مطلع العام الماضي توقّع محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي، أن تكون السنة صعبة على بلاده، في حال عدم التوصل إلى اتفاق سريع بخصوص قرض من صندوق النقد الدولي، وذكر أنه “في حال عدم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ستكون هناك صعوبات على مستوى التمويل الخارجي والتمويل الداخلي على حدٍ سواء”.
لم تتوصل تونس لاتفاق مع صندوق النقد، وبدأت الأزمة تكبر شيئًا فشيئًا، ويمكن ملاحظة ذلك في كل مناحي الحياة في هذا البلد العربي الذي زاد الوضع فيه سوءًا بسبب تفرّد الرئيس قيس سعيد بالسلطة وفشل خياراته الاقتصادية.
تواصل ارتفاع نسب التضخم ونفس الشيء بالنسبة إلى الأسعار التي عرفت بدورها ارتفاعًا كبيرًا، فيما تراجعت العملة المحلية أمام العملات الأجنبية الرئيسية، ما أثر سلبًا على معيشة التونسيين، فهل سيستمر الأمر على حاله كثيرًا؟
ارتفاع التضخم
ارتفع معدل التضخم السنوي في تونس من 9.1% في شهر يوليو/تموز إلى 9.3% في أغسطس/آب الماضيين، وفق بيانات رسمية للمعهد الوطني التونسي للإحصاء، مقابل نسبة 8.6% تم تسجيلها في أغسطس/آب من سنة 2023.
يعزى ارتفاع التضخم إلى عدة عوامل، من بينها نقص السلع الأساسية وارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة والنقل، ووفق معهد الإحصاء فقد تطور نسق زيادة أسعار مجموعات كل من المواد الغذائية من 14.2 % في يوليو/تموز إلى 15.3% في أغسطس/آب والمشروبات الكحولية والتبغ من 1.8% إلى 4.6% والمطاعم والنزل من 11.2% إلى 11.5% في نفس الفترة.
بلغ معدل التضخم أقصى مستوياته عند 10.4% في فبراير/شباط الماضي، وفق معهد الإحصاء، وهو أعلى مستوى له منذ 30 عامًا، ما يؤكد حجم الأزمة التي يعيش على وقعها المجتمع التونسي، إذ كانت تونس قد شهدت مطلع تسعينيات القرن الماضي مستويات تضخم قياسية تجاوزت 9%، وفوق 16% في الثمانينيات.
فقد الدينار التونسي نصف قيمته في أقل من 10 سنوات
في اجتماع له مطلع شهر سبتمبر/أيلول، اعتبر مجلس إدارة البنك المركزي التونسي أن استمرار ارتفاع التضخم لفترات طويلة يعدّ مصدر انشغال، وأشار مجلس إدارة البنك، في السياق ذاته، إلى أن المخاطر المحيطة بالمسار المستقبلي للتضخم تميل بشكل ملحوظ نحو الارتفاع.
صحيح أن نسبة 9.3% مرتفعة، لكن النسبة الحقيقية التي يشعر بها المواطن التونسي للتضخم أعلى من ذلك بكثير، ويمكن أن تصل إلى 15% وفق الخبير الاقتصادي آرام بحاج الذي أكد في تصريح لإذاعة موزاييك الخاصة أن نسبة التضخم في تونس مرتفعة جدًا وتستوجب إجراءات عاجلة لمواجهتها.
وقال بالحاج إن تونس لا يمكنها أن تتحمل نسبة تضخم تتجاوز الـ4%، لكننا اليوم نتحدث عن 9.3%، ودعا الخبير الاقتصادي إلى ضرورة التصدّي للاحتكار وإصلاح المنظومات الإنتاجية لمواجهة هذا الارتفاع المتواصل للتضخم.
#التضخم في #تونس يرتفع إلى 9.3% في أغسطس مدفوعًا بزيادة أسعار المواد الغذائية والتبغ والسكن، ومفاوضات الدولة الشمال إفريقية مع صندوق النقد الدولي لا تزال متعثرة.
