عقب نكسة 1967، نشأت حركة “غوش أمونيم” التي ترى أن “من حق اليهودي إقامة استيطان له في كل موقع من أرض إسرائيل، كجزء من خلاص وإنقاذ الأرض من الغرباء”، وعلى إثرها خلقت حالة من التنافس بين المعسكرات الصهيونية المختلفة لتأسيس جمعيات تعنى بتعزيز وتوسيع المشروع الاستيطاني، مع العمل إلى جانب الحكومات الإسرائيلية عبر ما يسمّى “لواء الاستيطان” في وزارة الإسكان.
فإلى جانب المؤسسات الرسمية للاحتلال واللجان الوزارية المعنية بالاستيطان، وتهيئة البنية التحتية وشق الطرق وإمداد الماء والكهرباء للمستوطنات، وأجهزة أمن الاحتلال التي تفرض سيطرتها بحكم القوة على الأرض، وتوظّف مدرّعاتها وآلياتها لحماية المستوطنين في إقامة بؤرهم الاستيطانية، تنشط جمعيات وعصابات وحركات صهيونية يمينية متطرفة تجعل من الاستيطان همّها الأوحد.
وبينما سلّط “نون بوست” في سلسلة “وكلاء الاستيطان” الضوء على مؤسسات الاحتلال الرسمية التي تضع جهودها في العملية الاستيطانية، نقدم في هذا التقرير الأخير من السلسلة وكلاء استيطانيين يشكّلون العامل الأهم في إقامة البؤر الاستيطانية (نواة المستوطنات)، وهي بنات الحركة الأمّ “غوش أمونيم” الاستيطانية: شبيبة التلال وحركة نحالا وحركة أمانا، إلى جانب جمعية ريغافيم.
شبيبة التلال
كانت حركة “غوش أمونيم” بحاجة لتثبيت البؤر الاستيطانية، فعمدت إلى تشجيع تأطير ودعم ما يسمّى “شبيبة التلال” التي أُسّست عام 1998، بدعوة من وزير أمن الاحتلال آنذاك أرئيل شارون، حيث حرض شباب المستوطنين على تنفيذ هجمات إرهابية على الفلسطينيين في أعالي التلال في كافة مناطق الضفة المحتلة، بغرض دفعهم لمغادرة أراضيهم وإقامة البؤر والمزارع الاستيطانية والمناطق الرعوية، وتوسيع المستوطنات القائمة مكانها.
ما يقارب 3 آلاف اعتداء نفّذها مستوطنون في أراضي الضفة الغربية بحقّ الفلسطينيين وممتلكاتهم ومزروعاتهم
وبذلك، أقام مستوطنون متطرفون يطلقون على أنفسهم جماعة “شبيبة التلال”، لا يزيد أعمارهم عن 25 عامًا، ويبلغ تعدادهم بضع مئات، بؤرًا استيطانية تأخذ شكل الحياة البدوية الفلسطينية، على قمم التلال في شتى أنحاء الضفة المحتلة، وبعدما كانت مصنّفة كجماعة إرهابية في أروقة أجهزة المخابرات الإسرائيلية، وكان نشاطها يتركز في عمليات “تدفيع الثمن” ضد الفلسطينيين، تحولت لاحقًا إلى مشروع دولة، وأصبحت تقود إحدى أسرع وسائل الاستيطان وأكثرها نجاعة في الاستيلاء على الأرض وطرد الفلسطينيين منها، متمثلة في ما بات يعرف بالاستيطان الرعوي.
ويقتني مستوطنو شبيبة التلال قطعان أغنام وأبقار، وينصبون خيامًا ويبنون غرفًا خشبية في معظم المناطق المصنفة “ج” التي تشكّل 60% من مساحة الضفة الغربية، وتنتشر اليوم البؤر الاستيطانية التي أقاموها بكثافة على طول الشريط الشرقي للضفة، انطلاقًا من الأغوار الشمالية وصولًا إلى صحراء شرق القدس، وهو الشريط الذي احتوى على الانتشار البدوي والزراعي الفلسطيني الأوسع على مستوى فلسطين.
