مصر.. عاصمة جديدة مضادة للقاهرة
ليس هناك سكان في العاصمة المصرية الجديدة، كما لا يوجد بها مصدر محلي للتزود بالمياه. فضلا عن ذلك، خسرت العاصمة الجديدة للتو المطور الرئيسي، الشركة العامة الصينية التي وافقت على بناء الجزء الأول من المشروع. ومن هذا المنطلق، قد تعتقد أنه ليس هناك سبب مقنع لبناء هذه المدينة المخطط لها في الصحراء، التي تتموقع غربي القاهرة على مسافة 45 كيلومتر. ولكن، مهندس التخطيط العمراني، ديفيد سيمز، قد صرح لوول ستريت جورنال، بأن “مصر في حاجة ملحة إلى عاصمة جديدة”.
في الواقع، يجسد هذا المشروع طموحات الرئيس الحالمة والكبيرة للغاية. فمن المفترض أن تضم هذه المدينة “عددا كبيرا” من المتساكنين، يقدرون بحوالي خمسة مليون شخص، فضلا عن متنزه “كبير”، “أكبر بأربع مرات من ديزني لاند”. علاوة على ذلك، سيكون هناك ما لا يقل عن 700 مستشفى وعيادة طبية، وحوالي 1200 مسجد وكنيسة، بالإضافة إلى ما يربو عن 40 ألف غرفة فندقية، وألفي مدرسة.
وفي الأثناء، طالب عبد الفتاح السيسي بسرعة تنفيذ هذا المشروع، فقد أعلن في آذار/ مارس سنة 2015، وهو يقف أمام مجسم للمدينة الجديدة رفقة أمير دبي، أن عمليات البناء ستنطلق في القريب العاجل. ومن المثير للاهتمام، أن السيسي قد التفت لوزير الإسكان وسأله عن مدة إنجاز المشروع التي بدت طويلة بالنسبة له، فقال، “عن ماذا تتحدث أنت؟ أنا جاد، نحن لا نعمل بهذا الشكل، لا سبيل لإنهاء المشروع في عشرة سنوات أو سبعة، لا مجال”.
لن تكون مصر أول دولة تنقل حكومتها والبرلمان، ومقر الرئاسة، والوزارات، والسفارات، إلى عاصمة جديدة أسست من الصفر، ولكنها ستكون الأولى التي تنفق حوالي 45 مليار دولار أمريكي على مثل هذا المشروع
في الحقيقة، لن تكون مصر أول دولة تنقل حكومتها والبرلمان، ومقر الرئاسة، والوزارات، والسفارات، إلى عاصمة جديدة أسست من الصفر، ولكنها ستكون الأولى التي تنفق حوالي 45 مليار دولار أمريكي على مثل هذا المشروع، في حين اكتسحت الشوارع الاحتجاجات الرافضة لقرار تخفيض حصص الخبز المدعم. في واقع الأمر، لا يمثل هذا المبلغ إلا تكلفة الجزء الأول، علما وأن المخطط الأكبر لهذا المشروع يبدو غريبا إلى درجة أنه يثير الإعجاب، ناطحات سحاب فخمة وبحيرات صناعية تدير ظهرها للقاهرة ودلتا النيل.
رسوميات حاسوبية للعاصمة الجديدة في تلاق مع الصحراء.
في الخريف الماضي، اكتسب المشروع زخما كبيرا عندما تقدمت شركتين صينيتين لأخذ مكان المطور الإماراتي الذي انسحب قبل سنة. وفي الوقت الراهن، انسحبت أيضا إحدى الشركتين الصينيتين، وبالتالي فإن المخاطر المالية ستقع على كاهل الحكومة المصرية والمتعاقدين المحليين. ويعتبر ذلك حملا ثقيلا على بلد يعيش على حافة انهيار اقتصادي، الذي لم يتهاوى بعد بفضل المساعدات الأجنبية من قبل دول الخليج والقروض المجحفة والصارمة من قبل صندوق النقد الدولي.
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا المشروع يشهد تقدما ملحوظا في ظل تواتر التصريحات المنمقة بشأنه فضلا عن بعض الغموض الذي يحيط به. وفي هذا السياق، أظهر تقرير تلفزيوني عمليات البناء ووضع الأنابيب وبناء الوحدات السكنية في صحراء تعصف بها الرياح. وقد صرحت وزارة الإسكان أن أكثر من 17 ألف وحدة على وشك الانتهاء منها وستعرض للبيع الشهر القادم.
مع تواصل عمليات البناء، تبقى هناك أسئلة رئيسية من دون إجابة. كم من الوقت اللازم لاستخراج الماء من باطن الصحراء؟ ومن سيتحمل التكلفة؟ من سيقنع عشرات الآلاف من الموظفين العموميين للانتقال للعاصمة الجديدة؟ لماذا تلح الحكومة على بناء مدينة جديدة في وقت قياسي بينما تواجه مصر تحديات كبيرة مثل التقشف الاقتصادي والإرهاب؟ والأهم من كل ذلك، لماذا تصر الحكومة على خذلان “مركز ثقافي نابض بالحياة” في قلب العالم العربي؟ قبل ستة سنوات اجتمعت الحشود في هذه المدينة مطالبة بالتغيير، لتكون بذلك أعظم حشد وأبلغ صوت شهدته المنطقة. ألهذا السبب يحلم جنرالات مصر في حكم القاهرة من بعيد؟
مخططات الحكومة المصرية لتطوير الهضبة الصحراوية بين القاهرة وقناة السويس.
