ترجمة وتحرير: نون بوست
في تصريح أدلى به مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية لصحيفة ذي واشنطن بوست قبيل اعتلاء الرئيس الأمريكي جو بايدن منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة ليلقي خطابه في الأسبوع الماضي، قال المسؤول المذكور: “إذا ما تحدثنا بشكل عام، فيمكن القول إن المنطقة توجد في حالة من الاستقرار لا تختلف عما لم تزل تشهده من استقرار منذ العديد من السنين.”
يقول هذا بينما هناك خمسة من البلدان في حالة من الدمار الشامل، كان دمار أربعة منها ناجماً عن التدخل الأمريكي. وهناك ثلاث أخرى، يحظى حكامها بدعم واشنطن، تترنح على حافة الإفلاس.
ومضى المسؤول الأمريكي يتحدث دون أن تبدو عليه أي أمارات تشير إلى التهكم، وقال: “أعتقد أن الكثير من ذلك ما هو إلا نتاج بعض من الدبلوماسية الأمريكية الذكية، والتي عادة ما تتم داخل الغرف الخلفية”.
والآن، يتم تخصيص موقع الصدارة داخل خزانة الكؤوس التي أحرزتها الدبلوماسية الأمريكية للجهود التي يبذلها الرئيس بايدن من أجل حمل المملكة العربية السعودية على الاعتراف بـ “إسرائيل”.
على الرغم من أن وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن كان من أبرز المشككين في مثل تلك الجهود عندما كانت تبذل على يد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وعلى يد زوج ابنته جاريد كوشنر، إلا أنه اليوم يتحدث عن الأمر بحماسة تفوق حماسة من اهتدى لتوه وتحول من دين إلى آخر.
بل صرح بأن التطبيع ما بين اثنين من أقرب حلفاء واشنطن في منطقة الشرق الأوسط سوف يكون “حدثاً له ما بعده”. في تلك الأثناء لاحظ مستشار الأمن القومي جيك سوليفان بأن الأطراف المعنية بات لديها “فهم واسع للعديد من العناصر الأساسية.”
غدت آخر قطعة في اللغز الذي يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم هي الموافقة السعودية على الإشراف النووي الذي تمارسه الهيئة الأممية التي تناط بها الرقابة على ما كل ما يتعلق بالطاقة الذرية، والتي تسمى الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وذلك أن المساعدة الأمريكية في التخصيب النووي باتت واحدة من المطالب السعودية ضمن القائمة المتنامية للمشتريات السعودية.
وقبل ذلك جرى حديث حول إبرام اتفاق أمني مع الولايات المتحدة. إلا أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مستمر في التلويح بما لديه الاستعداد للتوقيع عليه ولكن دون التضحية بعلاقته مع الصين.
اصطفاء الزعماء الغربيين
في المقابلة التي أجرتها معه مؤخراً قناة فوكس نيوز، نفى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تعليق المحادثات بسبب التوجه اليميني المتطرف للحكومة الإسرائيلية الحالية، وقال: “في كل يوم نقترب أكثر [من إبرام الصفقة]. ويبدو للمرة الأولى أننا أمام صفقة حقيقية، صفقة جادة”.
في نفس الوقت لم يقتنع بوقف تأييده لروسيا في مجموعة أوبيك زائد، بل قال إن الأمر كله “يخضع للعرض والطلب”، ولا بوقف تأييده للصين التي أشاد بزعيمها الرئيس زي جينبينغ الذي قال عنه إنه “يسعى بكل ما أوتي لتحقيق الأفضل” من أجل بلده.
ما من شك في أن التطبيع العربي مع “إسرائيل” صار يعني أشياء مختلفة تماماً لمختلف الأطراف. بالنسبة للولايات المتحدة، والتي تواجه مشاكل جمة ضمن استراتيجية انسحابها من المنطقة بعد عقدين من التدخلات التي منيت بإخفاق شديد، تعتبر المكاسب المتحققة من مثل هذه الاتفاقيات ذات أبعاد جيو استراتيجية.
وذلك أن الأمر يتعلق باصطفاء الزعماء الغربيين الجدد للمنطقة، كما يتعلق بإبعاد كل من روسيا والصين عن منطقة الخليج، والحيلولة دون تحولهما إلى أكثر من مجرد شريكين تجاريين.
