“الأزمة الكبرى التي نمر بها هي أن الناس نسوا إنسانيتهم، وهذه هي الفترة التي تكون فيها القيم الإنسانية في أدنى مستوياتها”.. بتلك الكلمات وجهت خديجة جنكيز، خطيبة الصحفي السعودي المعارض، جمال خاشقجي، المغدور به داخل قنصلية بلاده في إسطنبول 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، رسالتها للعالم بعدما غُيبت قضية زوجها عن اهتمامات المجتمع الدولي.
قضية كانت وستظل وصمة عار في جبين الإنسانية لما تضمنته من تفاصيل إجرامية غاية في القسوة، ولكنها صارت أكثر قسوة وإيلامًا نتيجة غياب التفاعل الدولي والمطالب الحقوقية بتحقيق عادل وشفاف، فبدلًا من تقديم الجناة للعدالة إذ بهم يُحملون على الأعناق كأبطال، وبينما كان البعض يعول على قادة العالم في الضغط عليهم، إذ بهم يتوددون للتقرب منهم في مشهد أقل ما يوصف أنه “سقوط فاضح للمبادئ والشعارات الإنسانية”.
تحل الذكرى الخامسة لاغتيال خاشقجي، وسط تغييب شبه تام لها، وانقلاب في المواقف والتوجهات السياسية الدولية، ما دفعنا إلى التساؤل عن الصفقات التي أبرمتها السعودية مع تلك الدول لتغيير مواقفها، إذ أين الشعارات والمبادئ التي لطالما تشدق بها قادة تلك الدول بداية الأزمة؟
هذا ما قالته التحقيقات..
بذلت جهات التحقيق التركية والأمريكية جهودًا حثيثةً للوصول إلى المتهمين في تلك الجريمة، كما كانت هناك اتصالات مع الاستخبارات الأوروبية خاصة الألمانية والفرنسية والبريطانية للوقوف على المستجدات في هذا الملف الذي أحدث صدمة كبيرة للمجتمع الدولي حينها.
كان الشعار الأبرز حينها “لا صوت يعلو على صوت الحقيقة” وأن “الجرائم لا تسقط بالتقادم” والضالعون فيها يجب أن ينالوا عقابهم أيًا كانت مناصبهم، ومن هنا توحد المزاج العالمي على ضرورة أن تسفر تلك التحقيقات عن نتائج مرضية يعقبها إجراءات وردود فعل قوية تتناسب وحجم الحدث وتفاصيله المرعبة.
في يونيو/حزيران 2019، نشرت المفوضية الأممية لحقوق الإنسان، تقريرًا أعدته أغنيس كالامارد، مكون من 101 صفحة، كشفت فيه بالأدلة والوثائق قائمة من الشخصيات السعودية، أكدت أنها ضالعة في الجريمة وتستوجب التحقيق معها، من بينها ولي العهد محمد بن سلمان.
التقرير شكك في طبيعة التحقيقات والمحاكمات التي تجريها الرياض بشأن تلك القضية، خاصة أنها أصدرت 3 روايات متضاربة عن الواقعة، الأولى الادعاء بوجود خلاف بين خاشقجي وأحد الأشخاص داخل سفارة بلاده في إسطنبول ارتقى إلى شجار ثم وفاة، ولما كانت تلك الرواية غير مقنعة، ظهرت أخرى تدعي أن اشتباك نشب بين المغدور به والمستشار بالديوان الملكي السعودي سعود القحطاني، أفضى في النهاية إلى قتله، وصولًا إلى الرواية الثالثة التي تشير إلى إصدار تعليمات من قيادات أمنية سعودية بقتله دون استشارة القيادة السياسية بالبلاد.
وأمام تخوفات المفوضية الأممية من عدم نزاهة التحقيقات التي تجريها المملكة، خاصة بعد الكشف عن تورط ولي العهد في الجريمة وفق الأدلة المرفقة بالتقرير، أعلنت تركيا في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني أنها أطلعت أمريكا والسعودية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا على تسجيلات صوتية لمقتل خاشقجي تؤكد بما لايدع مجالًا للشك تفاصيل ما كشفته التحقيقات وتورط المسؤولين السعوديين في الجريمة.