~ فوربس
— Scope Markets MENA (@scope_arabic) September 6, 2023
ما يعني أن الاقتصاد التونسي يسجل ارتفاعًا متسارعًا في نسبة التضخم، وسط توقعات بتجاوزه مرة أخرى عتبة 10% ببداية العام الحالي، مع استمرار ارتفاع الأسعار وتراجع سعر صرف العملة المحلية، ما سيؤثر على القدرة الشرائية للمواطنين.
وكان البنك المركزي قد رفع الفائدة الرئيسية خلال عام 2022 نحو 3 مرات آخرها في ديسمبر/كانون الأول، بمقدار 75 نقطة أساس إلى 8%، لمكافحة التضخم المرتفع، إلا أن نسب التضخم في ارتفاع متواصل والأسعار لم يتم السيطرة عليها بعد.
تراجع الدينار
من الأسباب الأساسية لارتفاع نسبة التضخم في تونس تراجع قيمة العملة المحلية “الدينار”، خاصة أن تونس تستورد العديد من المواد الأساسية بالعملة الصعبة، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها في البلاد.
وفق أحدث البيانات المنشورة على موقع البنك المركزي التونسي في 25 سبتمبر/أيلول، بلغ سعر صرف اليورو 3.35 دينار، فيما بلغ سعر صرف الدولار 3.16 دينار، ويتوقع أن يتراجع الدينار التونسي في قادم الأيام أمام العملات العالمية، في غياب سياسة نقدية واضحة وضعف احتياطي البنك المركزي من العملة الصعبة الذي يستقر فيما دون 100 يوم توريد في غالب الأحيان.
وفقد الدينار التونسي في أقل من 10 سنوات نصف قيمته، ففي مطلع سنة 2013 زمن حكومة القيادي في حركة النهضة حمادي الجبالي بلغ سعر صرف الدولار 1.53 دينار للدولار الواحد، بينما بلغ 2.05 دينار لليورو الأوروبي.
عادة ما تلجأ تونس إلى استيراد جزء مهم من الأدوية عبر الصيدلية المركزية المملوكة للدولة
شهد سعر صرف الدينار التونسي تذبذبًا كبيرًا أمام العملتين الرئيستين (الدولار الأمريكي واليورو الأوروبي)، خلال سنوات ما بعد ثورة الياسمين في 14 يناير/كانون الثاني 2011، كما عرف تراجعًا كبيرًا انطلاقًا من صيف 2021، حين استولى الرئيس قيس سعيد على كل السلطات في البلاد.
يعود تراجع الدينار التونسي إلى تدهور الوضع المالي والاقتصادي على جميع المستويات، وإلى الضغوطات التي يمارسها صندوق النقد الدولي مقابل تمويل قرض ائتماني بقيمة قدرها 1.9 مليار دولار، إذ طلب الصندوق من المركزي التونسي عدم التدخل بطريقة مفتعلة لتعديل الدينار حتى يأخذ حجمه النقدي الحقيقي.
ودأب البنك المركزي في تونس على تحديد سعر مرجعي للدينار خلال بداية عملية العرض والطلب في سوق الصرف، لكنه كان يتدخل لشراء الدينار بالعملة الصعبة من أجل تعديل قيمته وليحد من انزلاقه، وهو ما يرفضه صندوق النقد، معتبرًا أن هذا التدخل لا يعكس قيمته الحقيقية.
انعدام الثقة في المؤسسات التونسية
هذه الصعوبات المالية كان لها تأثير كبير على المؤسسات العمومية في البلاد، إذ فقدت مصداقيتها لدى المزودين بالداخل والخارج، ما جعلها غير قادرة على توفير المواد الأساسية في السوق، وتستورد تونس جزءًا كبيرًا من حاجياتها الغذائية خاصة من القمح اللين والقهوة والسكر والأرز.
