السابقة، ويمكن حصر هذه التوترات (وإن كان لها سياقات أوسع) في النقاط التالية: 1- تهديدات وقف محادثات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي من الجانب الأوروبي. 2- ازدياد التقارب بين أنقرة وموسكو. 3- تكرر تهديدات تركيا بإلغاء اتفاقية وقف تدفقات اللاجئين المبرمة مع الاتحاد الأوروبي، وجاءت الأزمات الناتجة عن منع عدد من المسؤولين الأتراك من حضور حملات دعائية مؤيدة للتعديلات الدستورية في عدد من البلدان الأوروبية لتزيد من الشقاق.
في أعقاب منع طائرة وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو، من الهبوط في هولندا، صعد الجانب التركي ضد لاهاي لتقوم لاهاي بالتصعيد المضاد حتى تحولت التوترات بين البلدين إلى أزمة دبلوماسية، وقبل ذلك بدأت بوادر أزمة بين أنقرة من جهة وبرلين (الشريك التجاري الأول لتركيا في الاتحاد الأوروبي) وفيينا من جهة أخرى لا زالت أثارها الخطابية ممتدة على خلفية منع مسؤولين أتراك أيضًا من حضور تجمعات للجالية التركية تدعم التعديلات الدستورية، ولاحقًا طلبت الدنمارك من تركيا تأجيل زيارة رئيس وزرائها التي كان مزمع حدوثها في 20 من مارس تضامنًا مع هولندا، فتضيف هذه التوترات السياسية المتزايدة من حالة عدم اليقين السياسي التي تؤثر بدورها على قرارات المستثمرين الأوروبيين وشركائهم.
ووفقًا لتقارير، تحتل هولندا المركز الثالث بعد ألمانيا وبريطانيا من حيث عدد الشركات الأوروبية المنخرطة في قطاعات الاقتصاد التركي، حيث تصل عدد الشركات الألمانية في تركيا إلى 6602 شركة وتبلغ عدد الشركات البريطانية 2933 شركة ثم تليها الشركات الهولندية التي يصل عددها إلى 2610 شركة، ولكن وفقاً لتقديرات، منذ عام 2002 إلى 2016، كانت هولندا المصدر الأول لتدفقات رأس المال الأجنبي لتركيا إذ وصل مجموع قيمة هذه التدفقات إلى 21.3 مليار دولار أمريكي.
ووفقًا للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، تمول المصارف الأوروبية الجزء الأكبر من مشاريع البنية التحتية وقطاع الصحة في تركيا، كما أن ما يقارب من 70 – 75% من الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا يأتي من شركات في الاتحاد الأوروبي.
ليس من السهل تقويض الشراكة الاقتصادية الممتدة بين تركيا والاتحاد الأوروبي ولكن يمكن إضعافها
ولكن إذا كانت التوترات السياسية بين أنقرة والعواصم الأوروبية قادرة على التأثير سلبًا على تدفق الاستثمارات الأوروبية وتوفير خطوط الائتمان للقطاع المصرفي التركي، كيف يؤثر ذلك على الاقتصاديات الأوروبية في المقابل؟
يسهم توفير خطوط الائتمان بشكل كبير في تحفيز نمو الاستهلاك، فإذا تراجع نمو الاستهلاك بصورة كبيرة في تركيا، على إثر تراجع الائتمان المقدم للمصارف التركية، ربما تتأثر الصادرات الأوروبية إلى السوق التركية سلبًا، إلا أن التجارة الخارجية لتركيا ستتحمل الجزء الأكبر من التأثيرات السلبية لأن حجم التجارة البينية بين أنقرة والعواصم الأوروبية متفاوتة، وحتى شركاء أنقرة التجاريين في أوروبا يتمتعون باقتصاديات أكثر قوة ومرونة.