لم يقتصر نشاط شبيبة التلال على بناء البؤر الاستيطانية، فقد نظّمت هذه المجموعات بشكل متصاعد حملات لإلقاء الحجارة على سيارات الفلسطينيين في عدة مناطق، لكن الأبرز كان في جريمة إحراق وقتل الشهيد محمد أبو خضير عام 2014، وإحراق عائلة الدوابشة عام 2015، إلى جانب قتل المواطنة عائشة الرابي من سلفيت بعد إلقاء الحجارة على سيارتها.
منذ بداية عام 2017 وحتى نهاية يناير/ كانون الثاني 2021، رصدت مؤسسة “أوتشا” التابعة للأمم المتحدة ما يقارب 3 آلاف اعتداء نفّذها مستوطنون في أراضي الضفة الغربية بحقّ الفلسطينيين وممتلكاتهم ومزروعاتهم، ينطلق جزء كبير من هذه الاعتداءات من المستوطنات والبؤر الاستيطانية التي تعدّ معقلًا لشبيبة التلال، مثل مستوطنة يتسهار جنوب مدينة نابلس.
حركة نحالا
شكّلت نحالا استمرارًا لأفكار وممارسات “غوش إيمونيم”، وتدور رؤيتها حول “أرض إسرائيل الكبرى” ومعارضة الحلول السياسية ووجود الفلسطينيين، وقد تأسّست الحركة عام 2005 على يد دانييلا فايس وموشيه ليفنجر، أحد عرّابي الاستيطان في الخليل والضفة المحتلة، ومن مؤسسي “غوش إيمونيم” بعد إخلاء مستوطنات قطاع غزة.
تستهدف نحالا جبال الضفة المحتلة، وتلعب دورًا في دعم البؤر الاستيطانية من جوانب لوجستية، مثل توفير منازل متنقلة، والمساعدة في إنشاء مؤسسات داخل البؤر، وتنظيم حملة علاقات عامة لها على مستوى سياسيين للاحتلال ووفود خارجية، وتوفير فريق قانوني لها، والمساهمة في جمع عدد من المستوطنين في البؤرة وتنظيمهم، وتوفير متطوعين من أجل العمل في تأسيس البؤرة، وفي حال الحاجة إلى عمّال فهم يحصلون على أجور رمزية.
إحدى البؤر الاستيطانية الشهيرة لحركة نحالا هي بؤرة أفيتار على جبل صبيح، على أراضي قرى بيتا ويتما وقبلان جنوب نابلس، وقد أقامتها الحركة في مايو/ أيار 2021، بعد مقتل المستوطن يهودا غويتا في عملية مقاومة، على السياق نفسه الذي أقامت فيه الحركة بؤرتها عام 2013، عقب مقتل المستوطن أفيتار بوروفسكي بالقرب من حاجز زعترة جنوب نابلس.
يتداخل نشاط نحالا مع مؤسسات استيطانية رسمية، ففي بؤرة أفيتار تعاونت مع مجلس المستوطنات الإقليمي (مجلس السامرة في التسمية العبرية)، الذي قاد حملة لجمع التبرعات وصلت إلى حوالى 370 ألف دولار، وفي بؤرة نفيه يهودا التي أُخليت سريعًا حصلت على دعم من رئيس مجلس مستوطنة كريات أربع.
في عام 2022، نشرت صحيفة “هاآرتس” العبرية تحقيقًا بعنوان “هكذا جمعت حركة استيطانية 5 ملايين شيكل لإقامة بؤر استيطانية غير قانونية”، أي حركة نحالا التي كانت تستعد حينها لتشييد بؤر استيطانية، من خلال 3 نقاط تجمّع رئيسية للمستوطنين (الأولى في منطقة بنيامين شرق رام الله، والثانية قرب مستوطنة أريئيل شمال الضفة المحتلة، والثالثة على مفترق تجمع مستوطنات غوش عتصيون جنوب القدس)، وذكرت الصحيفة أنه ورغم أن هذا نشاط غير قانوني، إلا أنه تم جمع الأموال للحملة في غضون 3 أيام بمساعدة الجمعيات الاستيطانية.
