تعدّ السينما قبل أي شيء فنًّا ترفيهيًّا يقوم على صنعة إبداعية أساسها الترفيه، لكن لا تقتصر عليه بالضرورة، وفي تجارب معينة ربما تتلاشى الخواص الترفيهية لتحل مكانها ملامح إبداعية، ذات أبعاد ذاتية أو فلسفية، أو لاستكشاف مساحات وأنماط سينمائية جديدة.
بيد أن التجربة الترفيهية منذ أكثر من 100 سنة ما زالت تحتفظ برونقها وإمكاناتها على جذب الجمهور، لذلك سمات المنتج الترفيهي تأخذ في الاعتبار عدة مقومات تجارية تضمن لها الرواج، لكن الجدير بالذكر أن مفردة “تجاري” أو “ترفيهي” لا تعني بالضرورة رداءة المنتج وجودته المنخفضة على كافة المستويات الفنية.
فالكتابة الجيدة والمنتج الإبداعي المصنوع بحرفة ومهنية، يمكن أن يكونا تجاريَّين وترفيهيَّين، وينجحان في شبّاك التذاكر، وهو أمر سائد في كل بلاد العالم، بيد أننا نواجه اختلالًا في المفاهيم، حيث مفهوم السينما التجارية يتعرّض لتحوّر على مرّ السنوات داخل نموذج السينما المصرية، لدرجة تجعل عددًا كبيرًا من الأفلام يتشابه في الشكل والتيمة، قوالب فكاهية مكررة ورخيصة، لذلك نواجه أزمة على مستوى الصناعة.
لأن هناك مشكلة في تصور فيلم تحصره في الأرباح، شبّاك التذاكر وبعدي الطوفان، ما يحفّز بعض الصنّاع على سلوك طرق سهلة لكنها مضمونة، الأمان المادي أصبح المحفز الأول، وأنا لا أنفي ضرورة التعاطي مع السينما كصناعة، لأنها مؤسسات لها أغراض ربحية في المقام الأول، مستواها الأولي مادي، لكنها كذلك منذ ظهورها، غير أنها كانت تتوخى المستوى الفني، وتحافظ على حدٍّ أدنى من الجودة يخلق منتجًا إبداعيًّا يحترم عقول الجماهير، بعيدًا عن بروباغندا الرسالة المزيفة.
همومنا اليومية
لا يوجد ثمة رسالة معينة للعمل الفني، فتح الباب على التأويلات هو ما يجعل العمل الفني جديرًا بالمشاهدة، الجمهور لا يدخل السينما لكي يلقَّن دروس، إنها معادلة ليست بهذه الصعوبة، إنما تحتاج إلى وعي فني ورؤية إبداعية ناضجة، وهذا ما يجعل فيلم “ڤوي! ڤوي! ڤوي!” منتجًا مهمومًا بالعادي واليومي، وسط سينما أضحت مليئة بألوان طبقية وامتيازات سكنية مثل الكومباوندات وشقق الدوبلكس، تشكّل لغة بصرية دخيلة على الهامش الأكبر من شعب تشكّلُ لقمة العيش همه الأول.
نحتاج أفلامًا تشتبك أكثر في هموم الفرد العادي، في مساكنه القائمة داخل الحارات الشعبية، وصوته العالي وملابسه المقلدة، وحالته المادية الضنك، والأهم من كل ذلك أحلامه بالطيران.
يتحرك الفيلم من نقطة زمانية فوضوية، مرحلة اللابطل حيث كل شيء ضبابي وملتبس، ليكفل الامتداد الزماني لأبطال الفيلم مبررات آلية لما يفعلونه، فالإشكالية لا تقع على شخصية بعينها، فالمعاناة ذاتها تطول الجميع، والتجربة الحسية والنفسية تجربة مشاعية، لا تتميز بالخصوصية الفردية، فأنا أشك أن أحدًا من المشاهدين لم يقابل في حياته شخصًا يحاول السفر بطرق غير نظامية.