وبذلك يكون قد تم صهر تركيز الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما على منطقة المحيط الهادي في “صفقة القرن” التي أبرمت في عهد الرئيس الأسبق دونالد ترامب، فصارا شيئاً واحداً. وبذلك يكون الرؤساء الأمريكيون الثلاثة قد أوقفوا البحث عن حل للصراع الفلسطيني.
بالنسبة للدول الخليجية الثرية، يتعلق الأمر برمته باللعب في السوق، وبتحصيل أعلى الأثمان وضمان أعلى العروض.
المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة قطر كلها مرت بنفس المعاناة، حيث كانت ذات مرة بلداناً تعتمد بشكل تام على الغرب من حيث الإدارة التمويلية، وكمصدر للتكنولوجيا، ومن حيث الدعم العسكري. وهي نفس الرحلة التي مضت فيها من قبل كل من إيران وروسيا وتركيا. فهم تقريباً في نفس الموقع فيما يخص استعراض القوة الأمريكية خلال القرن الحادي والعشرين، وذلك على الرغم من أن التصريحات الصادرة عنهم والتحالفات التي هم جزء منها قد تختلف.
ولئن كانوا جميعاً ذات يوم ممن آمنوا بالحلم الغربي كمحرك للتنمية، فقد باتوا الآن يشعرون بخيبة عميقة إزاء ذلك، وانعقد لديهم العزم على رسم ملامح مستقبلهم من خلال تحالفات يبرمونها بأنفسهم.
الصورة الجديدة المحسنة لولي العهد السعودي
كل من يعتقد بأن المملكة العربية سوف تصبح جزءاً لا يتجزأ من المعسكر الغربي نتيجة لاعترافها بـ “إسرائيل” فإنه يعيش في عالم من الأوهام. كل ما تفعله الرياض هو أنها توزع رهاناتها – وهو أمر معقول إذا ما أخذنا بالاعتبار الظروف الحالية.
حتى من الناحية الشخصية – ولا ريب في أن السياسة التي يرسمها حاكم مطلق هي سياسة شخصية وحصرية – يعتبر محمد بن سلمان أقرب إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منه إلى معظم الزعماء الآخرين على الساحة الدولية.
فكلا الرجلين، كل في بلده، بدءا مسيرتهما من خارج المنظومة الحاكمة. وكلاهما استبعدا من قبل أقرانهما، واستصغرا من قبل خصومهما، وسلكا طريقيهما نحو القمة باللجوء إلى أقسى درجات العنف والشدة. وكان بوتين هو النموذج الذي اقتدى به محمد بن سلمان حين تعلق الأمر باغتيال مواطنيه المغتربين في الخارج.
ولذلك يبدو أقرب إلى المسرحية الهزلية تصور أنه من الممكن إنتاج صورة جديدة لمحمد بن سلمان باعتباره صاحب الرؤية المستقبلية الساعي للإصلاح، ناهيك عن أن القيام بمثل هذا الأمر يشكل إهانة كبيرة ومؤذية للعائلات السعودية المكلومة.
بعد مرور خمس سنين على جريمة قتل جمال خاشقجي، والتي أمر بتنفيذها ولي العهد السعودي مستخدماً فريق اغتيال لتلك المهمة هو من اختار أفراده بنفسه، ها قد عاد المستثمرون الغربيون إلى دافوس الصحراء وقد سال لعابهم وهم يتهيأون لاقتناص الفرص السانحة.
أما بالنسبة لـ “إسرائيل”، فالتطبيع مع جيرانها العرب يعني بالنسبة لها تكريس مكانتها كقوة عسكرية وتكنولوجية مهيمنة في المنطقة. لم يخطر ببالها يوماً أن التطبيع يعني التكافؤ أو البحث عن شراكة متساوية مع جيرانها العرب – ولا يتعلق الأمر حتى بوصول مستعمرة أوروبية إلى القناعة بأنه آن لها أن تتعايش مع حقيقة كونها موجودة داخل منطقة الشرق الأوسط. مهما أبرمت “إسرائيل” من اتفاقيات مع جيرانها، لسوف تظل مصرة على الاحتفاظ بتفوقها العسكري، سواء من ناحية الأسلحة التقليدية أو من ناحية السلاح النووي.