تخشى المؤسسات الأجنبية عدم إيفاء المؤسسات التونسية العمومية المكلفة بالشراء كديوان الزيت وديوان التجارة وديوان الحبوب والشركة التونسية لصناعات التكرير (المؤسسة الحكومية لتكرير النفط) بتعهداتهم، وهو ما دفعهم إلى تعقيد عمليات البيع لتونس.
تشترط هذه المؤسسات أن تكون عمليات البيع مقابل الدفع مباشرة، حتى لا تخسر تجارتها وهو ما لا تستطيع الدولة التونسية القيام به في أغلب الأحيان، ما يفسر فقدان الأسواق التونسية للمنتجات الغذائية الأساسية، مثل الزيت النباتي المدعم والسكر والقهوة والشاي والأرز والطحين والحليب والمشروبات الغازية والحلويات الصناعية، ما اضطر بعض المتاجر والمساحات الكبرى إلى تعليق تنبيهات لزبائنها حددت فيها كمية شراء بعض المنتجات.
فضلًا عن المواد الغذائية، تواجه الصيدليات والمستشفيات التونسية نقصًا كبيرًا في الأدوية، ومنها علاجات مهمة لأمراض مثل القلب والسرطان والسكري، ما عقد مهمة الأطباء في كثير من المناطق، وزاد من متاعب المرضى.
طوابير سيارات عند المحطات قبل إضراب مرتقب لناقلي البنزين#تونس #المشهد #أخبار_المشهد pic.twitter.com/zkjL8YwJqH
— Al Mashhad المشهد (@almashhadmedia) September 28, 2023
عادة ما تلجأ تونس إلى استيراد جزء مهم من الأدوية عبر الصيدلية المركزية المملوكة للدولة، التي توفر الأدوية للمستشفيات والصيدليات في جميع أنحاء البلاد، لكن الصيدلية المركزية لم تعد قادرة على ذلك، في ظل الديون المتراكمة عليها تجاه المزودين الأجانب.
في نفس السياق، اضطرت تونس للجوء إلى سحب مخزونها من النفط الإستراتيجي لمواكبة النقص المتزايد في المواد البترولية، حيث يبلغ استهلاك المنتجات البترولية نحو 90 ألف برميل يوميًا، أي أن الدولة مطالبة باستيراد ما يقارب 58 ألف برميل نفط يوميًا لتغطية هذه الحاجيات، فالطاقة الإنتاجية للشركة التونسية لصناعات التكرير تبلغ فقط 32 ألف برميل يوميًا.
حاليًا لم يعد للدولة التونسية أي مخزون إستراتيجي من النفط أو الحبوب أو الحليب أو السكر أو الزيت النباتي أو الأرز، وهو ما أثقل كاهل المواطنين، فالأسعار في ارتفاع متواصل وأغلب المواد مفقودة من الأسواق.
يضاف إلى ذلك، تفاقم أزمة اختفاء الأدوية والسلع الاستهلاكية الأساسية بشكل بارز بعد انقلاب الرئيس قيس سعيد قبل أكثر من عامين على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية، وإقالته لحكومة هشام المشيشي وحل البرلمان وتعطيل العمل السياسي في البلاد وملاحقة معارضيه.
تآكل المدخرات الأجنبية
وسط غياب اتفاق واضح مع صندوق النقد الدولي وصعوبة الحصول على قروض خارجية وتعطل مصادر الإنتاج في البلاد، مع الأزمة العالمية، بدأت احتياطات البلاد التونسية من العملة الأجنبية في التآكل يومًا بعد آخر.
فتراجع مخزون تونس من العملة الصعبة، متأثر بتخفيض التصنيف السيادي للبلاد لأدنى مستوياته، وبتاريخ 28 سبتمبر/أيلول بلغ مخزون تونس من العملة الصعبة، 26600 مليون دينار أي ما يُعادل 117 يوم توريد.
