28 سبتمبر/ أيلول 2000، كانت القضية الفلسطينية على موعد مع حدث سيبقى ملازمًا للأجيال الفلسطينية الشابة التي عاصرته، حينما اقتحم زعيم حزب الليكود الإسرائيلي المعارض حينئذ، أرئيل شارون، المسجد الأقصى، متجاهلًا تحذيرات فلسطينية من أن اقتحامه قد يشعل المنطقة.
شرارة الانتفاضة جاءت نتيجة للاقتحام الذي نفّذه شارون تحت حماية نحو 2000 من الجنود والقوات الخاصة، وبموافقة من رئيس الوزراء في حينه إيهود باراك، فوقعت مواجهات بين المصلين وقوات الاحتلال، حيث استشهد 7 فلسطينيين وجُرح 250 آخرين، كما أُصيب 13 جنديًّا إسرائيليًّا.
لم تقف الأمور عند هذا الحد، إذ تطورت الأحداث لاحقًا لتمتدَّ إلى جميع المدن في الضفة الغربية وقطاع غزة، ليطلق عليها اسم “انتفاضة الأقصى” أو الانتفاضة الثانية، وكانت بعد 9 سنوات فقط من توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير والاحتلال.
كانت هذه الانتفاضة مغايرة تمامًا عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 التي عُرفت باسم “انتفاضة الحجارة”، حيث شهدت تطورًا في واقع المقاومة من ناحية طبيعة المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي والأسلحة التي اُستخدمت خلالها، خلافًا لما حصل في المرة الأولى.
وعُرفت هذه الانتفاضة بكثرة عمليات “الباص الطائر” التي كانت تنفّذها المقاومة الفلسطينية، وتحديدًا حركة حماس بدرجة أعلى ثم حركة الجهاد الإسلامي، حيث كانت تعتمد هذه العمليات على إرسال الاستشهاديين إلى داخل العمق الفلسطيني المحتل عبر الأحزمة الناسفة.
وبحسب إحصائيات شبه رسمية، فإن الانتفاضة الفلسطينية الثانية شهدت استشهاد 4 آلاف و412 فلسطينيًّا، إضافة إلى 48 ألفًا و322 جريحًا، بينما قُتل 1100 إسرائيلي، بينهم 300 جندي، وجُرح نحو 4 آلاف و500 آخرين، في سلسلة عمليات ومواجهات خلال فترة الانتفاضة التي استمرت حتى عام 2005.
ملامح وأحداث.. أبرز أحداث الانتفاضة
يرصد “نون بوست” ملامح لأبرز الأحداث التي شهدتها هذه الانتفاضة على مدار سنواتها الخمس، إلى جانب أبرز عمليات الاغتيال التي نُفّذت خلالها، والتي شهدت تصفية قيادات فلسطينية وازنة ومؤسِّسة في الفصائل والحركات الوطنية والإسلامية.
– معركة مخيم جنين: بين 3 و18 أبريل/ نيسان 2002، اقتحم جيش الاحتلال مخيم جنين بقوات كبيرة من المشاة والدبابات والجرافات بعد تطويقه، ودُمّر 455 منزلًا بالكامل و800 منزل جزئيًّا، وفي هذه العملية المعروفة في فلسطين بـ”معركة مخيم جنين”، حيث خاض المقاومون الفلسطينيون من كل الفصائل اشتباكات عنيفة مع الاحتلال، استشهد ما لا يقل عن 52 فلسطينيًّا نصفهم من المدنيين، وقُتل 23 جنديًّا إسرائيليًّا، وفق بيانات الأمم المتحدة.
– حصار كنيسة المهد: فرضت قوات الاحتلال حصارًا مشددًا على عشرات الفلسطينيين الذين لجأوا إلى كنيسة المهد بين 2 أبريل/ نيسان و10 مايو/ أيار 2002، وانتهى الحصار باتفاق غامض نصَّ على تسليم المحاصرين أنفسهم مع إبعاد 39 منهم إلى أوروبا وقطاع غزة، وما زالوا في المنفى.
– الجدار العازل: يطلق عليه الاحتلال الإسرائيلي مسمى “الجدار الأمني”، ويعدّه الفلسطينيون “جدار ضم أراضيهم وفصلًا عنصريًّا”، وأفتت محكمة العدل الدولية في لاهاي بعدم قانونيته، وطالبت المحكمة “إسرائيل” بوقف البناء فيه.
– “السور الواقي”.. اجتياح الضفة: وقعت أحداثه في 29 مارس/ آذار 2002، حينما قرر الاحتلال استخدام قوته العسكرية لإخماد الانتفاضة، بما في ذلك الطائرات والدبابات والمدافع، وصولًا إلى اجتياح المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو عام 1993، وأسفرت عن تدمير واسع في البنى التحتية الفلسطينية بما فيها الحكومية، وحصار رئيس السلطة ياسر عرفات في مقره برام الله وسط الضفة الغربية حتى وفاته في نوفمبر/تشرين الثاني 2004.
– سلاح الصواريخ: شهدت الانتفاضة تطورًا هامًّا ونوعيًّا، حينما بدأ المقاومون بتطوير الصواريخ البدائية في غزة من خلال صاروخ قسام-1، والذي اُستخدم بعد قرابة عام واحد فقط على اندلاع الانتفاضة، وكان يستخدَم لقصف المستوطنات داخل غزة أو القريبة من الغلاف.