الإعلان بأن الصهيونية قد انتصرت
وفيما يتعلق بالقيادة القومية المتطرفة حالياً في “إسرائيل”، هناك أيضاً مكون عقائدي داخلي قوي له باع في الموضوع، وهو مكون ليس له أدنى اهتمام بإنهاء الصراع ناهيك عن تحقيق السلام.
ولذلك فإن التطبيع مع المملكة العربية السعودية يتعلق كلياً بالإعلان عن أن المشروع الصهيوني قد انتصر. وهذا ما عبر عنه بشكل واضح في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والذي يندر أن تقابل تصريحاته بالتجاهل، حيث قال إن الفلسطينيين لا يمكن لهم ممارسة حق النقض تجاه السلام.
وقال نتنياهو: “أعتقد أننا نقف اليوم عند منعطف يوشك أن يفضي إلى تحقيق إنجاز أكبر وأجل – إنه السلام التاريخي بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. وهو السلام الذي سوف يكون من نتائجه إنهاء الصراع بين العرب وإسرائيل.”
ومضى نتنياهو يقول: “وهذا ما سوف يشجع الدول العربية الأخرى على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. ولسوف يعزز من فرص السلام مع الفلسطينيين أنفسهم. كما أنه سوف يشجع على إنجاز مصالحة أشمل ما بين اليهودية والإسلام، ما بين القدس ومكة، ما بين أبناء إسحاق وأبناء إسماعيل. وكل هذه بركات ونعم عظيمة.”
ثم قام نتنياهو باستعراض واحدة أخرى من خرائطه المضللة، والتي مسحت منها تماماً الأراضي الفلسطينية، معلناً بذلك تحقيق النصر.
إلا أنه هو و”إسرائيل” يعيشان في وهم كبير.
فلكم أعلن من قبل، وفي مرات عديدة، عن بداية تاريخية جديدة. عندما التقى الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن، تعهد هذا الأخير بأنه “لن تكون هناك حروب أخرى، ولن تسفك دماء أخرى، ولن تشن اعتداءات أخرى.” كان ذلك اللقاء في عام 1977.
ولكن بعد عام واحد غزت “إسرائيل” جنوب لبنان وصولاً إلى نهر الليطاني، وكررت نفس الأمر في عام 1982 من أجل إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان.
ونفس هذه الوعود الكاذبة تم التعهد بها تارة أخرى في أوسلو في عام 1993، من خلال وثائق تم التوقيع عليها على نفس المائدة الخشبية التي استخدمت للتوقيع على معاهدة السلام بين مصر و”إسرائيل” في عام 1979. في ذلك الوقت، كتب محرر صحيفة نيويورك تايمز يقول إن أوسلو سوف “تسمح للفلسطينيين أخيراً بإدارة شؤونهم بأنفسهم بينما تنسحب القوات الإسرائيلية خلال شهور من قطاع غزة ومن أريحا كخطوة أولى”.
سلام في زمننا نحن؟
لقد تم إبرام معاهدات السلام بين “إسرائيل” وكل من مصر والأردن بعد ترتيب العديد من اللقاءات السرية التي كانت تعقد بين الزعماء العرب والزعماء الإسرائيليين، وكذلك فعل محمد بن سلمان ونتنياهو اللذان جمعتهما لقاءات سرية كذلك.
في ليلة من ليالي عام 1986، التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز ووزير دفاعه آنذاك إسحق رابين مع عاهل الأردن الملك حسين على مشارف مدينة العقبة. وبات معروفاً الآن أن الملك حسين كان قد زار “إسرائيل” سراً ثلاث مرات، وكان يحمل معه هدايا، من ضمنها أقلام ذهبية يعلوها شعار التاج الأردني. وكانت الهدية التي تلقاها منه ييغال آلون، الوزير في الحكومة الإسرائيلية، بندقية هجومية صنعت في ألمانيا. وكان الملك حسين وإسحق رابين يستمتعان بالتدخين معاً.
كلها تفاصيل مثيرة، ولكن لم يفلح أي منها في تغيير مسار التاريخ. بل ما حصل بالفعل هو أنها زادت من عزيمة “إسرائيل” على الاستمرار في احتلالها للأراضي الفلسطينية وفي مهاجمة جيرانها كلما لاحت في الأفق إشكالات.