تراجع قيمة العملة المحلية وارتفاع قيمة العملات الأجنبية، أثر على قيمة الديون الخارجية لتونس
وفق البنك المركزي التونسي، كان احتياطي البلاد من النقد الأجنبي في نهاية سبتمبر/أيلول العام الماضي، يكفي واردات تونس لمدة 127 يومًا، فيما كان يكفي مع نهاية سنة 2020، تغطية لمدة 162 يومًا.
يعكس تراجع الاحتياطي الأجنبي الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها البلاد، وتخوّف المقرضين الدوليين في ظل تدهور التصنيف السيادي لتونس وغياب برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي وتدهور المناخ السياسي والاجتماعي.
اللجوء للبنوك المحلية
تراجع قيمة العملة المحلية وارتفاع قيمة العملات الأجنبية، أثر على قيمة الديون الخارجية لتونس، التي تشكل فيها نسبة الديون المقومة بالعملة الأوروبية الموحدة 60.4% مقابل 24.4% من الديون المقومة بالدولار، وفق وزارة المالية في مارس/آذار الماضي.
ذلك أن نقص الإيرادات بالعملة الأجنبية وتعثر الحصول على قرض صندوق النقد الدولي وعدم الحصول على قروض خارجية جديدة، له أن يدفع تونس للتخلف عن سداد بعض ديونها، وتستعدّ البلاد لتسديد قسط قرض “اليوروبند” بقيمة 500 مليون يورو في منتصف أكتوبر/تشرين الأول القادم، يذكر أن قيمة هذا القرض زادت نتيجة انخفاض الدينار مقابل العملة الأوروبية الموحدة.
المثير للقلق حقًا هو بلوغ نسبة ديون تونس من ناتجها المحلي خلال العام الماضي نحو 80%، وفي ظل صعوبة الحصول على قروض من الخارج، لجأ نظام قيس سعيد إلى الاقتراض من البنوك والمؤسسات المالية المحلية بالعملتين المحلية والنقد الأجنبي لتغطية عجز الميزان التجاري.
ووفق موازنة الدولة لسنة 2023، تبلغ احتياجات تونس من الاقتراض خلال العام الحاليّ نحو 25 مليار دينار (8 مليارات دولار)، وتتوزع حاجياتها بين قروض داخلية من البنوك بنحو 9.5 مليار دينار (3 مليارات دولار)، وقروض خارجية بقيمة 14.8 مليار دينار (5 مليارات دولار).
أظهرت بيانات التونسية للمقاصة، أن البنوك وإلى جانبها بعض المؤسّسات المالية، مثل شركات التأمين وما شابهها، تقرض الدولة بنسب فائدة تلامس 10٪.
وبيّنت المعطيات المفصح عنها من قبل الهيئة الحكومية التي تعمل بصفتها المودع المركزي للأوراق المالية، أن القروض في صيغة سندات خزينة pic.twitter.com/inBe63xIQw
— بلاصة لنادي باريس – Blassa L Club De Paris (@Tunvs1) September 28, 2023
لكن الإفراط في اللجوء إلى المؤسسات المالية المحلية له تداعيات كبيرة على اقتصاد البلاد وفق البنك المركزي التونسي، إذ سبق أن قال المركزي: “تمويل الميزانية من خلال اللجوء المتزايد للتداين في السوق الداخلية قد يؤدي إلى تفاقم الضغوط المسلطة على السيولة وإلى تيسير المقايضات بين مختلف التوظيفات، ما من شأنه تعطيل نشاط الأسواق المصرفية والمالية وسوق التأمينات”.
وهو ما أشارت إليه وكالة “فيتش” للتصنيف، ففي أبريل/نيسان الماضي نبهت الوكالة إلى ضغط الحكومة التونسية المتزايد على القطاع المصرفي لتعزيز المالية العامة، مضيفة أن الحكومة اقترضت ما يعادل 2400 مليون دينار من البنوك في السنة المالية 2023 – 2024.