لذلك الفردانية هنا ليست خاصية تثقل الشخصية أو تمنحها امتيازات درامية، وربما لذلك يمكن للجميع التوحُّد مع شخصية حسن (محمد فراج)، فالتلقائية والديناميكية اللتين تتسم بهما الشخصية مألوفة داخل الحارات الشعبية والمناطق العشوائية، وتطول كل أفراد الطبقة العاملة والأدنى منها، فهم لا يملكون رفاهية السكون والبطء، إذا توقفوا عن الحركة يموتون، تدهسهم عجلة الحياة، إذًا الشخصيات تمثل شيئًا عاديًّا ومألوفًا.
إنما ما يميز الفيلم بحق هو التجربة الداخلية لفريق المكفوفين، كمساحة طازجة للاستكشاف، إلى جانب كون المفارقة التي يصنعها الأصحاء حين يتظاهرون بالعمى، تخلق نوعًا من الكوميديا الساخرة الممزوجة بالحسرة، أشبه بمأساة مضحكة مبكية لمجموعة من الأفراد يحلمون بالفرار، الهرب بعيدًا إلى حيث يأخذهم جناح الطائرة، بلا أمل في العودة.
إذًا الحيز الذي منح للفيلم تجربته الخصوصية حيز شديد البراءة، أو كما كنا نتصور، فمن المجرم الذي سيحاول استغلال إعاقة الناس لصالحه؟ لكننا على العكس، لا نرى أبطال القصة مجرمين بل ضحايا للواقع، استغنى المخرج عن المقدمات الكافية، غير أن العالم كتجربة ومناخ كافٍ لمنح كل التبريرات الممكنة، فالأساس ذاته -البيئة/ المساحة المكانية/ المجتمع- مضمر بالوحشية والقسوة والفساد، إذًا العلة تكمن في الوسط ذاته وتمرَّر إلى الشخصيات، وعملية الاحتيال ليست إلا محاولة بائسة للتعافي من المرض المستشري.
ينطلق الفيلم من أرضية واقعية، شاب يعمل في أحد المنتجعات السياحية، يحاول أن يتزوج من عجوز أوروبية لتنتشله من الضياع وتأخذه نحو الجنة، تلك الأرضية معبّرة لأنها تلقي بنا في خضمّ المشكلة منذ البداية، وتؤطر الحلم والهدف الأسمى بالنسبة إلى البطل حسن، بعدها يمهّد المخرج والكاتب عمر هلال للفيلم مقدمة رسوم متحركة طريفة، تبدأ برفع النسق لأنها تبدأ بسحب الفيلم إلى الأمام بموسيقى ساري هاني، التي ستكمل حتى نهاية الفيلم كعنصر رفع للإيقاع.
ومن بعدها يبدأ المخرج في استخدام أدواته، يعتمد بشكل كبير على الفوتو مونتاج في ضغط المسافات الزمانية أو إعمال الخيال في خطط بديلة، مثلما يرى المشاهد رحلة الهروب الموازية على مركب غير شرعي، وينظر إلى مخاطرها بشكل خاطف، والحقيقة أن هلال يستخدم الفوتو مونتاج بتقنية مميزة تشبه أو توازي ما يفعله المخرج البريطاني المميز غاي ريتشي، خصوصًا في تقنية تصوير خطط الاحتيال والقطعات السريعة الخاطفة، حتى حركات الممثلين والمواقف الذكية الفكاهية التي يقع بها الأبطال، خصوصًا مشهد السرقة الذي ينظر فيه حجاج عبد العظيم إلى اللصوص من الجانبَين.
تلك النوعية من المشاهد تردّني إلى أفلام بعينها لغاي ريتشي، والحقيقة أنها نُفّذت جيدًا، وقدمت كوميديا دون ابتذال الأيفيهات أو الحركات العبثية، وعليه تأثُّر المخرج بذلك النمط البصري مفهوم جدًّا، لأنه أسلوب كامل يمكن تطويعه داخل قوالب سينمائية مختلفة.