أمام تلك الأدلة اضطرت السعودية لتحويل الجريمة إلى ساحات القضاء الملكية، ليصدر الحكم بإعدام 5 من المتهمين، وهو الحكم الذي رغم استبعاده لولي العهد المثبت ضلوعه بالأدلة، وافتقاده لمعايير النزاهة والعدالة، كان مرضيًا للبعض، فيما اعتبره آخرون محاولة لتخدير الرأي العام العالمي وتبريد درجة حرارته العالية إزاء هذا الملف.
ما إن هدأت الأمور نسبيًا حتى أصدرت محكمة بالرياض في سبتمبر/أيلول 2020 أحكامًا نهائيةً في تلك القضية، كانت عبارة عن سجن 8 مدانين لفترات تتراوح بين 20 سنة و7 سنوات، صاحب هذا الحكم إعلان أبناء خاشقجي “العفو” عن قَتَلة والدهم في مايو/أيار من العام نفسه، وهي الخطوة التي اعتبرت تنازلًا جنائيًا عن القضية ليسدل الستار عنها سعوديًا بشكل كامل.
منذ ذلك الوقت لم يعرف ما إذا كان المحكوم عليهم بالسجن قد نفذوا العقوبة أم لا، فيما عاد المستشار الملكي السابق سعود القحطاني، أحد أبرز الضالعين في الجريمة، للأضواء مرة أخرى، وسط تخمينات بشأن عودته لسلطاته القديمة وإعادته لدوائر صنع القرار في المملكة.
هذا الإفلات من العقاب وطمس القضية في ظل تلك المحاكمات الشكلية دفع منظمة “مراسلون بلا حدود” للمطالبة بضرورة البحث عن آليات أخرى للمقاضاة ومعاقبة القتلة، ففي بيان لمكتبها الخاص بالشرق الأوسط قالت: “منذ اغتيال جمال خاشقجي عام 2018 والمحاكمات الصورية لقتلته في كل من السعودية وتركيا، اتضح بالملموس أنه لن يُحاسَب أحد منهم في أي من البلدين. لقد أصبح من الضروري إيجاد آليات أخرى للمقاضاة والمساءلة أكثر من أي وقت مضى، لذا تسعى مراسلون بلا حدود إلى اتباع سبل انتصاف قانونية جديدة في ولايات قضائية أخرى، لإحقاق العدالة وإنصاف جمال خاشقجي، وأيضًا لإرسال إشارة واضحة مفادها أن مرتكبي الجرائم الشنيعة ضد الصحفيين لن يكون من السهل عليهم الإفلات من العقاب في أي مكان في العالم”.
في أبريل/نيسان 2022 أعلنت تركيا غلق ملف القضية ونقله بشكل كامل إلى السعودية، وهي الخطوة التي أثارت حفيظة منظمة العفو الدولية التي أصدرت بيانًا على لسان الأمين العام، كالامار، نددت فيه بهذا القرار قائلة: “اليوم نهار مظلم لمن أمضوا أكثر من 3 سنوات يناضلون من أجل العدالة لمقتل جمال خاشقجي. وبنقلها القضية.. ستُرسله تركيا عن عِلم وبشكل طوعي إلى أيدي من يتحملون مسؤولية مقتله”.
بتلك الخطوة التركية يمكن القول إن قضية خاشقجي أسُدل الستار عليها بشكل كامل، حيث كانت جهات التحقيق التركية صاحبة التأثير الأبرز في مسار القضية، نظرًا لوقوعها فوق ترابها وامتلاكها كل الأدلة والوثائق التي تدين المتورطين وتكشف هويتهم، في ظل صدمة كبيرة للمتابعين لها والمهتمين بالشأن الحقوقي العالمي، وسط تساؤلات عن هذا الانهيار الكبير في الحماسة والتعاطي مع الجريمة منذ بدايتها وما آلت إليه حاليًّا.