مع ذلك لم يصغ الرئيس قيس سعيد لهذه التحذيرات، بل حدث عكس، فقد قال إنه يجب مراجعة القوانين للسماح للبنك المركزي بتمويل الميزانية بشكل مباشر من خلال شراء سندات حكومية، وهي خطوة حذر منها محافظ البنك ذاته خلال وقت سابق.
ويتوقع أن تواصل تونس سياسة الاقتراض من البنوك المحلية بفائدة عالية، خاصة مع تدحرج التصنيف الائتماني لها لأسفل المراتب على سلم وكالات التصنيف العالمية وصعوبة التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي وتعليق البنك الدولي إطار الشراكة مع تونس بعد تزايد الاعتداءات على مهاجرين أفارقة في البلاد في أعقاب خطاب ندد فيه الرئيس سعيد بالمهاجرين.
حتى في حال الحصول على قروض خارجية من جهات إقليمية على غرار البنك الإفريقي، فهي مخصصة لدعم ديوان الحبوب قصد توريد القمح الصلب واللين المستخدم في صناعة الخبز والعجين، فضلًا عن توريد المحروقات والأدوية ودفع أقساط من ديون البلاد، أي أنها قروض بفائدة عالية ودون عائد مالي.
تحويلات المغتربين وإيرادات السياحة تخفف الأزمة
ساهمت تحويلات المغتربين وإيرادات السياحة في تخفيف الأزمة قليلًا، إذ بلغ إجمالي تحويلات التونسيين 3.9 مليار دينار تونسي (1.26 مليار دولار) في النصف الأول من العام الحاليّ، مقابل 3.7 مليار دينار (ما يقارب 1.19 مليار دولار) في الفترة نفسها من العام الماضي، بزيادة 5.4%.
وتواصل تحويلات المغتربين إسعاف احتياطي النقد الأجنبي في تونس متفوقة على أهم القطاعات الاقتصادية المدرة للعملة الصعبة ومنها الصناعة، وتأخذ تحويلات الجالية التونسية في الخارج منحى تصاعديًا منذ سنوات، مدفوعة بدخول جيل جديد من المغتربين مرحلة الإنتاج الاقتصادي وهم بالأساس التونسيون الذين غادروا البلاد خلال السنوات العشرة الماضية بهدف الدراسة في الخارج.
وتتوقع السلطات التونسية هذه السنة مداخيل قياسية من تحويلات أبنائها في الخارج تفوق 3.3 مليار دولار، حيث يواصل أكثر من مليون ونصف مليون تونسي مقيم في المهجر دعم اقتصاد البلاد، ومنحه متنفسًا إضافيًا.
يذكر أن عدد التونسيين بالخارج بلغ 1.731 مليون سنة 2021 مقابل 1.200 مليون سنة 2011، أي بتطور سنوي يقدر بـ3.7% سنويًا، ويتوزع عمل المغتربين التونسيين من ذوي الشهادات الجامعية في المهن الطبية والهندسة ومجال التكنولوجيات الحديثة إلى جانب الاختصاصات المالية وهندسة الطاقة، بينما يعمل آخرون من الحاصلين على التدريب في المهن باختصاصات البناء والقيادة والسباكة إلى جانب مهن المساعدة الطبية.
تعوّل الدولة التونسية بنسبة كبيرة على المداخيل الجبائية التي تمثل 57.97% من إجمالي موارد الدولة
فضلًا عن المغتربين، زادت إيرادات قطاع السياحة أيضًا، فحتى شهر أغسطس/آب الماضي زادت بـ47% مقارنة بعائدات الفترة نفسها من العام 2022، وفق بيانات البنك المركزي التونسي، وبلغت عائدات هذا القطاع الحيوي في تونس خلال هذه الفترة 5.1 مليار دينار تونسي أي ما يعادل 1.6 مليار دولار أمريكي مقارنة بـ3.5 مليار دينار تونسي أي نحو 1.1 مليار دولار في الفترة نفسها من العام 2022.