هاجس الصحراء
من الملفت للاهتمام أن الجهات الرسمية قد ادعت أن الهدف الرئيسي من هذا المشروع، يتمثل في تخفيف الضغط على المركز التاريخي، وكأن المشكل الوحيد الذي تواجهه المدينة هو عدد السكان، وليس التوزيع الجائر للموارد المتاحة أو الإهمال الذي تعيشه الفضاءات العمومية. على العموم، تعد القاهرة من المدن العملاقة والنشطة ولكنها تعرف خللا وظيفيا نظرا لأن أكثر من 20 مليون شخص يعاني من تبعات مشاكل حركة المرور، والتلوث المأساوي والشح الحاد في المياه.
لعدة عقود حاول المخططون فك المركزية عن المنطقة، وبناء مدن صغيرة تختص في التعليم العالي، والصناعة، والحياة المرفهة، عوضا عن الاهتمام بمشاكل المناطق الحضرية الأساسية. في المقابل، إن الحقيقة التي لم تعلنها الجهات الرسمية، تتمثل في أن الحكومة وجدت من السهل تمويل هذا الاستثمار الذي سينشأ من العدم ودعم المضاربة في العقارات الموجودة في الصحراء، بدلا من الاستثمار في البنية التحتية التي ستخدم غالبية المدن. والسبب الرئيسي وراء ذلك، أنه لا يوجد مخطط لإنشاء خطوط مترو أو توصيل الخدمات إلى ضواحي المدن، أو ما يسمى بالعشوائيات، حيث يعيش أكثر من نصف الشعب في وحدات سكنية من الطوب تفصلها أزقة مليئة بالقذارة. بل على النقيض من ذلك، فقد جسدت العروض التقديمية للمشروع ضواحي عصرية بها مساحات خضراء وواسعة، كأن كل مشكلات الحكومة في القاهرة –وغالبية سكانها- قد حلت.
مزيج من السيارات والمارة في وسط القاهرة.
تأكد أن العاصمة الجديدة ليست أكثر من دعاية للرئيس ونظامه. منذ سنة 2014، تولى السيسي مقاليد الحكم في مصر بعد أن قاد انقلابا على الرئيس محمد مرسي، قيادي ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، الذي انتخب بشق الأنفس بعد انتفاضة دراماتيكية أنهت مدة حكم محمد حسني السيد مبارك التي دامت 30 سنة. منذ ذلك الحين، قاد السيسي أسوأ موجة قمع في تاريخ مصر الحديثة، حيث قام بقتل المتظاهرين، واضطهد الصحفيين، وسجن الآلاف من أعدائه السياسيين، أو اختطافهم، أو تعذيبهم. وعلى الرغم من ذلك، قدم الرئيس نفسه على أنه المنقذ، الذي أخرج البلاد من الفوضى السياسية، وحماها من الإسلاميين، والتطفل الخارجي.
لا يعتبر مشروع العاصمة الحديثة مجرد تجسيد للقومية. فلطالما تبنى القادة المصريين، لفترات طويلة، رؤى خيالية بخصوص الصحراء، مقنعين أنفسهم بأنها “علاج لكل مشكلة، حقيقية كانت أو من وحي الخيال”
وفي الأثناء، يتأتى عن أفضل مشاريعه الكبرى، على غرار توسعة قناة السويس، عائدات اقتصادية مشكوك فيها ولكنها أحاطته بأبهة عظيمة. خلافا لذلك، لا يعتبر مشروع العاصمة الحديثة مجرد تجسيد للقومية. فلطالما تبنى القادة المصريين، لفترات طويلة، رؤى خيالية بخصوص الصحراء، مقنعين أنفسهم بأنها “علاج لكل مشكلة، حقيقية كانت أو من وحي الخيال”. من جهته، استنكر سيمز هوس السلطة المصرية “باستصلاح” الأراضي القاحلة خارج وادي النيل.
منذ سنة 1976، أنشأت السلطات حوالي 21 مدينة جديدة في الصحراء، كان من المتوقع أن تستهدف في مجموعها حوالي 20 مليون مقيما. (من المقرر أن تستقطب العاصمة الجديدة 5 ملايين ساكن). ومنذ ذلك الوقت وحتى مطلع سنة 2006، لم تستقطب هذه التجمعات الحضرية الجديدة أكثر من مليون مواطن، علما وأن معظم تلك التجمعات تقع بالقرب من مركز القاهرة. وعلى ضوء هذه المعطيات، اتضح أن عددا محدودا من المصريين على استعداد للتخلي عن الشبكات الاجتماعية وفرص العمل والانتقال نحو التجمعات الجديدة.
عاصفة رملية في مصر، في تجمع صحراوي صغير يقع غرب القاهرة، بتاريخ 6 تشرين الأول/ أكتوبر.
وبالكاد زعزع هذا الفشل حماس الحكومة لبناء مدن جديدة في الصحراء، التي تشكل 96 بالمائة من مساحة الأراضي في مصر، والتي تخضع معظمها لسيطرة الدولة والجيش. تعتقد النخب المصرية أن الصحراء هي أفضل مكان لبناء مدن حديثة يمكنهم جني أموال طائلة منها، على حد تعبير سيمز. وبالإضافة إلى المدن التي خططت الحكومة لإنشائها، تباع مساحات واسعة من الأراضي الصحراوية، في بعض الحالات، لمستثمري القطاع الخاص لبناء أحياء سكنية ضخمة، تحت أسماء مثل يوتوبيا، ودريم لاند، وبيل فيل، وهايد بارك، والرحاب، وبالم هيلز.