انتفاضة أخلاقية.. كانت تلك المواقف الأولية
انتفاضة أخلاقية مليئة بالحماس والإصرار على الانتصار للإنسانية شهدتها القضية عند وقوعها، إذ أصرت أنقرة على موقفها الثابت بشأن الجريمة، دون أي رضوخ للاعتبارات السياسية الأخرى الخاصة بالعلاقات مع الرياض، معلنة وفق التحقيقات التي توصلت إليها مسؤولية كبار القادة في المملكة وعلى رأسهم ابن سلمان عما حدث، ومطالبة بمحاسبتهم وتغليظ العقوبة عليهم.
أمريكا هي الأخرى سارت على النهج ذاته، فرغم محاولة إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب مسك العصا من المنتصف، حين وصفت الجريمة بالبشعة، مطالبة بمحاسبة المتورطين، لكنها استبعدت أن يكون ولي العهد المسؤول الأول عنها، متجنبة في البيان الذي أصدره البيت الأبيض في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 تحميل المسؤولية لابن سلمان، إلا أنها اتخذت قرارات بحظر سفر المتورطين في الجريمة للولايات المتحدة
أثار هذا الموقف حفيظة الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، فيما وجهت العديد من الكيانات الحقوقية والسياسية الانتقادات لترامب بسبب موقفه المتخاذل الذي حاول من خلاله الحافظ على العلاقات مع السعودية على حساب المبادئ والحقوق الإنسانية التي تتمسك بها بلاده.
انعكس هذا الموقف المخزي بطبيعة الحال على الانتخابات الرئاسية التي جرت في 2020، حيث حرص المرشح الديمقراطي جو بايدن على رسم خط بارز لسياسته خلال حملته الدعائية يتعهد بجعل المملكة دولة منبوذة بسبب سجل حقوقها المشين، فيما رفض الحديث مع ولي العهد وعلق مبيعات الأسلحة للسعودية بعد وصوله للسلطة.
في فبراير/شباط 2021 كشف تقرير استخباراتي أمريكي – رفعت إدارة بايدن السرية عنه – أن ابن سلمان هو من أشرف على قتل خاشقجي، واستند التقرير في هذا الاتهام إلى 3 أسباب: أولها أن الأمير الشاب هو من يسيطر على صنع القرار في المملكة منذ عام 2017، كذلك المشاركة المباشرة لأحد مستشاريه وأفراد حراسته الشخصية في العملية، بجانب دعمه لاستخدام العنف لإسكات المعارضين في الخارج.
لم يختلف الموقف الأوروبي كثيرًا عن نظيريه الأمريكي والتركي، فقد قالت الخارجية الفرنسية في بيان لها 3 ديسمبر/كانون الأول 2018: “فرنسا تؤيد منح قضية خاشقجي بُعدًا دوليًا، دون الحكم مسبقًا على نتيجة تحقيقات السعودية والتركية الجارية”، مضيفة “التشاور مع الشركاء الأوروبيين بشأن هذه المسألة مستمر”، وأن باريس تواصل المطالبة بالكشف عن الطريقة التي ارتكبت بها الجريمة، فيما أعلنت حظر سفر المتهمين إليها.
الموقف ذاته تبنته حكومة بريطانيا برئاسة تيريزا ماي – حينها – حين أكدت ضرورة أن تكون التحقيقات شفافة وتتمتع بالنزاهة الكاملة للكشف عن المتورطين الحقيقيين في تلك الجريمة التي وصفها مدير جهاز المخابرات البريطانية “إم.آي 16” أليكس يانغر بأنها “هجوم مروع وصادم”.
كما اتهمت برلين على لسان المتحدث باسم الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تتزعمه المستشارة أنغيلا ميركل، ولي العهد السعودي، بأنه “فوّت فرصة” لتوضيح قضية خاشقجي، ولم يستغل الظرف المناسب لبناء ثقة جديدة بينه وبين المجتمع الدولي وذلك على هامش قمة مجموعة العشرين التي عقدت في الأرجنتين نهاية 2018.