حركة أمانا
أُسّست حركة أمانا عام 1979 كجسم تنظيمي داعم لـ”غوش أمونيم”، وتعمل بشكل أساسي على إقامة مستوطنات جديدة وتطوير المستوطنات القائمة، وتبادر إلى مشاريع استيطانية عبر شركات استثمارية بملكيتها، كما تتخصّص في البناء والتخطيط الهيكلي للمستوطنات.
وترأّس أوري أرئيل الحركة الاستيطانية أمانا التابعة للحركة الدينية “غوش إمونيم” مدة 5 أعوام، قبل أن يصبح رئيسًا لمجلس المستوطنات بالضفة الغربية خلال فترة 1989-1999، ثم أسندت إليه رئاسة قسم الاستيطان في وزارة أمن الاحتلال، وكان أول رئيس بلدية لمستوطنة بيت إيل، وعضوًا في مجلس إدارة الصندوق القومي اليهودي.
لواء الاستيطان وحركة الأمانا شريكان في التمويل الذي يستخدَم بشكل كلي أو جزئي، لتمويل إنشاء الطرق وشبكات المياه والصرف الصحي للبؤر وربطها بشبكة الكهرباء
في سبتمبر/ أيلول 2022، قاد السكرتير العام لحركة أمانا الاستيطانية، زئيف حيفر، مشروعًا لشرعنة المزارع الاستيطانية، وقد قال في تصريحاته: “إن المزارع الاستيطانية الرعوية وسيلة أكثر نجاعة من البؤر التي تعتمد البناء الاستيطاني التقليدي، فبعد مضي 50 سنة استطعنا السيطرة على 100 كيلومتر مربع من مساحة الضفة الغربية، بينما سيطرت المزارع الرعوية الاستيطانية في فترة قصيرة على أكثر من ضعف هذه المساحة”.
إلى جانب المجالس الإقليمية للمستوطنات، فإن لواء الاستيطان وحركة الأمانا شريكان أيضًا في التمويل الذي يستخدَم بشكل كلي أو جزئي، لتمويل إنشاء الطرق وشبكات المياه والصرف الصحي للبؤر وربطها بشبكة الكهرباء.
حركة ريغافيم
في عام 2006، تأسّست حركة ريغافيم الاستيطانية تحت اسم “جمعية الحفاظ على الأراضي القومية” للاحتلال الإسرائيلي، وتعرّف ريغافيم عن نفسها بأنها جمعية غير حكومية، وأن هدفها “الحفاظ على أرض الشعب اليهودي والكنوز الطبيعية فيها ومنع استيلاء الغرباء عليها”، والغرباء هنا هم الفلسطينيون، ووفقًا لذلك الهدف يتركز عمل الجمعية على المستويات الميدانية والقضائية والتشريعية والدعائية، في كل ما يساهم في السيطرة على المزيد من الأراضي وطرد الفلسطينيين منها.
وأصبحت ريغافيم واحدة من أبرز جهات الضغط والتوجيه والتأثير على سياسة الحكومة الإسرائيلية، وبالذات على عمل الإدارة المدنية في منطقة “ج” في الضفة الغربية، بعد أن تحولت من جمعية لبعض المتطوعين فقط، إلى جمعية كبيرة فيها 14 موظفًا وعشرات المتطوعين، مستعينة بـ”أفضل المحامين والمتحدثين”.
