أخلت الفرقة الرابعة، في إجراء مفاجئ، عددًا من حواجزها المنتشرة على الطرقات الرئيسية الواصلة بين عدد من المحافظات السورية، إضافة إلى إزالتها حواجز أخرى من الطرق الفرعية وتخفيض عددها، وسط غموض يحيط بهذا الإجراء وتضارب الأنباء عن سببه الحقيقي.
وسحبت الفرقة الحواجز من ريف طرطوس بالقرب من الحدود اللبنانية، بالإضافة إلى تلكلخ وريف حمص الغربي من المنطقة الواقعة بين القصير ومفرق شنشار، وبعض المناطق الحدودية الأخرى مع لبنان، والطرق الواصلة بين مدينة الرقة ومحافظتَي حماة وحلب، أي بين مناطق سيطرة ميليشيات “قسد” والمناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد.
وذكر موقع “صوت العاصمة”، المختص بنقل أخبار العاصمة دمشق وريفها، أن مكتب الأمن الوطني أصدر في أغسطس/ آب الفائت، قرارًا بإزالة جميع الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش التي لا تتبع للأجهزة الأمنية من كافة الطرق الرئيسية في سوريا، بعد الاطّلاع على تقارير قدمتها اللجان الأمنية في المحافظات السورية.
وحسب الموقع، فإن القرار الصادر عن مكتب الأمن الوطني يُلزم الفرقة الرابعة بإزالة جميع حواجزها القديمة الواقعة على الطرق الرئيسية، بما فيها الحواجز المشتركة مع الأجهزة الأمنية، وتسليمها لفرع أمني بموجب توصية اللجان الأمنية في كل محافظة.
الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق رأس النظام بشار الأسد، وهي أقوى الوحدات العسكرية النافذة في سوريا، كانت قد تحولت مع سنوات من مشاركتها في قمع ثورة السوريين إلى شركة مساهمة بامتيازات سيادية تشارك السوريين بلقمة عيشهم.
حيث تتّبع سياسة الجباية الإجبارية وفرض الإتاوات على الأشخاص والسيارات العابرة والبضائع المحمولة المارّة عبر المحافظات، والواردة عبر المنافذ الحدودية والمعابر الداخلية بين مناطق سيطرة أطراف النزاع، فضلًا عن قبضتها على ملف المرافئ وهو الأهم في عمل الفرقة الرابعة المتحكمة بالساحل السوري.
إلا أن إزالة الحواجز خلّفت توجّسًا من هذا الإجراء، مع ملاحظة الضربات الخاطفة ضد حواجزها بين الحين والآخر قبل إزالتها، كما حدث في ريف حمص الغربي قرب الحدود اللبنانية، عندما تعرضت لهجوم بالأسلحة الخفيفة من عصابات تهريب منتشرة على الحدود، وقبل أسبوعَين تقريبًا وقعت أيضًا اشتباكات عنيفة بين عناصر من الفرقة الرابعة ومجموعات محلية في بلدة زاكية بوادي بردى بريف دمشق.
الباحث الاقتصادي يونس الكريم، أوضح في حديث مع “نون بوست” أنه لم يتم سحب الحواجز من كل المناطق، بل بقي بعضها على الطرق الرئيسية الدولية، إنما تمّت إزالتها من محيط السويداء ودرعا وتلكلخ وطرطوس وبعض المناطق المتاخمة لـ”قسد”، وبقيت على طرق رئيسية حرصًا على أمانها وسيادة النظام وقدرته على فرض سيطرته حسب تصريحات مسؤولي النظام، كما تم سحب بعضها نتيجة اتفاقيات أو بغرض تخفيض التوتر كما الحال في مناطق “قسد”.
وأوضح الكريم، أن هذه الحواجز لا تهدف إلى مكافحة تهريب السلع والبضائع، إنما الهدف الأساسي هو مكافحة تهريب السلاح والأشخاص المطلوبين، وهذا هو جوهر عمل القوى الأمنية.
وأشار إلى أن قرار إزالة حواجز الفرقة الرابعة قوبل بالرفض منها لبعض الحواجز، فهناك وساطات تتم ما بين الأمن العسكري والفرقة الرابعة، لأن تكون الحواجز مشتركة خاصةً في الطرق الطويلة، وأن يتم تخفيفها وتغيير صفتها فقط، لكي تكون أمان المهربين من تدخل الأجهزة الأمنية الأخرى أو رصدها من قبل بعض حواجزهم، حسب وصفه.