وفي هذا الإطار، كانت تُعرض لوحات إشهارية على طول الطرق السريعة في وسط القاهرة، لعائلات (أحيانا أجنبية) ترقص فرحا على المنحدرات العشبية. قبل سنوات، وضعت لافتة فوق مبنى متهدم في وسط المدينة كتب عليها ببساطة ” لماذا أنت هنا”. بطبيعة الحال، لا تملك إلا الأقليات الثرية الخيار لتكون في مكان آخر. ومن هذا المنطلق، سيمثل مشروع العاصمة الجديدة جزءا من الرمز الوطني، وجزءا من مشروع استصلاح الأراضي، وجزءا من مشروع أرض الخيال.
بعد أكثر من سنة، تغير اسم هذا المشروع الذي كان يعرف باسم “العاصمة الإدارية الجديدة”، حيث أصبح يعرف بمشروع “الوديان”
بعد أكثر من سنة، تغير اسم هذا المشروع الذي كان يعرف باسم “العاصمة الإدارية الجديدة”، حيث أصبح يعرف بمشروع “الوديان”، الذي منحته إياه مجموعة من الشركات المعمارية والهندسية البارزة التي ستكون من ضمن المصممين المستقبليين. في الواقع، “الوديان”، هو جمع كلمة وادي صغير في الصحراء تتجمع فيه المياه خلال موسم الأمطار. ولكن المياه في هذه العاصمة سوف تجري بصفة دائمة، حيث سيتم حفر نهر اصطناعي، تحده الحدائق الواسعة، ويمر عبر المدينة المخطط بناؤها.
ترتكز ثلاثة عشر مقاطعة معروفة باسم الوديان، كل واحدة على حدى على مساحة خضراء وفقا لمجال اختصاصها، على غرار “وادي المعارف” المخصص للجامعة، “ووادي العدالة” للمحاكم، “ووادي الثقافة والفنون” وغيرها الكثير. ويقتضي المخطط توفير مساحات مفتوحة شاسعة، ومساحات خضراء، فضلا عن الاعتماد شبه الكامل على السيارات الخاصة. بعبارة أخرى، ستكون هذه المناطق مخالفة تماما للبنية الحضرية التقليدية في مصر، التي تتسم بكثافة سكانية شديدة. فضلا عن ذلك، من المفترض أن تتكيف هذه المناطق مع مناخ الصيف الحار جدا والعواصف الرملية. وقد بنيت بهدف خلق شبكة من وسائل النقل المتصلة، والحث على التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى توفير فرص عمل.
ميدان التحرير يوم 25 كانون الثاني/ يناير سنة 2012، الذكرى السنوية للثورة.
ظل التحرير
الأمر المثير للقلق هو أن هذه العاصمة الجديدة، سوف تفصل الحكومة عن المدينة وعن شعبها، من أجل منع حدوث انتفاضة شعبية على نطاق واسع، على غرار انتفاضة 25 يناير/ كانون الثاني سنة 2011، التي بلغت ذروتها خلال ثمانية عشر يوما، وسط ميدان التحرير. وفي 28 من كانون الثاني/ يناير، تجمعت حشود هائلة في ميدان التحرير جاؤوا من أماكن مختلفة من جميع أنحاء المدينة، وإثر معركة مع الشرطة، اقتحمت هذه الحشود الساحة. في ذلك الوقت، رافقت إحدى المسيرات، التي انطلقت بعد صلاة الظهر من حي الدقي، إلا أن وصلنا إلى ميدان التحرير الذي كان متوهجا بالدخان والغاز المسيل للدموع. كانت المواجهات محتدمة بين الشرطة والعديد من الشباب الذين ركضوا هربا من عصي قوات الأمن، ثم انفجرت سيارة مفخخة. وقد بقي مقر الحزب الوطني الديمقراطي يشتعل إلى غاية اليوم التالي. وأذكر أن رجلا عجوزا أشار بيده إلى طائر يحلق في السماء وقال “الحكومة طارت”.
وحتى تتمكن من الوقوف في ميدان التحرير، في صباح ذلك اليوم، لا بد أن تكوّن لديك رؤية مزدوجة، لتشهد على واقع جديد غاية في الحدة لدرجة الغرابة. وعلى الرغم من كل محاولات الشرطة لتفريقهم، إلا أن المواطنين عادوا للتجمع وسط المدينة، وهم في حالة ذهول وفخر وعلى استعداد تام للقتال. بدت القاهرة مغايرة عن ما عهدناها، وكأنها حادت عن محورها وتبنت نظرة جديدة، تجسد عدم الاستقرار والتحول المرتقب.
طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة، يوم 29 كانون الثاني/يناير سنة 2011، بعد يوم من معركة ميدان التحرير
طوال 18 يوما من الاعتصام، كان بإمكاني رؤية الحشود، من شرفتي، يسيرون من شارع القصر العيني باتجاه ميدان التحرير. ذهبت إلى هناك عدة مرات، وكنت أمُر عبر الشوارع الهادئة بشكل غريب، ونقاط التفتيش التي تمركزت في مداخل الأحياء والتي كان يحرسها فتيان في سن المراهقة والجنود الذين أصابتهم حالة من الذهول والجمود، والدبابات. وفي مدخل ميدان التحرير مررت بمتطوعين مهذبين جدا كانوا مسؤولين عن تفتيش الأشخاص، فضلا عن لجان الترحيب، الذين كانوا يغنون “ها قد أتى المصريون! ها قد أتوا، ها قد أتوا! “
وفي الأثناء، تحول الاحتجاج على وحشية الشرطة إلى قضية أكبر بكثير. كان الناس يستدعون أصدقائهم، هاتفين “عليكم أن تأتوا إلى هنا، عليكم أن تروا ما يحدث هنا”. لقد كتب الكثيرون عن “جمهورية التحرير الحرة” وعن عيادات الطوارئ، والمشاريع الفنية الجماعية، والمتطوعين، فضلا عن هتافات الحرية والتضامن المبتهجة، والاختلاط بين الرجال والنساء، والمسيحيين والمسلمين، والصغار والكبار. وقد اعتبر الكثير من المراقبين أن ما شهده ميدان التحرير كان حراكا نموذجيا.