نتاجًا لتلك المواقف علقت بعض عواصم أوروبا مبيعات السلاح للسعودية مثل برلين وباريس وواشنطن، فيما تحفظت لندن نسبيًا على تلك الخطوة، إلا أن الموقف الغربي في شكله العام كان داعمًا بقوة لضرورة الكشف عن المتورط الحقيقي في تلك القضية، أيًا كانت هويته، ومحاسبته في ضوء القانون الدولي، وبما ينتصر للإنسانية والمبادئ الحقوقية السامية التي يتشدق بها قادة تلك الدول.
انقلاب في المواقف مكتمل الأركان.. ما الذي حدث؟
بدأت المواقف الصادرة عن الدول المتحفزة لمحاسبة المتورطين تخفت شيئًا فشيئًا، منذ نهايات 2020، حيث خُففت إجراءات العزلة التي فرضها البعض على ولي العهد وحكومة بلاده، كما هدأ الخطاب الإعلامي والسياسي المناوئ لسجل المملكة الحقوقي.
البداية كانت مع تركيا التي بدأت في التقارب مع الرياض دون أي إنجاز ملموس في مسار القضية، وكانت الخطوة الأولى زيارة وزير الخارجية التركي – حينها – مولود جاويش أوغلو، للمملكة في مايو/ أيار 2021، أعقبها اتصال هاتفي أجراه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، لتبدأ مرحلة جديدة من التهدئة بين البلدين بعد تصعيد دام لأكثر من عامين.
وفي 7 أبريل/نيسان 2022 كانت المفاجأة حين أصدرت محكمة تركية قرارًا بتعليق محاكمة 26 سعوديًا اتهموا بقتل خاشقجي، كما حولت الملفات ونقلت القضية برمتها إلى السعودية، وفي نهاية الشهر ذاته أجرى أردوغان زيارة – مثيرة للجدل – للسعودية، التقى حينها العاهل السعودي وولي العهد، وبحثوا سبل تخفيف التوتر المستمر بين الدولتين منذ الربيع العربي 2011 وتعزز مع مقتل خاشقجي في 2018، وهي الزيارة التي اعتبرها البعض حينها بداية تسوية القضية الإنسانية بشكل كبير، وبعد شهرين فقط من تلك الزيارة، جاء الرد السعودي، حين أجرى ابن سلمان زيارة مماثلة لتركيا في 22 يونيو/حزيران 2020.
الولايات المتحدة هي الأخرى حولت بوصلتها بشأن ابن سلمان، فبينما كان بايدن يعزف على وتر عزلة ولي العهد والاكتفاء بالتواصل مع والده الملك، والتعهد بجعل السعودية دولة “منبوذة” بسبب سجلها الحقوقي المشين، زار السعودية في يوليو/تموز 2022، ليلتقي بولي العهد ويشارك في قمة عربية خليجية حضرها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، بجانب زعماء دول مجلس التعاون الخليجي.
لقاء بايدن – ابن سلمان أثار موجة انتقادات لاذعة ضد بايدن من المؤسسات الحقوقية والسياسية داخل بلاده، فيما نقلت شبكة “سي إن إن” الأمريكية عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن قرار لقاء بايدن بولي العهد السعودية كان بمثابة دواء يصعب ابتلاعه بالنسبة إلى الرئيس الأمريكي، الذي قال في عام 2019 إن السعودية دولة منبوذة، إلا أنهم أشاروا كذلك أن العلاقة بين الدولتين لا يمكن أن تكون رهينة جريمة ارتكبها البعض ولو من داخل الديوان الملكي ذاته.
الأمر لم يختلف كثيرًا على المستوى الأوروبي، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي طالب بمحاسبة المتورطين في الجريمة وضرورة أن تكون هناك شفافية في التحقيقات، يزور جدة السعودية في ديسمبر/كانون الأول 2021 ويلتقي ولي العهد، وذلك على هامش جولة له شملت الإمارات وقطر.