بداية الفرقة الرابعة وتناميها
بداية لا بدَّ من الإشارة إلى أن الفرقة الرابعة التي بدأت بوحدة نخبوية من الطائفة العلوية وأقارب عائلة الأسد، قامت على أنقاض سرايا الدفاع عن المطارات أو الوحدة 569 التي تأسّست قبل حكم الأسد الأب، في عهد وزير الدفاع السابق محمد عمران عام 1963، قبل أن يُغتالَ وتوكّل مهمة قيادة الوحدة بعد سنتَين إلى رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد، وتتوسع بشكل أكبر وتأخذ دورًا محوريًّا داخل الجهاز القمعي للنظام أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات.
وبعد النزاع الأخوي بين رفعت وحافظ، والذي انتهي بنفي رفعت عام 1984 إثر محاولة انقلابية فاشلة، تم حلّ سرايا الدفاع وتفكيك تشكيلاتها ونقلها ما بين القوات الخاصة الفرقتَين 14 و15، والحرس الجمهوري (الحرس الشخصي للنخبة الأسدية)، والفرقة الرابعة.
استطاعت الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد أن تكون قوة ضبط استبدادية قبل اندلاع الثورة، وقد برز ذلك في قمع الاضطراب المحلي ما بين الدروز والبدو في السويداء عام 2001، والخلاف بين العلويين والإسماعيليين بمصياف عام 2005، وقمع احتجاجات الأكراد في القامشلي عام 2004، والتي لم تكن بقوة القمع التي انتهجتها ضد السوريين بعد العام 2011.
قبل عام 2011، وصل تعداد الفرقة الرابعة إلى ما يزيد عن 15 ألف عنصر من مجنّدين وضباط، جُلّهم من الطائفة العلوية، ويتوزعون على عدة ألوية: مدرعة ولواء ميكانيكي وفوج قوات خاصة وفوج مدفعية.
أما خلال سنوات الثورة، فقد أُضيفت إليها تشكيلات عسكرية جديدة، مثل فوجَي المشاة 666 و333، كما دُمجت فيها ميليشيات طائفية مثل لواء الإمام الحسين، وعدد من عناصر الميليشيات المحلية المنحلة.
اُستخدمت هذه التشكيلات في إخماد الثورة، بعد أن أدت الفرقة ذاتها مهمة مجزرة حماة في الثمانينيات عندما كانت سرايا الدفاع، مع ملاحظة اعتماد الفرقة ثقلًا نوعيًّا واستعراضيًّا للعنف، وعلنية متعمّدة للقتل والانتهاك بمختلف أنواعه.
إضافة إلى تصعيد الخطاب الطائفي والتمظهر الديني الذي ركّز على استعداء الأكثرية السنّية، في سياسة ممنهجة لرغبتها بإشعال الصراع أكثر، وما يلحق به من استمرار تدفق الموارد المالية إليها، ما يعني ازدهارها أكثر فأكثر من جهة، ورغبتها بتعطيل أي عملية تحول سياسي في البلاد من جهة أخرى.
الكاتب والصحفي السوري ضياء قدور، رأى أن رأس النظام بشار الأسد ينظر إلى هذه الفرقة بوصفها أكثر الفرق العسكرية موثوقية، لذلك في حال حدوث أي خلل ضمن جيش النظام أو أي نوع من أنواع الانقلاب العسكري أو التمرد العسكري، تكون الفرقة الرابعة الأكثر تجهيزًا والأحدث عتادًا للتصدي لمثل هذا التمرد في حال حدث، مع أن احتمالية حدوثه ضئيلة جدًّا.
الاقتصاد المالي.. تكتيك استراتيجي
إلى جانب اعتبار الفرقة الرابعة واحدة من أخطر المنظمات الإجرامية العابرة للحدود الوطنية، فهي تمثل عبر هيكليتها ونواتها الصلبة وشبكة علاقاتها الداخلية والخارجية كيانًا متوحّشًا معقدًا، يشبه دولة موازية بصلاحيات فوق القانون، ووسيطًا إدرايًّا بين الدولة وجماعات الجريمة المنظمة، انتعش ماليًّا بشكل كبير خلال العقد الفائت.
خصوصًا في العام 2017 عندما أنشأت المكتب الاقتصادي للمكتب الأمني لإدارة استثماراتها ونشاطها الاقتصادي، إذ وسّع المكتب شبكات اقتصاد النظام غير الرسمية في الاقتصاد الرسمي، عبر تحويل أرباح اقتصاد الحرب إلى استثمارات وشركات ومشاريع برعاية ماهر الأسد.
