تنفرد المناظرة كأحد الفنون النثرية التي عرفها العرب في القرن الهجري الثاني بمزيةِ أنها تعتمد على المهارات العقلية كالتحليل والاستنتاج والربط المنطقي وإعمال الدلالات وعرض البراهين والحجج الدامغات. يتأتى ذلك من خلال عمليتي الهدم والبناء؛ أي أن يهدم المتحدث حجج الخصم ويبرهن على فساد منطقها مع بناء وتأطير فكرته بالتدليل والتعليل والتأكيد. وكلما كان القاموس اللغوي للمتحدث أوسع كلما كانت الأفكار التي تعتمل في صدره أقرب للوصول للخصم وللجمهور؛ فيستحوذ بها على ألباب السامعين وعقول النابهين.
المناظرة هنا سجال بين فردين أو فريقين، ومن ثمَّ فهي تختلف عن الخطابة التي يقوم خلالها الخطيب بالعزف المنفرد، ولربما يظل الخطيب يلعب على وتر العواطف والمشاعر قاصدًا تحقيق منهج الاستمالة بالترغيب والترهيب وقد يضفي على الخطبة طرفًا من الإمتاع، في حين أن المتناظر ينزف الكثير من نقاطه إذا تغافل عن المنطق والعقل واعتمد على العاطفة؛ ولذلك تجده يَعْمَدُ إلى الإقناع المنطقي، ولا يعنيه الإمتاع فحسب بل يسعى لتغيير خصمه بما يورده من حجج قاطعة وتسلسلِ عرض الحجج وتفنيد خصمه ليقِر الخصمَ له -بشكلٍ أو بآخر- فيما يدافع عنه وينافح.
تمثل اللغة الرصيد الرئيس لكل من يتعرض لصنعة الكلام؛ سواءً أكان خطيبًا أو متناظرًا حيث أن الكلمات هي الوسيلة التي تنقل فكرة الخطيب والمتناظر والمدرس والمحاضر والمحامي ورجل المرور وغيرهم بشكلٍ لفظي، وتنقل الكلمات كذلك رؤية الساسة والقادة وأعلام الفكر والثقافة مكتوبةً؛ مما يؤكد لنا على أهمية حرص كل من يتعرض للحديث بين الناس على امتلاك قاموسٍ لغويٍ ثريٍ ومتجدد.
كلما كان الخطيب والمتناظر شره البحث في قواميس اللغة يستخرج من دررها ما يتقوى به على ما يريد تقديمه كلما اشرأبت له الأعناق والتمسته الأسماع
وكلما كان الخطيب والمتناظر شره البحث في قواميس اللغة يستخرج من دررها ما يتقوى به على ما يريد تقديمه كلما اشرأبت له الأعناق والتمسته الأسماع كما تلتمس الظِمَاءُ القراحَ في كل بقعة، فإن امتلك الخطيب أو المتناظر من الأفكار مالا يحصى ولم تسعفه الكلمات التي يعرض بها بضاعة عقله فهو في الناس أعيا من باقل وأحمق من هبنَّقة. لذلك أيها اللبيب الأريب! عليك أن تجتهد في امتلاكِ قاموسٍ لغويٍ ينهض بك ويكون لك رسولًا لتقديم أفكارك ومعتقداتك، كما قال سيف الدين قطز لعز الدين أيبك: أعرني قلبَكَ وأُعِرْكَ لساني! ذلك أن البيان واستمالة الجموع والحشود ليست بالتبعة اليسيرة، وهذا ما يستلزم أن يجرِّدَ المرءُ عينَ عنايته لها وأن يسهر لها إذا نام البطَّالون والمتقاعسون.
الطلاقة اللغوية هي التي ساعدت المعتزلة في التربع على عرش المناظرات في العصر العباسي؛ فالمناظرة كأحد الفنون التي أدخلها العباسيون للحياة العربية قد أضحت جزءًا من ثقافة العباسيين، وقد اتخذ الخليفة الثالث في خلفاء الدولة العباسية؛ المهدي بن أبي جعفرٍ المنصور من مجالسه وسيلةً لتحقيق مسائل الدين التي يتجادل فيها المتجادلون، ثم رمى عن قوسه هارون الرشيد حتى أنّ يحيى بن خالدٍ البرمكي خصصَ مجلسًا للمناظرات يجتمع في هذا المجلس المتكلمون وغيرهم من أهل الجدل، حتى ظهر المتكلمون وخاصةً المعتزلة؛ فكان للمناظراتِ شأن أوسع انتشارًا وأعلى كعبًا عما كانت عليه من قبل.
السر الذي جعل المعتزلة يتقلدون سنام المناظرات وعلم الكلام
السر الذي جعل المعتزلة يتقلدون سنام المناظرات وعلم الكلام يمكن إجماله في الطلاقة اللغوية التي شهد لهم بها الجميع. انتبه لهذا التأصيل لقد أفردَ المعتزلةُ للعقل سلطانًا لا يعادله سلطانٌ في تناول المسائل المطروحة للنقاش، واعتمدوا على الحجج المنطقية وقدّموا القياسَ بُغيَّة الوصولِ لنتائجهم المرجوة، بل ردُّوا على بعض فلاسفة اليونان واشتقوا لهم آراءً جديدة يدعمها العقل، وكانت لهم صولاتٌ وجولاتٌ في مضمار البحث والمناظرة محللين مستنبطين كأروعِ ما يكون البتحليل والاستباط وكان كلُّ ذلك بتطويع اللغة لإيصالِ الفكرة التي يسعون لنشرها بين الناس. فلولا قوة القاموس اللغوي لمّا تمكّن واصل بن عطاء من المناظرة، ولكان في صفوف المشاهدين أو المتابعين، لكنه لم يتخاذل أمام الراء فكان يتحدث كاسيل الهادر وقد استبعد الراء من كلامه فأخذ بالألباب والأفئدة.