– اغتيال القيادات: كان لرئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، أرئيل شارون، الحضور الأكبر خلال فترة الانتفاضة، إذ عمل على اغتيال أكبر عدد من قيادات الصف الأول بالأحزاب السياسية والحركات العسكرية الفلسطينية، في محاولة لإخماد الانتفاضة وإضعاف فصائل المقاومة وإرباكها.
ومن أبرز الشخصيات الذين تمَّ اغتيالهم، مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي وإبراهيم المقادمة وإسماعيل أبو شنب وصلاح شحادة وجمال سليم وجمال منصور، بالإضافة إلى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى، وياسر عرفات رئيس حركة فتح ورئيس السلطة ومنظمة التحرير.
خلال انتفاضة الأقصى، وسّع الاحتلال الإسرائيلي من عمليات الأسر، حيث اعتقل شخصيات وقيادات فلسطينية سياسية وعسكرية، من أبرزها مروان البرغوثي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وأسرى محسوبون على كتائب القسام مثل الأسير إبراهيم حامد وعباس السيد، عدا عن أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية الذي اُعتقل في بداية الأمر لدى السلطة، قبل أن تقتحم قوات الاحتلال سجن أريحا وتعتقله بتهمة اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2001.
بين مشهدَين.. أين يقف الفلسطينيون اليوم؟
مع صعود رئيس السلطة الحالي محمود عباس إلى سدة الحكم، في أعقاب الانتخابات التي جرت بعد وفاة سلفه ياسر عرفات عام 2004، وقّع الأول اتفاقًا في مدينة شرم الشيخ المصرية في 8 فبراير/ شباط 2005، بعد اتفاق هدنة بين السلطة والاحتلال.
بعد ذلك، صعدت حركة حماس في انتخابات عام 2006 التشريعية، فيما وُصف آنذاك بـ”الزلزال السياسي”، لتبدأ مرحلة جديدة في عمر القضية الفلسطينية، كان من أبرز ملامحها حالة التحول في المشهد الميداني، نتيجة للانسحاب الإسرائيلي من غزة الذي حصل عام 2005.
في أعقاب الانقسام السياسي، دخلت الحالة الفلسطينية في مرحلة من مراحل محاولة التدجين التي تستهدف “بناء الفلسطيني الجديد”، كما وصفه الجنرال الأمريكي كيث دايتون، الذي عمل على بناء عقيدة أمنية جديدة للأجهزة الأمنية بعد عام 2007، تقوم على سياسة التنسيق الأمني.
وظلت الضفة الغربية والقدس المحتلة منذ عام 2007 وحتى نهاية حرب غزة عام 2014 في حالة من الضبط الأمني، قبل أن تندلع “هبّة السكاكين” أو انتفاضة القدس عام 2015، والتي أعادت من جديد واقع الانتفاضة إلى الضفة الغربية المحتلة بطريقة غير متوقعة إسرائيليًّا.
شهدت هذه الهبّة عودة إلى الأدوات البدائية التي استخدمها الفلسطينيون في انتفاضتهم الأولى، وتحديدًا السكاكين أو الدهس، وهو ما جعل الاحتلال يفعّل من انتشار جنوده وكتائبه المختلفة في مناطق الضفة الغربية، ويعمد إلى استخدام القوة النارية بسبب أو من دون سبب.
https://www.youtube.com/watch?v=0335K0TgrEE&pp=ygUb2KfZhtiq2YHYp9i22Kkg2KfZhNij2YLYtdmJ
وفي عام 2021 تطورت الحالة القائمة في الضفة الغربية المحتلة، نتيجة لتشكُّل خلايا عسكرية محسوبة على الأذرع العسكرية للمقاومة، كانت بدايتها بكتيبة جنين المحسوبة على سرايا القدس الذراع العسكرية للجهاد الإسلامي، ليتطور الأمر لاحقًا ليشمل جميع الفصائل من حماس وحركة فتح.
وتشكّل الحالة القائمة حاليًّا ملامح قريبة لتلك القائمة قبيل انتفاضة الأقصى، لا سيما مع اتساع حالة الانسداد في الأفق السياسي، ولجوء الاحتلال إلى اقتحام مراكز المدن والقرى، وتصاعُد العمليات التي تنفّذها المقاومة الفلسطينية في مختلف مناطق الضفة.
ومنذ بداية العام الحالي، قُتل 35 إسرائيليًّا في عمليات فلسطينية بالضفة المحتلة والقدس والداخل المحتل عام 1948، بالإضافة إلى قتيل بصاروخ للمقاومة الفلسطينية، فيما شهد العام الماضي 2022 مقتل 31 إسرائيليًّا في عمليات فلسطينية.
في المقابل، فإنه ومنذ بداية العام 2023، ارتقى 243 شهيدًا برصاص الاحتلال وميليشيات المستوطنين، بينهم 45 طفلًا و6 سيدات بالضفة الغربية فقط، دون الإشارة إلى شهداء التصعيد الإسرائيلي على غزة خلال مايو/ أيار الذي خلّف 31 شهيدًا.
وبالتالي إن جميع المعطيات تعكس أن الحالة الفلسطينية منفتحة على تكرار مشهد الانتفاضة، وإن كان الأمر بسيناريوهات مختلفة نتيجة للتغيرات الجيوسياسية والتغييرات الميدانية التي طرأت في الحالة الفلسطينية على الصعيد السياسي والعسكري منذ عام 2000.