وحسب دراسة تحليلة نُشرت في مارس/ آذار الفائت، فإن أنشطة الاقتصاد الموازي تعددت على النحو التالي:
أولًا، النهب الممنهج (التعفيش): وهي عملية ساهمت ببناء وعملية التمويل الذاتي للميليشيات والفصائل العسكرية، وتعدّ الفرقة بوابة إيران لمشروع التغيير الديموغرافي وتهجير المكونات الأصلية للمناطق.
ثانيًا، رسم المرور (التعبير): شكّلت الحواجز نموذجًا مخططًا لعنف النظام المنظّم ضد المدنيين، كما ساهم نظام الحواجز في إثراء أجهزة النظام وميليشياته ووسطاء أعماله، عبر الترهيب أو الابتزاز اللذين كانا يمارسان على الحواجز.
وأُطلق اسم “تعبير” على عملية فرض ضريبة مرور على الأفراد وواردات الشركات والكيانات، وعلى عمليات شحن البضائع عبر الحواجز، وعليه يمكن اعتبار “التعبير” أحد أهم أنماط الاستغلال الاقتصادي في سوريا، لا سيما أن الفرقة تموضعت بحواجزها في جميع المناطق السورية، خاصة على الطرق الواصلة بين المحافظات والطرق الاستراتيجية ومداخل المدن والبلدات، لتحصيل الإتاوات التي طالت حتى شحنات بضائع رجال الأعمال وأصحاب الشركات.
ثالثًا، المرافقة الأمنية (الترفيق): ويقصد بها عملية تأمين الحماية للقوافل التجارية والمواقع الاستثمارية من المصادرة والسلب.
رابعًا، التحكم بالحدود البرّية والبحرية والترهيب والإتجار بالبشر: إذ منح التحكم بالحدود البرية والبحرية الفرقة الرابعة صلاحيات وامتيازات توازي الجمارك الحدودية، وتقع مكاتب وحواجز الفرقة على المعابر الاستراتيجية مع لبنان (القلمون-وادي البقاع) والأردن (نصيب) والعراق (البوكمال)، إضافة إلى الحواجز على مداخل مينائي اللاذقية وطرطوس، وتمكنت الفرقة الرابعة بواسطة نظام الحواجز والمكاتب الضخم هذا من فرض رسوم إضافية على كل شحنات البضائع الصادرة والواردة والمهرّبة.
خامسًا، مصادرة أملاك المدنيين على الحدود السورية اللبنانية، بغرض التحكم المطلق بطرق النقل والتهريب بما فيها طرق الإتجار بالمخدرات.
سادسًا، صناعة وتجارة المخدرات: إذ تعدّ الفرقة الرابعة صاحبة حصة الأسد في المجال ككل والمتحكمة به.
حسب حديث الاقتصادي يونس الكريم، فإن النظام مؤخرًا يحاول أن يرسل عدة رسائل على الصعيد الخارجي والداخلي، بالنسبة إلى ملف المخدرات ومدى ارتباطه بالفرقة الرابعة والوضع المعيشي الداخلي المتدهور، وتتلخّص هذه الرسائل بـ:
- توقفت تجارة المخدرات لارتباطها بالفرقة الرابعة، حيث تم رفع الفرقة وتحييدها، وبالتالي لم يعد هناك أي دعم من قبل النظام بما فيه العسكري لتجار المخدرات، وأن الجميع بات مرصودًا.
- محاولة الضغط على التجار الذين يتذرعون بارتفاع الأسعار نتيجة ارتفاع الإتاوات، ما يجبرهم على خفض الأسعار نتيجة الضغط الشعبي على تردي الوضع المعيشي.
- إرسال رسالة إلى الدول العربية أن النظام يسير نحو حل سياسي داخلي، وإعادة ترتيب الوضع وإعلانه أنه منتصر، وأن جميع المناطق عادت الآن إلى الحياة السياسية، وأنه يتحكم بها نتيجة القوة السياسية وليست القوة العسكرية.
في المقابل، وإلى جانب رسائل النظام، فإنه لا يخفى سعيه لإعطاء هامش حركة لبعض العناصر الإيرانية أو “حزب الله” وأمراء الحرب، ومنع تعقبهم ومراقبة تنقلاتهم، خاصة فيما يتعلق بريف حمص وتلكلخ وطرطوس، وجعل بعض المناطق تخضع للترهيب النفسي كالسويداء ودرعا، حسب الاقتصادي الكريم.
ووفق تقدير وزارة الخارجية الأمريكية، فإن صافي الثروة ومصادر الدخل المعروفة للرئيس السوري بشار الأسد وأفراد أسرته، قد تراوحت ما بين مليار ومليارَي دولار أمريكي، إلا أن التقدير غير دقيق ولا تستطيع وزارة الخارجية تأكيده بشكل مستقل.
