يقول غاندي: (الفقر هو أسوأ أشكال العنف)
كان بإمكان المهاتما غاندي أن يحقق الإستقلال عن المستعمر الإنجليزي بنبذ عنفه المستمر بعنف أقوى وبأدوات غير تلك التي استخدمها في عصيانه المدني من خلال اللجوء إلى ثورات العنف وإراقة سيل من دماء شعبه وبنضال مسلح وجماعي في سبيل نيل حريتهم منذ وقت مبكّر ، لكنه أصرّ علىى العصيان المدني واللاعنف ، وراهن على مبادئ فلسفته التي أثارت غضب الكثيرين من الزعماء والقادة سواء داخل الحزب الذي أسسه (المؤتمر الهندي) أو من الأحزاب الأخرى ، لكن إرادته الصلبة وعناده المستمر في رفضه القطعي لمبدأ العنف تغلّب في النهاية.
إيمان المهاتما العميق بقيم الحب والتسامح والجمال والخير وإصراره الدائم بانتصار (الساتياغراها) ذلّل كافة الصعاب ، فكان الإستقلال هو غاية هدفه النبيل والعصيان السلمي المدني هي الوسيلة التي اختارها كأداة.
عاد غاندي من جنوب القارة السمراة بعد نيله درجة المحاماة وهو يناضل من أجل حقوق المدنيين ، ومن أجل اقتصاد معتمد على نفسه قائم بذاته بدلاً من اعتماده الكلي على المستعمر الإنجليزي
عاد غاندي من جنوب القارة السمراة بعد نيله درجة المحاماة وهو يناضل من أجل حقوق المدنيين ، ومن أجل اقتصاد معتمد على نفسه قائم بذاته بدلاً من اعتماده الكلي على المستعمر الإنجليزي، يصدح بمطالباته المستمرة بالقضاء على الفقر وبمنح المرأة كامل حقوقها، فعاش بين البسطاء من شعبه بسيطاً وتهندم بملابسهم المتواضعة، مستغنياً عن البدل وربطات العنق الفاخرة التي اعتاد عليها، يصطحب معه دوماً عنزته النحيلة كجسده أينما حلّ وارتحل ، فكان بذلك مصدر إلهام وفخر لكثير من القادة والحقوقيين حول العالم.
وعندما يشتدّ النزاع وينفجر الخلاف بين المتعصبين من أبناء شعبه من المسلمين والهندوس كان ينقطع للصوم ممتنعاً عن الطعام والكلام حتى ينتهي النزاع الذي كان نادراً مايطول خوفاً عليه من الموت فيتعجّلوا بالوصول إلى وفاق سريع .
غاندي هو حالة نادرة واستثنائية في تاريخ النضال البشري ليس بسبب استطاعته تحرير بلاده من سطوة المستعمر فقط ، بل بسبب نجاحه الباهر في توحيد عشرات الأعراق والأديان ومئات الطوائف التي تعبد آلهة تجاوزت الألف في تعدادها تحت سقف واحد ، وراية واحدة هي الهند العظيمة .
كان غاندي يرفض كل أنواع التمييز ضد الأقليات ويشدّد دائما على اقامة دولة مؤسسات قادرة على أن تحتوي الجميع ، ويصرخ في كل اتجاه منادياً بتفعيل المشتركات الوطنية كونهم أبناء وطن واحد وتحت دستور يحفظ للجميع حقه ويوضّح واجباته تجاه وطنه .
ولكن السؤال الذي تبادر إلى ذهني مباشرة هو: ماذا لو لم يصرّ غاندي على انشاء دولة مدنية ذات مؤسسات قائمة على المواطنة ؟! أو ماذا لو سمح بدلا من ذلك بإقامة دولة على أساس ديني كباكستان جارتها المنشقة عنها ، ومنح المتحمسين من أتباع الديانة الهندوسة – والذي يشكل نسبة معتنيقيها أكثر من 80% من السكان – الفرصة لإنشائها ؟!
وفي اعتقادي أنه لو تم ذلك لكنا شهوداً على أكبر عملية اضطهاد في التاريخ البشري، نتوسل العالم لجمع التبرعات، والهيئات الغذائية لإيصال المساعدات بشكل عاجل لأكثر من مئتي مليون مسلم يعيشون هناك .
وأقرب مثال حي على عظمة ماقام به المهاتما هي جارة الهند وخصمها اللدود دولة باكستان ، والتي للأسف لايختلف وضعها الحالي كثيراً عن أوضاع بلادنا العربية ، فالنزاع الطائفي والمذهبي بلغ مدى يهدد سلمها وأمنها القومي باستمرار، وحكومتها عاجزة تماماً عن السيطرة على أوضاعها ، ونسب الأمية العالية هناك جعلها حاضنة مهيئة ومفضّلة لاستيعاب كافة أنواع الإرهاب .
تم تصنيف الهند كتاسع اقوى اقتصاد في العالم مطلع العام الماضي، وتعتبر في الوقت الراهن قِبلة تشدّ شركات التقنية ومعاهد أبحاث الفضاء إليها الرحال
في الـ30من يناير 1948 اغتيل الماهاتما غاندي على يد أحد أفراد جماعة دينية هندوسية متعصبة لم يرق لها أفكار غاندي ، ولم تستطع أن تتكيّف مع ماكان يصدح به من تعايش وتسامح مع أقليات دينية كالمسلمين تحديداً .
مات الأب الروحي للهند (بابو) ، مات ذلك الجسد النحيل عن عمر يناهز الـ78عام ، لكن روحه العظيمة لم تمت ومثله العليا التي كان ينادي بها لازالت باقية وتتمدد عبر الزمن، تم تحديد الثاني من أكتوبر والذي يمثّل عيد ميلاده كيوم عالمي للاعنف.
“يجب أن لا تفقدوا الأمل في الإنسانية إن الإنسانية محيط وإذا ماكانت بضع قطرات من المحيط قذرة فلا يصبح المحيط بأكمله قذراً” المهاتما غاندي