جميعها تحتضنها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وتتواطأ معها، بل تقدم لها الحماية خلال تنفيذها اعتداءات ضد الفلسطينيين، كما قدمت عناصر قضائية مساعدة لهؤلاء المستوطنين وأرشدتهم إلى كيفية التملُّص والتحايل على التحقيقات
كما يتولى بعض من مؤسسيها ونشطائها مناصب إدارية وأمنية وحكومية رفيعة، تسمح لهم بتطبيق أجندتها الاستيطانية بشكل مباشر، أبرزهم بتسلئيل سموتريش، أحد مؤسسي هذه الجمعية ووزير مالية الاحتلال في الحكومة الحالية، وهي الحكومة التي منحته أيضًا منصبًا مهمًّا وحسّاسًا باعتباره وزيرًا داخل وزارة الأمن، ووضعت تحت مسؤوليته التصرف بغالبية المواضيع ذات الصفة المدنية في الضفة، وهو بطبيعة الحال منصب حيوي في عملية استهداف الفلسطينيين في المنطقة “ج”.
تختص ريغافيم بجمع المعلومات حول البناء والتوسع في القرى والمدن في الضفة الغربية والداخل المحتل، أبرز مجالات ذلك مراقبة النشاط الزراعي والبناء الفلسطيني “غير المرخّص”، وذلك في مختلف المناطق: المنطقة “ج” في الضفة والنقب والجليل والمثلث والقدس، وكذلك الجولان السوري المحتل، وتستأنف ضده في قضاء الاحتلال.
يعمل في ريغافيم فريق من الباحثين الميدانيين، يتجولون في مختلف أنحاء فلسطين مع التركيز على المنطقة “ج”، يرصدون أي نشاط عمراني وزراعي فلسطيني (مثلًا زرع الزيتون في الأراضي المهددة)، يوثّقونه بدقة كنقاط على الخرائط التي يحملونها، ويلتقطون صورًا وفيديوهات بجودة عالية للمكان من خلال كاميرات التصوير الجوي، ويبحثون عن أسماء أصحابه والمبادرين له، وتتكرر الزيارات أكثر من مرة لرصد أي تقدم أو توقف في عملية البناء.
وبحسب تقارير صحفية، تموّل وزارات مختلفة في حكومة الاحتلال ريغافيم بشكل مباشر، خلافًا للجمعيات والمنظمات الأخرى، وقد أصبحت الجمعية مزودًا للخدمات تستعين به المجالس الإقليمية للمستوطنات في الضفة، خاصة لجمع المعلومات عن البناء الفلسطيني، ورفع دعاوى ضدّ جهات حكومية أخرى، من أجل محاربة البناء الفلسطيني في مناطق نفوذ تلك المجالس.
وبحسب مديرها، فإن ريغافيم تتلقى حوالي 25% من ميزانيتها السنوية من أموال تلك المجالس الإقليمية، مقابل خدمات تقدّمها لها، وفي تحقيق لـ”هاآرتس” نُشر عام 2018، تبيّن مثلًا أن ريغافيم تلقت عامَي 2014 و2015 مبلغًا قدره 300 ألف شيكل من مجلس إقليمي الضفة (السامرة)، مقابل “التفتيش والتعامل المناسب مع البناء الفلسطيني غير القانوني في منطقة نفوذ المجلس”.
من شبيبة التلال إلى نحالا وأمانا وريغافيم، جميعها تحتضنها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وتتواطأ معها، بل تقدم لها الحماية خلال تنفيذها اعتداءات ضد الفلسطينيين، كما تقدم عناصر قضائية مساعدة لهؤلاء المستوطنين وترشدهم إلى كيفية التملُّص والتحايل على التحقيقات.
حيث أظهرت ورقة حقائق أصدرتها منظمة يش دين الإسرائيلية أن 91% من ملفات التحقيق، وعددها 1200 ملف، التي فتحتها الشرطة الإسرائيلية في الضفة الغربية ضد مستوطنين في فترة 2005-2019 بسبب اعتداءاتهم على الفلسطينيين، أُغلقت دون تقديم لائحة اتهام، وذلك بحجّة أن المتهم لم يُعرَف، أو فقدان الشرطة الإسرائيلية الملف أو عدم وجود ذنب جنائي، وفي حالات أخرى أُخرجَ العديد منهم بحجّة وجود اضطرابات نفسية.