وتوافد على تونس هذا العام أكثر من 5 ملايين سائح، حتى نهاية يوليو/تموز الماضي، وزار تونس نحو 6.4 مليون سائح عام 2022 بعد ركود جرّاء جائحة كورونا خلال عامي 2020 و2021، وتأمل الحكومة تخطي أعداد عام 2019 الذي سبق تفشي جائحة كورونا في العالم، وعرف رقمًا قياسيًا بدخول أكثر من 9 ملايين سائح البلاد.
تمثل هذه الأرقام مؤشرًا على بدء انتعاش السياحة، ويعوّل النظام على هذا القطاع الذي يعد أحد محركات الاقتصاد التونسي للمساهمة في تخفيف أزمة البلاد الاقتصادية والمالية، وقبل سنوات كان هذا القطاع يمثل نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
تُعد تونس وجهة سياحية مفضلة للأوروبيين خلال أشهر فصل الصيف وحتى بداية فصل الخريف، إذ تزخر البلاد بمقومات هائلة للسياحة الشاطئية في مدينة الحمامات وبنزرت والمنستير وسوسة، كما أن تونس غنية بتراث ثقافي وتاريخي في مدن عدة مثل القيروان وصفاقس وقرطاج.
دولة الجباية
فضلًا عن تحويلات التونسيين بالخارج وعائدات السياحة، ترى السلطة في تونس أن الضرائب يمكن أن تحل جزءًا من الأزمة في البلاد، وقبل أشهر اقترح الرئيس سعيد إمكانية تمويل دعم المواد الأساسية لضعفاء الدخل عبر زيادة الضرائب على الأثرياء وأصحاب الدخول المرتفعة.
ويرى سعيد أن إقرار ضريبة جديدة على من يستفيدون من الدعم “دون وجه حق”، “له أن يمكّن البلاد من الاستغناء عن قرض من صندوق النقد الدولي وإملاءاته”، وفق قوله، وهذه ليست المرة الأولى التي تتجه فيه تونس لإقرار ضرائب لتمويل ميزانية الدولة.
وتعاني تونس أصلًا من ضغط جبائي مرتفع تتحمله كل الطبقات، وتعد من أكثر الدول إثقالًا لكاهل مواطنيها بالضرائب، وتتمثل الضرائب المعتمدة في هذا البلد العربي أساسًا في الضريبة على الدخل والضريبة على الأرباح والضريبة على القيمة المضافة، بالإضافة إلى ضرائب أخرى في شكل معاليم جمركية أو رسوم إدارية وأتاوات.
الرئيس #قيس_سعيد أكد إن هناك أفكارا أخرى يمكن دراستها من بينها فرض ضرائب على الأثرياء لتمويل صندوق الدعم فيما يمكن أن يكون خطوة تعوض رفع الدعم على السلع الغذائية والوقود pic.twitter.com/UrmpLBe6ec
— Julia Belhadj (@juliabelhadjj) June 13, 2023
تعول الدولة التونسية بنسبة كبيرة على المداخيل الجبائية التي تمثل 57.97% من إجمالي موارد الدولة، فينص قانون المالية للسنة الحاليّة على تطوير المداخيل الجبائية بـ4496 مليون دينار، أي بنسبة 12.5% مقارنة بالسنة الفارطة لتبلغ قيمتها 40536 مليون دينار.
يمكن اعتبار تونس دولة جباية، فلا تترك الدولة أي شخص أو مجال إلا وتفرض عليه ضريبة، حتى السفر إلى الخارج مثلًا يفرض عليه ضريبة بقيمة 60 دينارًا (19 دولارًا)، والتسوق من الفضاءات التجارية الكبرى أيضًا، وكذلك الفواتير والوثائق الإدارية.