في المقابل، شهد الميدان العديد من لحظات العنف، والشك، والارتباك والاختلاف. ولكن مهما كان حجم تلك الخلافات كان لا بد من حلها على الفور بأساليب حضارية وعن طريق النقاش والحوار. في الحقيقة، تلك الاعتصامات لم تكن نموذجية بكل المقاييس فقد شابتها العديد من العيوب. وعلى الرغم من ذلك، وبعد سنوات من الاستسلام، يمكن القول أن تلك الفترة كانت مبهجة للغاية.
ومن هذا المنطلق، كتب محمد الشاهد في خضم الثورة، أن المصريين اكتشفوا “أن نضالهم من أجل الديمقراطية [كان] يرتبط بالأساس بقدرتهم على التجمع في حيز حضري”. وفي حين أدرك المصريون أهمية هذه المسألة، توصلت السلطات آنذاك إلى الاستنتاج ذاته. فقد استمرت الاحتجاجات بعد الإطاحة بمبارك، مما دفع الجيش إلى محاصرة ميدان التحرير عن طريق تركيز العديد من نقاط التفتيش والحواجز الهائلة. كما تم إغلاق محطة مترو أنفاق لعدة سنوات.
بعد وصول السيسي إلى السلطة، شهدت مصر حملة شرسة لمجابهة حرية التعبير في جميع أنحاء العاصمة، حيث منعت السلطات المواطنين من تنظيم المظاهرات، وإقامة الحفلات الموسيقية في الهواء الطلق. علاوة على ذلك، محت السلطات كل الكتابات الثورية التي اعتلت الجدران، فضلا عن مداهمة المقاهي، ومضايقة المواطنين في الأماكن الثقافية مثل المعارض الفنية ودور النشر، وأي مكان يمكن أن يتجمع فيه الأفراد لاسيما الشباب.
الحاجز الذي وضعه الجيش لإغلاق شارع محمد محمود، الذي يقع بالقرب من ميدان التحرير، في كانون الأول/ ديسمبر سنة 2011.
المساحات المفتوحة في منطقة الحكومة الجديدة.
كنت أعيش في وسط مدينة القاهرة في الفترة الممتدة بين سنة 2002 و2014، حيث كانت توجد العديد من المباني الحكومية. وفي الوقت الراهن، حين أحدق في الرسوميات الحاسوبية للعاصمة الجديدة لمصر، أجد صعوبة في أن أتخيل مشهد حشد من المتظاهرين وهم يتوجهون إلى الصحراء، للاعتصام في “ساحة الشعب” الجديدة أين يوجد القصر الرئاسي الجديد.
قامت خطة مشروع “الوديان” على تصميم مساحة مفتوحة تليق بالبهرجة السياسية، بدلا من أن يكون مجالا عاما يمكن أن يتظاهر فيه الشعب. علاوة على ذلك، سوف تكون العاصمة بعيدة جدا عن المركز الحضري، فضلا عن أن المناطق داخلها واسعة جدا، لذلك من الصعب أن يتجمع داخلها المواطنين بأعداد كبيرة للتعبير عن مطالبهم السياسية.
أن طريقة تصميم المشروع والإعلان عنه تُعزّز مبدأ استبداد النظام، نظرا إلى أنه لم يتم طرح المسألة على الرأي العام أو الخضوع للمساءلة أو دراسة تكاليفه العمومية وتأثيراته البيئية بكل شفافية
في الواقع، يُعتبر ذلك بيت القصيد، إذ أن الهدف من تشييد العاصمة الجديدة يتمثل أساسا في تجسيد رغبة الرئيس، بالإضافة إلى تأكيد على الدور البارز للمؤسسة العسكرية التي كان لها الفضل في تنصيبه على رأس السلطة ليقود البلاد. وفي الأثناء، يتم إدارة هذا المشروع من قبل شركة مشتركة تكفّل كل من الجيش ووزارة الإسكان بتشكيلها، فضلا عن أن الأرض لن تُباع بل سيتم تأجيرها. وذلك يجسد مثال آخر على تحركات الجيش العدوانية تجاه القطاع الخاص من خلال منطق “الحصول على الإيجار بالقوة”.
والجدير بالذكر أن طريقة تصميم المشروع والإعلان عنه تُعزّز مبدأ استبداد النظام، نظرا إلى أنه لم يتم طرح المسألة على الرأي العام أو الخضوع للمساءلة أو دراسة تكاليفه العمومية وتأثيراته البيئية بكل شفافية. نتيجة لذلك، خلق النظام المصري مشهدا صحراويا يزدري ليس فقط جغرافية وتاريخ ومناخ البلاد، بل أيضا الحياة الواقعية لأغلب المصريين.
أبراج مدينة النيل تطلّ على الأحياء العشوائية في منطقة رملة بولاق بالقاهرة.