هل تبدل الرأي العام تجاه “إسرائيل” بين الفلسطينيين أو بين المصريين نتيجة لإبرام تلك المعاهدات؟ لا، على الإطلاق، بل لا يقل كره الناس لـ “إسرائيل” اليوم عما كان عليه في أي وقت مضى. وأكثر ما يشغل بال أي عربي هو الأسلوب الذي تعامل به “إسرائيل” الشعب الفلسطيني.
بعد ثلاثة عقود من توقيع معاهدة السلام مع الأردن، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي ياعوف غالانت أن “إسرائيل” سوف تقيم حاجزاً جديداً على امتداد 300 كيلومتر من الحدود بين “إسرائيل” والأردن. كثيراً ما ترفض “إسرائيل” إصدار تأشيرات زيارة للشباب الأردنيين الراغبين في العبور إليها. والمحصلة هي أنه لا يوجد سلام بين البلدين.
ذلك ما رآه بوضوح شديد فلاديمير جابوتنسكي، الزعيم اليهودي الأوكراني والمحسوب على التيار اليميني الصهيوني، والذي كتب يقول: “إنها لفكرة طفولية أن يتخيل المرء، كما هو ديدن المحبين للعرب من بيننا، أن الفلسطينيين سوف يرضون طواعية بتحقق المشروع الصهيوني، مقابل بعض الفوائد المعنوية والمادية التي سيجلبها المستعمر اليهودي معه. تحمل هذه الفكرة في طياتها ازدراء للشعب العربي، ومن يفكر بهذا الشكل فإنه يزدري العرق العربي، حيث أنه يرى في هذا العرق دهماء فاسدة يمكن أن تشترى وتباع، ولديها الاستعداد للتخلي عن أرض الآباء والأجداد مقابل الحصول على شبكة جيدة من السكة الحديد …. لا وجود إطلاقاً لما يبرر مثل هذا الاعتقاد”.
ومضى يقول: “لربما كان بعض الأفراد من العرب ممن يقبلون الرشوة. ولكن هذا لا يعني أن الشعب العربي في فلسطين بأسره سوف يبيع تلك الحمية الوطنية التي يعتزون بها ويعضون عليها بالنواجذ، والتي ما كان حتى البابويون (سكان غينيا الجديدة) ليقبلوا ببيعها أو التنازل عنها. ما من شعب من الشعوب الأصلية في العالم إلا ويقاوم المستعمرين طالما وجد بارقة أمل في إمكانية التخلص من خطر الوقوع فريسة للاستعمار”.
منذ عقود والزعماء العرب يستمتعون بعلاقات دافئة مع نظرائهم الإسرائيليين، وبعضهم كانت لديه مثل تلك العلاقات حتى قبل قيام دولة “إسرائيل”. ولذلك فإن الزعم بأن “إسرائيل” محاطة بأنظمة عربية تشكل تهديداً وجودياً لها مجرد وهم، ما لبث أن كشف زيفه المؤرخون الجدد الذين وثقوا لأحداث حرب عام 1948 ولكل حرب جاءت من بعدها.
تمكنت “إسرائيل” من زرع جواسيس لها في أرقى المناصب وأكثرها نفوذاً داخل الأنظمة العربية، من إيلي كوهين في سوريا إلى أشرف مروان في مصر. يذكر أن أشرف مروان كان زوج ابنة جمال عبد الناصر وكان مقرباً جداً من أنور السادات ومساعداً له.
ولكن مشكلة “إسرائيل” الأساسية هي مع الفلسطينيين الذين يعيشون داخل فلسطين التاريخية أو في الشتات، والذين يرون في “إسرائيل” نظاماً استعمارياً يقوم على الفصل العنصري. لا يمكن لأي معاهدة جديدة قد يتم التوقيع عليها أن تغير من هذه النظرة.
لن يتحقق السلام بين أي بلد عربي و”إسرائيل” إلى أن ينتهي الصراع الفلسطيني من خلال موافقة “إسرائيل” على تشاطر السيادة على الأرض. وفي المرة القادمة التي يعلن فيها زعيم إسرائيلي أن “السلام سيكون في زمننا” فإني أنصح كل من يتواجد بالقرب من طائرات “إسرائيل” الحربية وطائراتها المسيرة أن يلوذ بما يقيه شرها.
المصدر: ميدل إيست آي