يطرح الكثير من المتابعين والمراقبين أسئلة حول دور حجم التمثيل السياسي للجالية العربية والمسلمة في فرنسا، وذلك مع اقتراب موعد الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستجرى في أبريل/نيسان القادم، لتحدد اسم الرئيس الحادي عشر للجمهورية الفرنسية.
هذه التساؤلات تقودنا للسؤال حول حجم هذه الجالية في فرنسا، وهنا، يجب ذكر أن السلطات الفرنسية تمتنع عن تقديم إحصاءات رسمية ودقيقة للعدد الحقيقي للجالية العربية والمسلمة في فرنسا.
لكن وبحسب تقديرات صحيفة لوموند ومؤسسة ايبسوس موري سنة 2011، يعتبر الإسلام الدين الثاني في فرنسا، حيث يتراوح نسبة المسلمين بين 3% وبين 5-8%، حيث تشير أغلب التقديرات إلى أن عدد المسلمين في فرنسا يترواح بين 5 إلى 6 ملايين جلهم من أصول عربية وأفريقية.
يمنع قانون الإعلام والحريات تعداد المواطنين حسب انتمائهم العرقي أو الديني أو الفلسفي، فطبيعة هذه الأرقام لا تتجاوز كونها استقراءات علماء الاجتماع واستطلاعات مختصّة للرأي
وبحسب هذه الدراسات فإن المسلمين الفرنسيين أكثر التزامًا من الناحية الدينية، وتندر الجريمة في أوساطهم، فيما أكدت الإحصائية أن فرنسا تحوي على 2300 مسجد. وتقول توقعات الباحثين بأن المسلمين سيشكلون ربع سكان فرنسا بحلول عام 2025.
وهذه الأرقام كما تحدثنا ليست رسمية أو حكومية، فقانون الإعلام والحريات (Informatique et libertés) يمنع تعداد المواطنين حسب انتمائهم العرقي أو الديني أو الفلسفي، فطبيعة هذه الأرقام لا تتجاوز كونها استقراءات علماء الاجتماع واستطلاعات مختصّة للرأي.
هل هناك عزوف عن المشاركة..ما أسبابه؟
وبالعودة إلى التمثيل السياسي هذه الجالية في فرنسا، يظهر إلى الواجهة ما عرف بالتباين الكبير بين عزوف العرب والمسلمين بشكل عام عن المشاركة الفعلية في المناسبات الانتخابية الفرنسية (سواء أكانت رئاسية أم برلمانية أم بلدية)، وشكواهم الدائمة من تضييق النظام السياسي بقوانينه وتشريعاته التي لا تمنحهم حقوقهم كبقية مكونات المجتمع الفرنسي.
حيث يقول باحثون إن الجالية العربية، وخصيصًا تلك القادمة من الجزائر وتونس والمغرب، لا تشارك في المناسبات الانتخابية بشكل يعكس حجمها الديمغرافي والتاريخي تمثيلاً وانتخابًا. وهذا العزوف يعود إلى عوامل كثيرة يتعلق بعضها بالجالية نفسها أو بالبلد الأم أو ببلد الإقامة.
مشاركة المسلمين السياسية بفرنسا بشكل عام -سواء تمثلت في الترشح أو الانتخاب- محكومة بأصداء البلد الأم
وحول ذلك، يقول الكاتب والباحث التونسي محمد هنيد، إن الجالية العربية والمسلمة -لاسيما في موجات الهجرة الأولى التي عرفتها فرنسا بداية النصف الثاني من القرن العشرين- كانت تتكون أساسًا من اليد العاملة غير المتعلمة، التي عملت في حواضر البناء وأنفاق المترو وشركات الصناعات الثقيلة، وغيرها من الوظائف التي يعزف عنها المواطن الفرنسي عادة.
أي أن الجيل الأول من المهاجرين لم يكن جيلا متعلمًا بشكل عام، ولم يكن بذلك مستعدًا لاستيعاب نمط الحياة السياسية والثقافية بسبب طبيعة العمل الشاق الذي كان ينهض به، والذي لا يزال الكثير من المهاجرين العرب الجدد ينهضون به خاصة من غير الحاصلين على وثائق الإقامة.
الوضع الاجتماعي والاقتصادي للجاليات المهاجرة لا يوفر الإطار القادر على تشجيع المهاجرين من أصول عربية مسلمة على المشاركة بكثافة في الحياة السياسية الفرنسية
ويؤكد هنيد، أن غياب الثقافة السياسية والوعي المدني -اللذين يفرضان الالتزام بالمشاركة في صياغة المحيط الاجتماعي والسياسي للفرد والمجموعة- كانا عائقا أمام الموجة الأولى للمهاجرين العرب والمسلمين، بشكل منعهم من التأثير في هذا المحيط بل والحضور فيه. أما العامل المتعلق بالبلد الأم -وإن كان لا ينفصل تماما عن السبب الأول- فإنه يتمثل أساسًا في الارتباط الوثيق بين المهاجر وبلده الأصلي عبر أشكال مختلفة.
ويؤكد باحثون، أن مشاركة المسلمين السياسية بفرنسا بشكل عام -سواء تمثلت في الترشح أو الانتخاب- محكومة بأصداء البلد الأم، وليس أدل على ذلك من انتشار العزوف عن المشاركة في كل أشكالها سواء باستحضارٍ لا واعٍ للمشهد السياسي بالبلد الأم، حيث تكون الانتخابات محسومة سلفًا، أو خوفًا من التورط في شبهات النشاط الحزبي التي قد تعود عليه بالمتاعب حال عودته إلى أرض الوطن.