المدينة الباحثة عن مركز لها
في الحقيقة، يعود تاريخ القاهرة إلى آلاف السنين، في حين أُنشأت المدينة العصرية في عهد الخديوي إسماعيل باشا خلال القرن التاسع عشر. ومن منظور تاريخي، شهدت العاصمة المصرية أوج ازدهارها بفضل تجارة القطن وإثر زيارة الخديوي لمعرض باريس سنة 1867، مما دفعه لإعلان مخطط قاض بتحسين المدينة بشكل “جذري”، قُبيل افتتاح قناة السويس.
وفي الأثناء، قام إسماعيل باشا بدعوة المهندس المعماري لباريس العصرية، البارون هوسمان، لتصميم شبكة واسعة من الطرق والساحات غرب البلدة القديمة في القاهرة. علاوة على ذلك، كلّف الخديوي هوسمان بإنشاء حدائق الأزبكية وتأسيس حي الإسماعيلية، الذي يعد وسط المدينة اليوم. فضلا عن ذلك، تم منح مساحات مخصص للبناء في هذه الأحياء الجديدة إلى “كل شخص قادر على تشييد مبنى ذو واجهة بطابع أوروبي”.
وعلى الرغم من أن هذه المشاريع قد ساهمت في تغيير المشهد الحضاري بشكل جذري، إلا أنها تسببت في إفلاس إسماعيل باشا والبلاد. ونتيجة لذلك، قام مستشارو الخديوي الماليون باستدعاء قوات عسكرية لحماية مصالحهم، ما أدّى إلى فتح الباب على مصراعيه لسبعين عاما من الاحتلال البريطاني لمصر. وفي ذلك الوقت، مثّلت المربعات السكنية الجديدة التي أنشأتها القوات الاستعمارية، الحقبة الجميلة لوسط المدينة. في المقابل، اعتبرت الأحياء الأكثر قدما، التي تُعرف اليوم بالقاهرة الإسلامية، من مخلفات الماضي بسبب قذارتها و فوضويتها، وتم التخلي عنها من قبل نخب البلاد.
إذا ما تمعنا إلى تاريخ القاهرة ما قبل الحرب، سنلاحظ أن العاصمة كانت بمثابة المدينة المزدوجة بشقّيها المتجاورين و المتضادين في الآن نفسه؛ حيث الجانب العصري والغني والأجنبي والمُنظّم في مواجهة الجانب المتخلف والفقير والمحلّي والعشوائي
وإذا ما تمعنا إلى تاريخ القاهرة ما قبل الحرب، سنلاحظ أن العاصمة كانت بمثابة المدينة المزدوجة بشقّيها المتجاورين و المتضادين في الآن نفسه؛ حيث الجانب العصري والغني والأجنبي والمُنظّم في مواجهة الجانب المتخلف والفقير والمحلّي والعشوائي. وفي هذا السياق، يمكن فهم هذا الانقسام بين شطري القاهرة بشكل أوضح من خلال الأعمال الأدبية لكل من نجيب محفوظ ويوسف إدريس، أين تجد شخصيات روايات الكاتبين الحرية والثراء في الأحياء الجديدة، غير أن هذا لا يغنيها عن الشعور بعدم المساواة والانسلاخ.
في الواقع، ألقى الانقسام الحضاري بظلاله على المستويين الثقافي والجغرافي، وهو ما وصفته عالمة الأنثروبولوجيا، جانيت أبو لغد، “بالانشقاق داخل النسيج الاجتماعي”، الذي ترتب عن عملية التحديث المفروض والاستعمار.
ميدان طلعت حرب في سنة 2009 والخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير سنة 2012
وعلى الرغم من هذا التاريخ المثير للجدل، إلا أن وسط القاهرة أصبح قلب المدينة الثقافي، بينما أضحى ميدان التحرير أعظم أماكنها العامة. ففي شتاء سنة 2011، حين احتل المتظاهرون ساحة الميدان، لم تكن الاحتجاجات لمجرد الانتفاضة ضد الحكومة بل كانت للمطالبة بحقهم في أن يعترف بوجودهم والسماح لهم بتقرير مصير بلادهم. من ناحية أخرى، وخلال السنوات التي سبقت الإطاحة بمبارك، شهد وسط المدينة فراغا كبيرا، وذلك نتيجة توسع الأحياء العشوائية والعقارات المُغلقة في الضواحي.
القاهرة عانت كغيرها من العواصم الكبيرة الأخرى في العالم النامي، من “انفصال الطبقة الوسطى”، حيث لجؤوا إلى المدن الجديدة هربا من التلوث الحضري والفوضى
وتجدر الإشارة إلى أن القاهرة عانت كغيرها من العواصم الكبيرة الأخرى في العالم النامي، من “انفصال الطبقة الوسطى”، حيث لجؤوا إلى المدن الجديدة هربا من التلوث الحضري والفوضى. في الوقت نفسه، اتخذ الملايين من الأحياء العشوائية، التي أقاموها بأنفسهم، مكانا للعيش فيه بهدف تلبية احتياجاتهم الأساسية، في تحد واضح للقانون الوطني حينا وفي تواطؤ مع المسؤولين المحليين حينا آخر.
فضلا عن ذلك، كافح هؤلاء للحصول على المياه، والكهرباء، والطرق المعبدة، والخدمات العامة. في المقابل، غُيّبت أحيائهم عن الخرائط واعتبرت بمثابة بؤر للجريمة والتطرف. وفي وقت لاحق، وحين اعترفت سلطات التخطيط على مضض بوجودها، كانت تهدف من خلال ذلك إلى إزالتها. وعلى ضوء هذه التجاذبات، شهدت العاصمة انقساما عميقا، أكثر من أي وقت مضى، بين أقلية ثرية تحلم بالهرب وبين أغلبية تعاني الأمريّن تدرك أنها لا تنتمي للمدينة.