وتنتج صعوبة تقدير ثروة الأسد وأفراد أسرته الممتدة بشكل دقيق، عن أصول العائلة التي يعتقَد أنها منتشرة ومخبأة في العديد من الحسابات والمحافظ العقارية والشركات والملاذات الضريبية الخارجية، ومن المرجّح أن تكون أي أصول متواجدة خارج سوريا ولم يتم الاستيلاء عليها أو حظرها مسجّلة تحت أسماء مستعارة أو باسم أفراد آخرين، لإخفاء الملكية والتهرب من العقوبات.
وأضاف تقرير وزارة الخارجية المقدم إلى الكونغرس، أن شبكة ماهر الأسد المستفيدة من خلال “أنشطة تجارية في قطاعات الاتصالات والهندسة والطاقة والسياحة والمقاولات وتكنولوجيا المعلومات من خلال مجموعة تلسا الاستثمارية”، مدرجةٌ على لائحة العقوبات بموجب الأمر التنفيذي رقم 13894 في يوليو/ تموز 2020، بسبب تقديمها الدعم لنظام الأسد وتورطها في انتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا عام 2011.
التوءمة مع إيران
لم يعد خافيًا على أحد الاندماج الكبير بين الميليشيات الإيرانية وقوات الفرقة الرابعة، إذ تجد الميليشيات الإيرانية بالفرقة الرابعة حليفًا قويًّا داخل النظام.
فمن حيث التعاون الاقتصادي، نجد أن التعاون بين الجهتَين قائم على المصالح المشتركة، إذ تنظر الفرقة إلى الإيرانيين كقوة داعمة أسهمت في مساعي الفرقة، للسيطرة على قطاعات سياسية وعسكرية واقتصادية، وفي مجال صناعة المخدرات وتهريبها إلى الأردن وصولًا إلى أسواق الخليج.
ولعل التحقيق المطوّل الذي نشرته مجلة “دير شبيغل” الألمانية في أغسطس/ آب 2022، يبرز حقيقة العلاقة وأثرها بين القوتَين اللتين تعتمدان اعتمادًا كبيرًا على تجارة المخدرات في عمليات التمويل الذاتي، إذ أظهر التحقيق كيفية تورط النظام السوري عبر وحدات عسكرية ومقربين من الأسد، بمن فيهم الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، في تجارة مخدرات (أهم الصادرات)، والتي تجاوزت قيمتها في عام واحد 5.7 مليارات دولار.
أما من الناحية العسكرية، فيلاحظ أن عمليات تنقُّل الميليشيات الإيرانية تجري ضمن قوافل وأرتال الفرقة الرابعة، للهروب من الاستهداف الممنهج من قبل القوات الأمريكية والقوات الإسرائيلية، كما تعمل الميليشيات الإيرانية تحت المظلة المؤسساتية المشتركة لهيئة الارتباط والتنسيق، والتي تضم في عضويتها الفرقة الرابعة والمخابرات العسكرية والمخابرات العامة (أمن الدولة)، إضافة إلى المبعوثين والمستشارين الإيرانيين.
وتحمل الميليشيات الإيرانية بطاقات هوية عسكرية صادرة عن أجهزة المخابرات الثلاث، وتضمن هذه البطاقات الوجود الإيراني في سوريا لأنها تقدم لحامليها الحماية من التبعات القانونية، هذا غير التعاون الاستخباراتي عبر الفرع الأمني الخاص المشترك “الفرع 900” في القطيفة بريف دمشق، والذي يعدّ وحدة لمكافحة التجسس التي تركز على الإيرانيين وعناصر “حزب الله” والسوريين المنخرطين بالميليشيات الشيعية.
يشير الكاتب قدور إلى أن الفرقة الرابعة هي الفرقة العسكرية الوحيدة في جيش النظام التي نجحت إيران في اختراقها، وزرع موالين موثوقين لها ضمن المؤسسات الرسمية لجيش النظام.
استخدم النظام الفرقة لخلق توازن قوى ما بين النفوذَين الإيراني والروسي ضمن مؤسسات الجيش، بحسب قدور، خاصة أنه أصبح هناك تنافس محموم بين الجانبين بعد تدخل موسكو عسكريًا في سوريا عام 2015، على كل مقدرات البلاد بما فيها مؤسسة الجيش، وحاول النظام الإبقاء على التوازن وعدم السماح لكفة أن ترجَّح على الأخرى، ليبقى على رأس هذه القمة متحكمًا بجميع الأجنحة الصاعدة والهابطة، وهو ما لم ينجح به، كما هو واضح.