المثال الثاني لأهمية الطلاقة اللغوية يأتيك من بين يدي الخليل بن أحمدٍ الفراهيدي واحد من أكابر اللغة العربية العظماء وأحد سدنتها والقائمين على خدمتها؛ فقد قدِّم عليه النظَّامُ مع والده؛ فقال والدُ النظَّامِ للخليل: يا أبا عبد الرحمن! لقد جئتُك بولدي هذا لينهلَ من غزيرِ علمِكَ وواسِعِ فضْلِك؛ فقال له الخليل يومًا يمتحنه، وفي يد الخليل قِدْحُ زجاج: يا بني! صِف لي هذه الزجاجة!
فقال النظَّامُ: أبمدحٍ أم بذّمٍ؟ قال الخليلُ: بمدحٍ، قال: نعم! تُريِكَ القذى، ولا تقبلُ الأذى، ولا تسترُ ما وراءَها. فقال الخليل: فذُّمَهَا! قال النظَّامُ: سريعٌ كسرُها، بطيءٌ جبْرُها، قال الخليل: فصِفْ لي هذه النخلة، وأومأ إلى نخلةٍ في دارِه؛ فقال النظَّامُ: أبمدْحٍ أم بذّم؟ قال الخليل: بمدحٍ؛ فقال النظَّامُ: هي حلوٌ مُجتناها، باسِقٌ منتهاها، فاخِرٌ أعلاها. قال الخليل: فذُّمَهَا! قال النظَّامُ: هي صعبةُ المرتقى، بعيدةُ المجتنى، محفوفةٌ بالأذى. فقال له الخليل: نحنُ إلى التعلُّمِ منكَ أحوج!
وهذا من الطلاقة اللغوية والبلاغة اللتين امتاز بهما أحد رجالات المعتزلة وهو بعد لا يزال حدثًا في طور الصبا يتعلم أن يجيد الحديث، وأن يجيبَ سائِلَه بما يقنعه، فلما كبر ازدادت خبرته ومعرفته واشتهر ببلاغته وفصاحته. ولا يخفى عليك أن الطلاقة اللغوية تكون الملاذ الذي نحتاج إليه في الكثير من المواقف التي نمر بها في حياتنا؛ مما يوجب علينا العناية به لاسيما وأن التفاوض والإقناع والخطابة والمناظرة والتسويق والتدريب والمحاضرة وغيرها تقوم على التواصل اللفظي؛ أليس ذلك بكافٍ لنحرص على امتلاك القاموس اللغوي الذي نستعين به على ما نواجهه يوميًا من أفكارٍ جديدة نسعى إما لإيصالها لغيرنا أو لاكتسابها للاستفادة منها؟!!
أليس للكاريزما الشخصية والشخصيات المغناطيسية المؤثرة سحر يتمثل في كلماتهم التي يتخيروها بعناية ليقودوا الآخرين؟!! هل تسعى لامتلاك شخصيةٍ آسرةٍ ومؤثرة؟ الجواب في عبارة واحدة: احرص على امتلاكِ قاموسٍ لغويٍ متنوع ومتجدد؛ فإن فعلتَ ذلك فستصبح وفي فترةٍ قياسية في مصافِ من يؤثرون في دنيا الناس، هذه هي نصيحتي لك! اجتهد في امتلاك الحصيلة اللغوية الوفيرة، (ولقد نصحتُكَ إنْ قبِلْتَ نصيحتي؛ والنصحُ أغلى ما يُباعُ ويوهَبُ).
الطلاقة اللغوية هي لونٌ من ألوان الذكاء! في نظريته الذكاءات المتعددة التي عرضها عام 1983 أشار هوارد جاردنر إلى أهمية الطلاقة اللغوية فجعلها واحدةً من أركان نظريته، وأطلق مصطلح الذكاء اللغوي على الطلاقة اللغوية وهي القدرة على استعمال اللغة والحساسية للكلمات والطرب للمحسنات البديعية والألوان البلاغية، والقدرة على نقل الأفكار والمفاهيم بصورة صحيحة لا تَجَمْجُمَ فيها ولا التباس، وهو ما نراه جليًا في المتناظرين والخطباء والشعراء وبعض الإعلاميين.
الطلاقة اللغوية يمكن امتلاكها والانتفاع بها من خلال القراءة وسعة الاطلاع مع تفعيل الكلمات الجديدة في الحياة اليومية وبصورة مستمرة، فعلى طريقة بروسلي: “لا أخشى من لاعبٍ تمرَّن على عشرةِ آلافِ ضربة، ولكنني أخشى اللاعب الذي يتمرن على الضربة الواحدة عشرة آلافِ مرة” … إنها قوة التكرار والدَّأْبِ الذي لا يعتريه السأم. الطلاقة اللغوية نحتاجها جميعًا لنتواصلَ ولنجعل من حياتنا واقعًا أفضل؛ فاجتهد من الآن ليكونَ لك قاموسك اللغوي الممتع.