تسببت الطرقات السريعة والجسور الجديدة، التي تم تخصيصها لخدمة حافلات نقل السياح وسكان الضواحي، في تدمير وتشويه الأحياء المركزية
من جانب آخر، تم خصخصة الفضاءات المفتوحة ووضعها تحت الحراسة في ظل نظام مبارك، كما أُغلقت حدائق المدينة وسُيّجت الميادين وبيعت الأراضي العامة خلسة للمتعهدين. علاوة على ذلك، تسببت الطرقات السريعة والجسور الجديدة، التي تم تخصيصها لخدمة حافلات نقل السياح وسكان الضواحي، في تدمير وتشويه الأحياء المركزية، علما وأنه قد تم إنشاء الطريق السريعة في بعض المناطق بشكل قريب جدا من المباني، مما يسمح للسائقين برؤية كل ما يدور داخل غرفة المعيشة في منازل المواطنين.
وفي الوقت نفسه، كان يتم رصد كل التحركات والتظاهرات الشعبية وتصنيفها ضمن الممارسات غير القانونية. في واقع الأمر، أخبرني الروائي، حمدي أبو جليل، الذي كتب عن الظروف المعيشية في منشية ناصر، أن الحديث عن الأحياء “المُهمشة” في القاهرة لم يكن ذا معنى. في الحقيقة، لم يملك أي أحد، بغض النظر عن مكان إقامته، “القدرة على اتخاذ أي قرارات سياسية”، وفق ما صرح به أبو جليل. كما أضاف الروائي أن “مبارك كانت بمثابة المحرك الرئيسي للبلاد، أما بقيّتنا فقد تم تهميشنا بالكامل”.
خلافا لذلك، استطاع سكان القاهرة التغلب على يد الدولة الثقيلة، حيث تمكّنوا من التكيّف في المربعات السكنية المزدحمة بالرغم من ضيق الحال اللامتناهي. في الواقع، لطالما أضفت الفضاءات المتجانسة، التي يتم خلقها من العدم، سحرا خاصا على هذه الأحياء، إذ أن صفا من الكراسي البلاستيكية كان كاف لتشكيل مقهى على الجسر مع إطلالة استثنائية. كما اعتادت العائلات على الخروج في ساعة متأخرة من الليل بغرض التنزه في وسط الميادين المزدحمة.
القاهرة الإسلامية
شارع في القاهرة
في أعقاب ثورة 25 كانون الثاني/يناير، كان الناس يتوقون إلى تجاوز الانقسامات الاجتماعية والجغرافية بهدف إصلاح مدينتهم. في الأثناء، كانت القاهرة تعيش في حالة من الاضطراب المتواصل تناغمت مع حالة من “التفاؤل” في الوقت ذاته (بالعودة إلى الرسائل الإلكترونية التي وصلتني خلال تلك الفترة، وجدت توقيعا فريدا من نوعه “عطلة نهاية سعيدة، إن كنت ستقضيها في المسيرات والغازات المسيلة للدموع أو في أي حدث آخر”).
في السياق ذاته، كان الباعة المتجولون ينتصبون أين ما يشاؤون، في ما كان الصبية يقودون دراجاتهم على الرصيف. في ذلك الوقت، تعلّق كل شيء بالسياسة؛ حيث أقام الفنانون معارضهم وسط الأحياء الفقيرة وقادوا جولات في العشوائيات سيرا على الأقدام. علاوة على ذلك، قام النشطاء بتنظيم فعاليات ثقافية على غرار مبادرة لعرض لقطات إخبارية كان النظام يفرض عليها رقابة مشددة، وذلك في الهواء الطلق، فيما تجنّد متساكني الأحياء لمطالبة السلطات بجمع القمامة في المناطق الأكثر فقرا.
بالتالي، تولّى الأهالي مسؤولية حكمهم الذاتي والبنية التحتية الخاصة بهم، حيث قاموا ببناء سلالم تابعة للطرق السريعة، ومراكز الشرطة، فضلا عن تهيئة معابر خاصة بالسكك الحديدية في الأحياء العشوائية. وفي الأثناء، أمِلت مجموعة من المهندسين المعماريين والمخططين في تطبيق سياسة عادلة على مستوى التطور الحضري.
على أرض الواقع، تمثّلت أولى انتصارات المجموعة في التخلي عن خطة القاهرة لسنة 2050، وهي الرؤية التي تم تشكيلها في عهد مبارك بهدف إعادة تطوير واجهة النيل البحرية، والتي كان سينجر عنها إخلاء حوالي 12 مليون شخص وإعادة توطينهم. وتجدر الإشارة إلى أنه ولسنوات عديدة، تم تقبّل الكثافة السكانية في المدن المصرية كحقيقة لا مفر منها، وحتى كثروة نسبيّة.
وفي سنة 2012، انضممتُ إلى فريق في أحد الفضاءات العامة، تم انشائه من قبل مجموعة رائدة في مجال حقوق الإنسان، ألا وهي منظمة “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”. في الحقيقة، شارك في فعاليات هذا الاجتماع مختصون في التخطيط العمراني، بالإضافة إلى فنانين، وباحثين، وصحفيين بادروا بتقديم أعمالهم وتبادل الأفكار. وخلال إحدى الجلسات، أظهر المهندس المعماري، فادي صادق، صورة لأناس يؤدون الصلاة في ميدان التحرير، حيث ملأوا البُسط بإحكام كما البذور في ثمرة الرمان. وإلى جانب الصورة الأولى، وضع أخرى للمساكن العشوائية.
