التعبير عن الرأي بجرأة وصراحة في المملكة العربية السعودية بات ينافس في خطورته والعقوبة التي قد تطال من يمارس هذا الحق، خطورة الانضمام إلى الجماعات الإرهابية، خصوصًا مع وجود جملة الاتهامات الفضفاضة مثل إثارة الفتنة وتهييج الرأي العام وتقليل هيبة الحكم، وهذه الاتهامات كفيلة بإلقاء أي شخص في غياهب السجون لمدد تصل إلى عشرات السنين.
حجم التضييق تصاعد في الفترة الأخيرة بشكل لم يُعهَد من قبل، إذ لم يعد يمضي أسبوع إلا ويسجن شخص أو يوقف عن الكتابة بسبب رأيه، وآخر هؤلاء الداعية المعروف عوض القرني، فقد أصدرت المحكمة الجزائية حكمًا بإغلاق حسابه في “تويتر” ومنعه من الكتابة فيه، مع غرامة مالية قدرها 100 ألف ريال سعودي.
الداعية السعودي عوض القرني
القرني ليس الأول ولن يكون الأخير بالطبع، فالحملة الأمنية اشتدّت مؤخرًا ضد الرموز الاجتماعية والكتاب وحتى المواطنين العاديين، وأصبح الجميع يعيشون في دوامة من الخوف والقلق، فالكل مدرك أن مجرد كلمة قد تسلبه حريته، ولم يعد أحد يثق بالضمانة التي منحها الملك سلمان للمواطنين بعد استلامه مقاليد الحكم، والتي أكد فيها أن المواطن السعودي أصبح بمقدوره رفع دعوى قضائية ضد الملك أو ولي عهده أو أي فرد من الأسرة الحاكمة، وأن أبوابه وآذانه مفتوحة لسماع شكواهم.
اليوم نحن أمام إشكاليتين معقّدتين للغاية، الأولى أن الدولة بدل إتاحتها مناخًا لحرية الرأي والتعبير، والسماح للفعاليات المدنية بالتعبير عن إحساسها الفعلي بالمواطَنة من خلال المشاركة في صنع القرار وتكوين منظمات المجتمع المدني “المستقلة”، فإنها عمدت إلى انتهاج سياسة أكثر قمعًا وتضييقًا وبالغت في أشكال الحصار والقمع.
من المستحيل أن يتقدّم البلد ويتطور ما لم يطرح المواطن تساؤلاته ويوجّه نقده للأخطاء الحكومية بحرية، ويدعو المسؤولين المعنيين إلى مكاشفته بالإشكاليات والمخاطر التي تواجه المجتمع الذي يعيش فيه
هذه الإشكالية في حقيقة الأمر، ضررها أكبر على الدولة من نفعها، إذ إن من المستحيل أن يتقدّم البلد ويتطور ما لم يطرح المواطن تساؤلاته ويوجّه نقده للأخطاء الحكومية بحرية، ويدعو المسؤولين المعنيين إلى مكاشفته بالإشكاليات والمخاطر التي تواجه المجتمع الذي يعيش فيه، وبالتالي حرمت الدولة نفسها من جعل المواطن عونًا لها في تشخيص مكامن الخلل والخطأ، ومساعدتها في معالجتها وتلافيها.
الإشكالية الثانية متعلقة بالأمن بشكل أساسي، فلا يخفى على أحد أن ثقافة العنف وليدة القمع والكبت وخنق الحريات، فعندما تفقد الشعوب حريتها وتعيش في حالة من الخضوع تبرز ظواهر سلبية عديدة في المجتمع ومنها ظاهرة العنف، لذا على الدولة أن تعي بأن كل خطوة تخطوها في خنق المواطن ومصادرة حقوقه، فإنها تقرّبه خطوة من التطرّف وسلوك مسلك العنف، وبالتالي تشيع الفوضى وينمو التخريب والإرهاب.
من الواجب ترتيب البيت الداخلي السعودي وخلق أجواء المشاركة السياسية وإتاحة مساحة أوسع للحريات لأنها مقدمات ضرورية وملحة لاستتباب الأمن
وبطبيعة الحال فإن حالة التشنج التي نعيشها في الوقت الحالي نتيجة انعدام الحريات، لا تبني لمستقبل آمن، خصوصًا في ظل الاضطرابات الجارية في دول حولنا أو قريبة منا، لذا فمن الواجب ترتيب البيت الداخلي وخلق أجواء المشاركة السياسية وإتاحة مساحة أوسع للحريات لأنها مقدمات ضرورية وملحة لاستتباب الأمن، والعكس صحيح.
ختامًا، الحلول الأمنية وحدها لا تجدي نفعًا، والعنف والتعسف لا يولد إلا عنفًا، وسياسة تكميم الأفواه وزرع الرعب والخوف لا تخلق مجتمعات قوية آمنة مطمئنة، بل تُنشئ أجيالًا من الحاقدين والناقمين على كل شيء.