وفي السنة الماضية، أقر نظام سعيد ضرائب جديدة، أبرزها ضريبة ثروة بنسبة 0.5% على العقارات، كما رفعت ضريبة القيمة المضافة من 13 إلى 19% لبعض المهن الحرة مثل المحامين والأطباء، ما انعكس سلبًا على الاستثمار ومناخ العمل في البلاد.
مخاوف من الإفلاس
رغم هذه الموارد المهمة المتأتية من الجباية والسياحة والمغتربين، ما زال الوضع صعبًا، فمراكز الإنتاج متوقفة عن العمل والحصول على القروض صعب، وهي مؤشرات تقول إن تونس في طريقها نحو انهيار كبير، خاصة أن نظام قيس سعيد عاجز إلى الآن عن الوصول إلى حلول تضع حدًا لهذه الأزمات المتعددة التي تشهدها تونس.
توجد مخاوف كبيرة في تونس من عجز الدولة عن تسديد الديون المتخلّدة بذمتها لفائدة المؤسسات المالية العالمية والمحلية، الأمر الذي إن حصل سيزيد من حدّة الأزمة التي يعاني منها اقتصاد البلاد وسيؤدي إلى مراجعة الجهات المانحة نظرتها لتونس.
ومن المتوقع أن يكون نمو الناتج المحلي الإجمالي في تونس خلال عام 2023 نحو 2.3%، على أن يخضع لتقلبات مهمة حسب تقدم ظروف التمويل والإصلاحات الهيكلية، وفق البنك الدولي وهي نسبة ضعيفة.
وسبق أن قالت وزيرة المالية، سهام نمصية، في يونيو/حزيران الماضي خلال جلسة عامة للبرلمان التونسي إن الخلل في سداد قروض البلاد الخارجية قد يؤدي إلى إفلاس الدولة، وأوضحت الوزيرة أن مصاريف الدولة تفوق مداخيلها، ما يحث على ضرورة البحث عن موارد أخرى، إضافة إلى البحث عن قروض داخلية وخارجية.
في نفس السياق، حذر كبار المسؤولين الأوروبيين والأمريكيين من صعوبة الوضع في تونس، إذ سبق أن حذر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن من توجه الاقتصاد التونسي نحو المجهول، رابطًا ذلك باحتياجها بشكل طارئ للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار على أقساط طيلة 4 سنوات.
تصحيح مسار 100/100
تونس على طريق الإفلاس الحتمي pic.twitter.com/kg724Rvt9v
— درة السيد (@DorraEssayed) October 21, 2022
كما حذّر المسؤول عن السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي من أن تونس تسير نحو انهيار ينذر بتدفق المهاجرين للاتحاد الأوروبي، مستبعدًا مساعدتها إذا لم توقع اتفاقًا مع صندوق النقد، فالاتحاد الأوروبي يربط مساعدة تونس بالتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
في ظل هذا الوضع المتأزم، يبدو أن الحل يكمن في الاستجابة لضغوطات صندوق النقد الدولي للحصول على تمويلات إضافية لموازنة الدولة أو التوجه إلى نادي باريس، كي تطلب الدولة جدولة ديونها، وهذا الحل مكلف جدًا.
مع ذلك، ستضطر تونس أيضًا للجوء إلى مزيد من الاقتراض الداخلي وخفض مشاريع التنمية والحد من النفقات ورفع الدعم عن العديد من المواد الأساسية والمحروقات، ما سينعكس سلبًا على المواطن التونسي.
واقع صعب يعيشه التونسيون ومستقبل غامض ينتظرهم في ظل إصرار الرئيس قيس سعيد على مواصلة بسط برنامج حكمه الأحادي وعدم اكتراثه بالمصاعب الاقتصادية والمالية التي تواجهها البلاد، وامتهانه تحميل مسؤولية الوضع لمن يصفهم بالمتآمرين.