وخلال حديثه عن المشهدين، قال الصادق إن الاثنين عبارة عن أمثلة “فضاء عضوي متراص”. ووفق ملاحظات المهندس المعماري، فقد قُدّرت الكثافة السكانية في القاهرة بحوالي 40 ألف شخص على الأقل في الكيلومتر المربع الواحد (أي ما يعادل أربع مرات الكثافة السكانية في مدينة نيويورك)، وذلك منذ الغزو النابليوني. في الحقيقة، تعدّ هذه الكثافة بمثابة السمة المميزة للمشهد الحضري.
الكثافة في القاهرة: أحياء عشوائية ومواطنون أثناء الصلاة.
في الحقيقة، لا بد من توظيف آليات سياسية داخل المدينة، من شأنها أن تضمن توزيعا عادلا ومنصفا للموارد، وذلك سيسمح للحكومة بالاستفادة من الكثافة السكانية. وفي الأثناء، يعتبر الاستثمار المحدود في مجال وسائل النقل العامة من أبرز المشاكل التي تواجه مصر، على الرغم من أن الحكومة قد بادرت بإنشاء طرق سريعة على نطاق واسع من الصحراء.
يمتلك حوالي 13 بالمئة فقط من المصريين سيارة خاصة، ومع ذلك فإن الخطة الحضرية في المدينة تشجع على اعتماد السيارات على حساب بقية وسائل النقل الأخرى، مما سيؤدي بالضرورة إلى تواتر ظاهرة الاختناق المروري فضلا عن التلوث
في المقابل، يمتلك حوالي 13 بالمئة فقط من المصريين سيارة خاصة، ومع ذلك فإن الخطة الحضرية في المدينة تشجع على اعتماد السيارات على حساب بقية وسائل النقل الأخرى، مما سيؤدي بالضرورة إلى تواتر ظاهرة الاختناق المروري فضلا عن التلوث. في سنة 2013، اقترح صادق أن يتم تقسيم القاهرة إلى 20 مقاطعة، على أن يتم توزيع سكان القاهرة بمعدل 100 ألف ساكن في المقاطعة الواحدة. وقد تزامن هذا المقترح مع الحوار الوطني الذي شهدته مصر بغية إيجاد حلول لتطوير البلاد.
وانطلاقا من هذا المقترح، سيتم إدارة كل مقاطعة من قبل لجنة تضم ممثلين محلين وأجهزة تخطيط حكومية، التي ستقوم بدورها باختيار شارع واحد في المقاطعة كان يعتمد بالأساس على وسائل النقل العام، وقريبا من مساحة خضراء فضلا عن أن تتموقع على أطرافه العديد من المشاريع. ومن المفترض أن يكون هذا الشارع الرئيسي مخصصا للمترجلين فقط، وأن يتم تهيئته بمختلف المرافق على غرار مقاعد للجلوس وأماكن مظللة ونافورات. في الوقت ذاته، على الحكومة أن تقوم ببناء مراكز اجتماعية، التي ستكون بدورها عقدة مركزية سيتم انطلاقا منها تطوير وتوسيع مشاريع وسائل النقل العامة في المستقبل.
في الحقيقة، لم يتسن لاقتراح الصادق تماما مثل كل المخططات الإصلاحية الخلاقة في تلك الحقبة، أن يرى النور. فقد كانت البيروقراطية عاجزة تماما، في ظل التجاذبات السياسية التي كانت تشهدها البلاد. ونتيجة لذلك، بادر المواطنون، الذين شاركوا في المظاهرات التي جابت شوارع القاهرة في 25 من كانون الثاني / يناير، بالمطالبة بالعودة إلى ميدان التحرير. وقد استجاب الشعب لهذا النداء وتظاهروا من جديد في ميدان التحرير، ولكن ما كانوا يريدونه حقا هو العودة بالزمن إلى تلك اللحظة الاستثنائية التي كانوا يتمتعون بها بالقوة والنفوذ، والتي جعلتهم يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه.
في واقع الأمر، تلاشت أحلام متساكني القاهرة بجعل مدينتهم أفضل، عندما اعتلى كل من الإخوان المسلمين والنظام العسكري بقيادة السيسي السلطة. كما أصبح ميدان التحرير منطقة خطرة للغاية، حيث قامت كل من قوات الجيش والشرطة بقتل العديد من المحتجين والاعتداء على النساء. من جهة أخرى، كان الناشطون في المجتمع المدني مشغولين للغاية بالدفاع عن الحقوق الأساسية، والحفاظ على حياتهم، مما لم يترك لهم مجالا للتركيز على أي مسائل أخرى.
وفي الأثناء، تم القضاء على المعارضة، التي كانت متحمسة لخدمة البلاد في مرحلة ما بعد حسني مبارك. وفي الوقت الراهن، استقال معظم أعضاء منظمة المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في حين غادر الكثيرون البلاد، علما وأن مؤسس هذه المنظمة، حسام بهجت، بصدد محاكمته، بالإضافة إلى مجموعة من خيرة الناشطين الحقوقيين في البلاد، بتهمة تلقي تمويل أجنبي بشكل غير قانوني.