يتعرض هلال للمجتمع كمأساة هزلية، بحيث ينتج شخصيات مهزومة، مهزومة حتى قبل أن نتعرّف إليها كمشاهدين، كابتن عادل (بيومي فؤاد) يمثل خيبة أمل كبرى بالنسبة إلى ذاته وعائلته، فشل كلاعب كرة وكمدرّب رياضي، والآن ينشط كمدرّس ألعاب في مدرسة حكومية، يمثل كابتن عادل إحباط جيل لم يتمكن من الفرار، ويجسّد شكلًا من أشكال العجز، حتى أحلامه المؤجّلة أصبحت منزوعة القيمة.
يؤسّس هلال لشعور بالعجز يطول كل الأجيال، فصديقا حسن، سعيد (طه دسوقي) وقِدرة (أمجد الحجار)، جسداهما نحيلان من فرط الحركة والمحاولة، لكنهما في الحقيقة يفتقران للحركة بمعناها الجوهري، أي الحيوية المعيشية التي تطور شعورًا بالجدوى، فذوبان الإنسان داخل دوامة لقمة العيش تجعله ينسى كونه إنسانًا في المقام الأول، يتحول تدريجيًّا إلى همجي، وهذا مبرر آخر لعملية الاحتيال، محاولة أخيرة للعثور على الذات وانتشالها من دوامة الحياة.
بيد أن هلال فضّل أن يعبّر عن قساوة الحياة بذروات مغرِقة في الميلودراما، مشهد الأب مع ابنه القعيد وهو يشجّعه على مغادرة البلاد إلى الأبد مشهد شديد الميلودرامية، ربما لأن القصة ذاتها تشتبك مع أفراد من الطبقة الدنيا، تحتاج إلى ضرب من الانفعال الشديد للتعبير عن الانفجارية الشعورية، لكنها كانت مقبولة على أي حال، مثل مشهد الأم (حنان يوسف) مع حسن، بعد أن ضربها الطبيب الذي تعمل في عيادته، لتقوم ثورة حسن لكنها تنتهي بالبكاء واحتضان الأم، فيما توجّه كلماتها بشكل مباشر لابنها: “سافر يا حسن”.
أظن أن هذا النوع من المشاهد لم يضف الكثير للقصة على مستوى الحكي، فنحن نرى من خلال السياق العام ما تشكّله المنظومة من ضغط على الشباب الصغار، بحيث لا يوجد مكان للأحلام، لكنها رؤية المخرِج على أي حال، بالإضافة إلى كونها لم تكن منفرة على الإطلاق.
ما يشكّل الحلقة الأضعف في السردية كلها هو خط الصحفية أنجي (نيللي كريم) وقصة حبها الكرتونية مع حسن، فشخصية أنجي ذاتها شخصية مسطحة، لم تتطور بأي شكل، ولم تضف للسرديّة بُعدًا مختلفًا، حاول هلال استغلالها في لحظة ذروة انفعالية، لكنها في الحقيقة تتحرك في سياق يجعلها ترفع من الإيقاع أو تشكّل عقدة.
ربما أراد هلال استغلال العنصر النسائي وإضافة خط سردي يلعب في مساحة مختلفة، وطبقة اجتماعية عليا، بحيث ترصد تفاهة وسطحية بعض أفراد تلك الطبقة، خصوصًا مع تناولهم كسلعة، الصحفية أنجي كانت ضيفًا خفيفًا على القصة، لكنها لم تنجُ من الخط الرومانسي المفتعل.
يعتبر فيلم “ڤوي! ڤوي! ڤوي!” تنفيسة للسينما المصرية التي تنجح في إبقاء المشاهد متحفزًا في السينما، لكنها لا تسقط في فخّ التسطيح وتيار الكوميديا الفجّة والتافهة، فهو ممسك بخيوط قصة ذات بُعد مكاني وزماني مرصود جيدًا، ذات هموم واقعية مقدمة داخل قالب كوميدي لطيف وممتع، عن مجموعة من المبصرين يعيشون في العتمة، يتحولون إلى مكفوفين لعلهم يرون النور مرة أخرى.