في يونيو/حزيران 2022 كانت باريس أول محطة أوروبية لابن سلمان منذ اغتيال خاشقجي، حيث تناول العشاء مع ماكرون، فيما وصف البعض تلك الزيارة بأنها خطوة نحو “رد الاعتبار” لولي العهد السعودي، وذلك بعد أسبوعين من زيارة بايدن للمملكة، في محاولة لإعادة محمد بن سلمان – المتورط بالوثائق في قتل خاشقجي – إلى الساحة الدولية مرة أخرى.
اللافت هنا أن ابن سلمان وصل فرنسا بينما كان ماكرون خارج بلاده، وهو المؤشر الذي وصفه الخبير في شؤون المملكة السنية في معهد أبحاث الدراسات الأوروبية والأمريكية، كانتان دي بيمودان، قائلًا “لم يعد محمد بن سلمان مضطرًا للتحرك بحذر كما كان الوضع قبل سنة أو سنتين، بل يتنقل كما يشاء”، وأضاف أن ماكرون بدأ رد الاعتبار وبايدن استكمله وبينهما بوريس جونسون (رئيس وزراء بريطانيا آنذاك) الذي زار الرياض أيضًا في مارس/آذار الماضي 2022.
توالت الاتصالات والمباحثات بين ولي العهد السعودي وزعماء لندن وبرلين وباريس وواشنطن وغيرها من عواصم المعسكر الغربي، في دلالة مباشرة على أن نبذ ابن سلمان دوليًا لم يعد الموقف السياسي الموحد بين هذه الحكومات، وأن الرجل بات يتحرك بحرية كاملة، ويباشر أعماله في الداخل والخارج دون القلق من أي ملاحقات قضائية جراء الجريمة التي هزت الضمير الإنساني العالمي، لكن سرعان ما بردت الأجواء كالعادة.
سياق مهم يجب الإشارة إليه
منذ 2019 وحتى بداية تغير المواقف الدولية بشأن قضية خاشقجي مر العالم بحزمة من الأزمات والمستجدات أثرت بشكل أو بآخر على حسابات وتوجهات الدول، ففي تلك الفترة مُني الجميع بجائحة كورونا (كوفيد 19) التي أثرت بشكل كارثي على الاقتصاد العالمي وأصابته بحالة من الشلل والركود وما تلاها من موجات تضخم عاتية.
تلك الجائحة وضعت الكثير من اقتصادات دول العالم في مأزق، لا سيما التي تعاني في الأساس من أزمات داخلية، كما هو حال تركيا التي تعرضت إلى هزات اقتصادية عنيفة كان لها صداها على استقرار النظام الحاكم هناك، حيث استغلت المعارضة تلك الأزمة لحسابات سياسية وتوجيه سهام النقد تجاه الحكومة والرئيس وتحميلهما مسؤولية ما وصلت إليه البلاد وسط تصاعد حدة الاحتقان الشعبي، الأمر لم يختلف كثيرًا في فرنسا وبريطانيا وحتى الولايات المتحدة.
قبل أن يتعافى العالم من تلك الجائحة إذ به يواجه شبحًا جديدًا وأزمة أكثر تفاقمًا، الحرب الروسية الأوكرانية، التي خلفت وراءها أزمة طاقة هي الأشرس خلال العقود الأخيرة، حيث توقفت قرابة ثلث إمدادات العالم من الطاقة بسبب تلك الحرب، الأمر الذي أحدث زلزالًا مدويًا لدى أوروبا التي كانت على وشك التجمد بسبب وقف إمدادات روسيا من الغاز الذي يلبي 40% من احتياجات الأوروبيين، هذا بخلاف التهديدات التي تعرض لها الأمن الغذائي بسبب وقف سلاسل الإمداد (تمد روسيا وأوكرانيا العالم بثلث احتياجاته من الحبوب).