الخطة الرئيسية للمرحلة الأولى من مشروع العاصمة الجديدة، بما في ذلك القصر الرئاسي، والساحات في أعلى اليمين، والبرلمان، ومبنى مجلس الوزراء “وساحة الشعب” في وسط اليمين.
السياسة محظورة في المدينة
في الواقع، يطغى مناخ من القمع على المشهد السياسي المصري، إذ أن المواطنين لا يجرؤون على انتقاد مشروع العاصمة الجديدة الذي اقترحه الرئيس، بشكل علني. في المقابل، أقدم بعض الكاتبين على إبداء رأيهم بشكل متحفظ، حيث أقروا بأنه ليس الوقت المناسب لبعث مثل هذا المشروع الطموح والمكلف.
وفي الوقت ذاته، أصابت خيبة أمل كبيرة العديد من المهندسين المعماريين والمخططين. والجدير بالذكر أن أحد أساتذة الهندسة المعمارية، الذي يحمل الجنسية الأمريكية، قد أقدم السنة الماضية على السخرية من هذا المشروع حيث وصفه في منشور على الفيسبوك بأنه “جزيرة السيسي”. ونتيجة لذلك، تم استجوابه في مطار القاهرة الدولي، حين عاد إلى مصر.
ولسائل أن يسأل، ماذا تمثل “ساحة الشعب”، بالنسبة لبلد قام بتجريم كل أشكال الاحتجاج والتظاهر في سنة 2013؟ ماذا تجسد هذه الساحة بالنسبة للسلطة التي حولت ساحة الشعب الحقيقية، “ميدان التحرير” إلى أرض معركة، أين اختنق المواطنون بالغاز المسيل للدموع، وتناثرت في أرجائه دماء المحتجين، وتم محاصرته وتطويقه بالجنود وكأنه ساحة جريمة؟
في واقع الأمر، لن تحتاج السلطة في العاصمة الجديدة إلى اتخاذ احتياطات قصوى على غرار تلك التي اضطرت لتنفيذها وسط القاهرة. اليوم، وفي نهاية شارع قصر العيني تتمركز بوابة حديدية ضخمة رسم عليها العلم المصري، التي يمكن للحكومة أن تغلقها متى ما أرادت وذلك لمنع المحتجين من الوصول إلى ميدان التحرير. فضلا عن ذلك، تم إغلاق الشارع المؤدي للبرلمان المصري لعدة سنوات، في حين تحيط الجدران العازلة معظم الوزارات والسفارات، وذلك تحسبا لأي هجوم إرهابي ولحمايتها من المحتجين.
في الواقع، يبدو أن النظام ينظر إلى الفضاءات العامة بنفس الطريقة التي يرى بها الحكم؛ فإما فوضى شاملة أو سيطرة كاملة. وبالتالي، لا توجد أرضية مشتركة تسمح بالتفاوض على المصالح العامة أو مناقشة توزيع الثروات بشكل عادل. ليس هناك أي مجال لممارسة السياسة في البلاد. وبغض النظر عن النتيجة التي ستترتب عن مشروع تحويل العاصمة، فقد كشف هذا الأمر عن رؤية الحكومة الملتوية للمدينة المثالية: تخطيط بالغ الدقة بلمسة منظمّة وبراقة، فضلا عن ضمان اكتفائها الذاتي وانعزالها عن عامة الشعب. عاصمة جديدة مضادّة للقاهرة.
مما لا شك فيه أن مدينة ما ستُشيّد في قلب الصحراء، وسيجني ثمار هذا المشروع شخص ما. وفي الأثناء، سيبقى باب التساؤلات مفتوحا حول إن كانت الحكومة ستنتقل بالفعل وهل سيتبعها أحد إلى هناك؟
مما لا شك فيه أن مدينة ما ستُشيّد في قلب الصحراء، وسيجني ثمار هذا المشروع شخص ما. وفي الأثناء، سيبقى باب التساؤلات مفتوحا حول إن كانت الحكومة ستنتقل بالفعل وهل سيتبعها أحد إلى هناك؟. وفي شأن ذي صلة، تم التخطيط خلال الخمسينات إلى تحويل مدينة نصر، الضاحية الاشتراكية، إلى حاضنة للوزارة، غير أن هذه الخطوة لم يتم تطبيقها على أرض الواقع. وعلى الرغم من أن المسؤولين في حكومة مبارك، قد أثاروا مسألة نقل الوكالات الحكومية مرارا وتكرارا، إلا أن هذا الأمر لم يتحقق. ونتيجة لذلك، تناثرت في الصحراء المحيطة بالقاهرة مدن ومشاريع نصفها خاوي وغير مكتمل.
في الوقت الراهن، يخدم مشروع العاصمة الجديدة “غاية بلاغية”، ذلك أن الحكومة ووسائل الإعلام تفضّل الحديث عن هذا “المشروع الوهمي” عوض التطرق إلى ما يحدث فعلا في شوارع مصر. فضلا عن ذلك، بإمكان النظام التظاهر بأنه يحاول إيجاد حلول ناجعة لمعضلة البلاد، في حين أنه يتجاهلها، بل يجعلها في الحقيقة أسوأ. من هذا المنطلق، أفضى أحد المهندسين المعماريين، أن هذا المشروع “مُوجّه لمن يريدون تصديق أن الأمور تسير إلى الأفضل. في الحقيقة، ما تقوم به الحكومة يصبّ في مصلحتها”. غير أن الأمر في الحقيقة هو عبارة عن “صرف أموال طائلة بهدف نقل القذارات إلى قلب الصحراء”.
المصدر: بليسز جورنل