تعكس بيانات المنظمات الدولية حجم الشراكة التجارية بين تركيا والاتحاد الأوروبي، فوفقًا لبيانات منظمة التجارة العالمية عام 2015، جاءت 38% من واردات تركيا السلعية من دول الاتحاد الأوروبي، فيما كانت الأسواق الأوروبية كبرى الأسوق بالنسبة لصادرات تركيا السلعية بنصيب 44.5%.
ووفقًا لليوروستات، استحوذت تركيا عام 2015 على المركز الرابع كأكبر سوق للصادرات الأوروبية بعد أن كانت روسيا تتمتع بهذا المركز، وفي نفس العام، استحوذت تركيا على المركز السادس كأكبر مُصدر لدول الاتحاد بعد أن كانت اليابان تحتل هذا المركز.
أكبر الأسواق المستوردة للسلع التركية في عام ٢٠١٥
(المصدر: منظمة التجارة العالمية)
كبر الدول/ الكيانات المصدرة للسوق التركية عام 2015
(المصدر: منظمة التجارة العالمية)
تظل تركيا شريكًا تجاريًا ذا سوق ضخمة سيكون فقدانها خسارة بالنسبة للاتحاد الأوروبي، ليس فقط اقتصاديًا ولكن استراتيجيًا، ففي ديسمبر 2016، اقترحت المفوضية الأوروبية في بروكسل تطوير اتفاقية الاتحاد الجمركي مع تركيا لتشمل معظم السلع الزراعية والخدمية، وربطت المفوضية آنذاك أي تطوير للاتحاد الجمركي بين الكيان وتركيا باحترام الأخيرة للديموقراطية وحقوق الإنسان.
ووفقًا لصحيفة الديلي صباح التركية، في تقرير نشرته في يناير/ كانون الثاني العام الحاليّ، نُظمت جلسة مستديرة بعنوان “ضبط أجندة أوروبية – تركية اقتصادية مشتركة: إصلاح الاتحاد الجمركي” في البرلمان الأوروبي بواسطة مجلس الجوار الأوروبي ورابطة رجال أعمال الموسياد (MÜSİAD) المقربة من حزب العدالة والتنمية.
في أعقاب منع طائرة وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو، من الهبوط في هولندا، صعد الجانب التركي ضد لاهاي لتقوم لاهاي بالتصعيد المضاد حتى تحولت التوترات بين البلدين إلى أزمة دبلوماسية
إذن، رغم التوترات المتصاعدة آنذاك، كان صناع القرار في أنقرة والكثير من العواصم الأوروبية يدركون أهمية إبقاء الشراكة الاقتصادية قوية بينهم، ولكن إلى متى ستتحمل المبادرات الاقتصادية هذه الأزمات المتلاحقة؟
ليس من السهل تقويض الشراكة الاقتصادية الممتدة بين تركيا والاتحاد الأوروبي ولكن يمكن إضعافها، فقد أسس الطرفان مجموعة مشروعات استراتيجية تجعل من إنهاء هذه الشراكة أمرًا صعبًا، لا سيما في قطاع الطاقة الذي يمس أمن الطاقة للاتحاد الأوروبي، فتسعى تركيا منذ سنوات طويلة للتحول لممر لأنابيب الغاز الطبيعي من القوقاز (أذربيجان) والشرق الأوسط (إيران) إلى دول جنوب شرق ووسط أوروبا التي ترغب في تخفيف اعتمادها التاريخي على روسيا.
على الرغم من ذلك، ليس قطاع الطاقة، كقطاع استراتيجي، كفيلاً وحده بضمان إبقاء الشراكة الاقتصادية بين أنقرة والعواصم الأوروبية قوية ما لم تتوفر الإرادة السياسية (مدعومة من قبل اللاعبين الاقتصاديين ذوي المصلحة).
تشكل ظاهرة الصعود القومي في كل من تركيا والاتحاد الأوروبي جزءًا مما تراه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تهديدًا للتجارة الحرة وتهديداً للنمو الاقتصادي العالمي. ما لم يستطع الطرفان ترميم علاقاتهم السياسية، سيكون للتعاون الاقتصادي على الأرجح نصيبًا من تدهور العلاقات بين الطرفين.