بالتوازي مع تلك الأزمات والمستجدات التي ربما تكون دافعة بقوة لبعض الدول لإعادة النظر في مواقفها، كانت هناك أبعاد سياسية في الأمر، إذ يبحث بايدن عن إنجاز سياسي أو دبلوماسي يرمم به فشله الاقتصادي لا سيما وهو ينتوي الترشح لولاية جديدة، الأمر كذلك لدى “إسرائيل” الضاغطة على واشنطن لتوسيع دائرة التطبيع مع البلدان العربية خاصة السعودية ذات الثقل الكبير.
في تلك الأجواء الملبدة بغيوم القلق والفوضى، برزت مكانة السعودية كأحد أضلاع سوق الطاقة العالمي، وتقود بشكل شبه منفرد عملية الإنتاج العالمي من النفط، بحكم موقعها ومكانتها في منظمة الدول المنتجة للنفط (أوبك)، بخلاف نفوذها الاقتصادي والإقليمي المتزايد في ظل هذا التخبط ولعبة الكراسي الموسيقية التي تهيمن على خريطة العالم، إضافة إلى حرب الاستقطابات المشتعلة بين المعسكرين، الغربي والشرقي، منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.
البراغماتية فوق المبادئ.. ما الثمن؟
تحركت كل دولة من البلدان التي تعاملت مع القضية بداية الأمر كأنها طرف أساسي فيها، بشكل براغماتي بحت، حيث تخلى الجميع عن مواقفهم وغيروا بوصلتهم بشكل كبير، للهروب من المأزق الاقتصادي في ظل الأزمات التي فرضت نفسها بسبب المستجدات سالفة الذكر التي هددت وجود بعض الأنظمة بأكملها.
البداية كانت مع تركيا، صاحبة الريادة والسبق في تفجير القضية، فبعد تغيير موقفها بدأت مرحلة الحصاد، وهو التوجه الذي تبناه أردوغان وحكومته للهروب من فخ المأزق الاقتصادي والاحتقان الشعبي، بعدما وصل اقتصاد البلاد إلى مستويات متدنية وانهيار كبير للعملة المحلية لم تشهده منذ عقود، كذلك تفويت الفرصة على المعارضة لاستغلال هذا الأمر لحسابات سياسية في الانتخابات التي جرت في مايو/أيار الماضي وفاز فيها أردوغان، حيث اعتمدت الدولة إستراتيجية “تصفير الأزمات” مع كل البلدان التي كانت تعاني علاقاتها بها من توتير مثل السعودية ومصر والإمارات.
في يونيو/حزيران 2022 اتفقت أنقرة والرياض على بدء مرحلة جديدة من التعاون في كل المجالات، وفق البيان المشترك الصادر عقب لقاء الرئيس التركي وولي العهد السعودي في العاصمة أنقرة، وفي يوليو/تموز 2023 تم توقيع 16 اتفاقية تعاون بين الجانبين في مجالات التطوير العقاري والإنشاءات والاستشارات الهندسية وعدد من القطاعات الاستثمارية الأخرى، بقيمة تتجاوز 2.3 مليار ريال (نحو 610 مليون دولار) على هامش ملتقى الأعمال السعودي التركي الذي عقد في مدينة إسطنبول وقتها، كما تعهدت الرياض بضخ عدة مليارات في السوق التركي في صورة استثمارات متوسطة وطويلة الأجل، ساعدت بشكل أو بآخر في عدم خروج الاقتصاد التركي عن خطوطه الحمراء.
أمريكا كذلك طرقت أبواب المملكة وتخلي بايدن عن مواقفه المتشددة إزاء ولي العهد جراء أزمة الطاقة التي تسببت فيها الحرب الأوكرانية، حيث كان ارتفاع أسعار النفط المحرك الأبرز وراء هذا الانقلاب في المواقف، وقبيل إعلان زيارته للسعودية بأيام قليلة وافق تكتل (أوبك+) الذي يضم 13 دولة منتجة للنفط، على زيادة طفيفة في الإنتاج.
خبير أمن الطاقة في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، بين كيهيل، يبرر التغير الأمريكي في الموقف من السعودية قائلًا: “أعتقد أن هناك شعورًا في البيت الأبيض بأنهم بحاجة إلى أن يكونوا قادرين على التقاط الهاتف وإجراء حوار بناء مع الكثير من الأطراف وفي عالم النفط الذي يبدأ بالسعودية”.
بعد آخر في تغير موقف بايدن يتعلق بتوسيع دائرة التمدد الإسرائيلي في المنطقة العربية من خلال موجات التطبيع التي بدأها دونالد ترامب في سبتمبر/أيلول 2020، حيث يسعى لتعزيز التقارب الإسرائيلي السعودي لتوظيف ذلك سياسيًا خلال حملاته الانتخابية القادمة واستعادة شعبيته المتأثرة بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية، إضافة إلى محاولة جرجرة الرياض بعيدًا عن حلف الشرق بقيادة موسكو وبيجين.
صفقات مماثلة عقدتها المملكة مع برلين وباريس ولندن تتعلق بإمدادات الطاقة وتعويض العجز الناجم عن وقف النفط والغاز الروسيين، وتعزيز الاستثمارات السعودية، في مقابل إعادة النظر في قرار حظر السلاح للسعودية، وإعادة الرياض للمجتمع الدولي مرة أخرى بعد سنوات العزلة النسبية التي لم تدم لأكثر من عامين.
وتعد السعودية ثاني أهم شريك اقتصادي لألمانيا عربيًا، كما أن ألمانيا رابع أكبر مورد للمملكة، وتبلغ قيمة واردات ألمانيا للسعودية عام 2021 قرابة 4107.13 مليون يورو، فيما تبلغ الصادرات السعودية 816.84 مليون يورو، في تفوق واضح لميزان التبادل التجاري لصالح ألمانيا.
أما على المستوى الفرنسي فزاد حجم التجارة مع السعودية خلال العام الماضي ليصل إلى أكثر من 10 مليارات يورو، فيما سجلت الاستثمارات المباشرة من الجانبين في البلدين 13.5 مليار يورو، وفي يونيو/حزيران الماضي وعلى هامش منتدى الأعمال الفرنسي السعودي الذي عقد في باريس تم توقيع 24 اتفاقية مبدئية واستثمارية في العديد من المجالات، بقيمة 3 مليارات يورو، في قطاعات النفط والغاز والطاقة والنقل.
تلاقت رغبة السعودية في الخروج من مأزق تشويه سمعة ولي عهدها، مع براغمايتة الدول المنخرطة في قضية خاشقجي بصورة كبيرة، ما ساعد المملكة على ذلك الأجواء والمستجدات التي حولتها إلى قبلة زعماء العالم ممن يهرولون لخطب ودها لإنقاذ البشرية من مخاطر التجمد ووقف عجلة الإنتاج، التي وظفتها لصالحها بصورة جيدة.
في السياق ذاته لم يبخل ابن سلمان بالأموال ولا الصفقات التجارية مقابل إعادته للأضواء على المسرح الدولي مرة أخرى، إذ فتح خزائن بلاده لتعزيز حضوره وسمعته، مبرمًا عددًا من الاتفاقيات الاقتصادية بمئات المليارات مع مختلف البلدان التي كانت تستهدفه قبل عدة سنوات، في صفقة تحولت في النهاية إلى مقايضة قبيحة، المصالح أمام المبادئ.
بعد 5 أعوام على مقتل خاشقجي، ها هو المجتمع الدولي يسقط في أول اختبار حقيقي له في السنوات الأخيرة أمام إنسانيته وانتصاره للحقوق والمبادئ، سقوطًا مخيبًا للآمال، ليطيح بالشعارات التي طالما رفعها أصحابها، معليًا من قيمة البراغماتية والمصالح الخاصة، ضاربًا بالقوانين الدولية التي تؤصل للعدالة عرض الحائط، لتتحول تلك القضية إلى وصمة عار في جبين الجميع، المتورطين والمتواطئين والمتفرجين، عار سيلاحقهم جميعًا.