إضافة لذلك، فإن الوضع الاجتماعي والاقتصادي للجاليات المهاجرة لا يوفر الإطار القادر على تشجيع المهاجرين من أصول عربية مسلمة على المشاركة بكثافة في الحياة السياسية الفرنسية.
يعاني الفرنسيون المسلمون ومن ذوي الأصول العربية سياسة التمييز الاجتماعي في السكن والتعليم وفرص العمل
إذ يعيش المهاجرون عامة في أحياء شعبية تتكدس فيها العائلات الفقيرة والمتوسطة الدخل، فيما يسمى “الغيتو” المغلق والمخصص لطبقة اجتماعية بعينها، مما يمنعهم من الاختلاط الحقيقي بالآخرين ويساهم بشكل كبير في تغييبهم عن المشهد السياسي الفرنسي.
حيث يعاني الفرنسيون المسلمون ومن ذوي الأصول العربية سياسة التمييز الاجتماعي في السكن والتعليم وفرص العمل التي يعاني منها المهاجرون عامة وهم بشكل خاص، حيث يتعمق هذا الإحساس بعدم الانتماء، وهو يظهر في العزوف الكلي عن مجمل أشكال المشاركة سياسية كانت أو ثقافية أو اجتماعية.
إذا، ما حجم الكتلة الانتخابية المتوقعة للفرنسيين من أصول عربية ومسلمة؟
يقدر مراقبون أن الكتلة الانتخابية العربية الإسلامية الموثوق منها لا تتجاوز مليونَيْ ناخب وربما أكثر بقليل، صوّت منها لصالح الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في انتخابات الدور الأول من الانتخابات الرئاسية في 2012 حوالي 55.5% من المصوتين من ذوي الأصول العربية، وصوّت حوالي 7% لصالح المرشح نيكولا ساركوزي، بينما عزفت البقية عن التصويت، وفقًا لتقديرات مستقاة من صناديق الاقتراع تناقلتها وسائل الإعلام عقب الانتخابات آنذاك.
وبحسب محللين وباحثين، فإن الكتلة الانتخابية للصوت العربي المسلم تتسم بأنها غير منسجمة التوجه، وضعيفة التكوين سياسيًا في ضوء غياب نخبة سياسية عربية إسلامية فرنسية توجه هذه النخبة وتنير لها الطريق؛ كما حدث في واقعة تصويت هذه الكتلة بأغلبية لصالح الرئيس جاك شيراك في انتخابات 2002، التي فاز فيها بأغلبية ساحقة بنسبة 82.21%، في ظل توحد المجتمع الفرنسي وفي قلبه هذه الكتلة خوفًا من خطاب اليمين المتطرف، الذي لم يحصل مرشحه جان ماري لوبان إلا على 17.79% من إجمالي المصوتين؛ في ردة فعل انتخابية تتسم بالانفعال ومحدودة التأثير في ما بعد الانتخابات.
يؤكد باحثون عرب على ضرورة الانتباه للتقصير بالوعي في الحياة السياسية الفرنسية لهذه الجاليات، وبكلفته الباهظة، أهمها الوعي بطبيعة التحديات التي يواجهها المهاجرون في فرنسا، والتي ستحدد حتما مستقبلهم ومستقبل أبنائهم
توقعات إعلامية فرنسية، أشارت مؤخرًا أن لا يستفيد اليمين والاشتراكيون من هذه الكتلة الناخبة المهمة (ذات الأصول العربية المسلمة) في الانتخابات الرئاسية المقبلة كما السابق. بل يمكن أن يتجه الجيل الثاني والثالث من الصوت العربي إلى الامتناع عن التصويت وتبني اختيارات راديكالية؛ بسبب الإحباط وصعود مدّ اليمين المتطرف والشعبوي بصفة عامة في انتخابات تشهد تقلبات سياسية استثنائية.
لكن مدير الأبحاث بالمركز الوطني للأبحاث العلمية” والخبير في الشؤون الإسلامية فرانسوا بورغات، توقع ألا يختلف المشهد عما جرى في انتخابات 2012 التي نال هولاند فيها ما بين 86% و93% من أصوات الفرنسيين العرب والمسلمين، وفقًا للتقديرات المستقاة من صناديق الاقتراع.
إلى ذلك، ينادي باحثون فرنسيون عديدون -من بينهم فابيان جوبارد وروني ليفي من “المركز الوطني للعلوم الاجتماعية” منذ عام 2009- بالانفتاح على الإحصاءات الاثنية والدينية، كما هو معمول به في كثير من الدول الأوروبية، كما أن المرشح لحزب “الجمهوريين” (يمين الوسط) فرانسوا فيون طالب صراحة بالسماح بإجراء إحصاءات على أساس العرق قبل عامين، حين تحدث عن الوافدين الجدد إلى فرنسا وقال: “يجب أن نعرف من نستقبل وما الذي يصير عليه هؤلاء وكيف يندمجون، ولهذا السبب؛ يجب إنجاز إحصاءات اثنية”.
ويؤكد باحثون عرب على ضرورة الانتباه للتقصير بالوعي في الحياة السياسية الفرنسية لهذه الجاليات، وبكلفته الباهظة، أهمها الوعي بطبيعة التحديات التي يواجهها المهاجرون في فرنسا، والتي ستحدد حتما مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. حيث من الممكن أن يشكل هذا الوعي نواة مركزية لتفعيل الإدراك وتحويله إجراء ميداني، تعبر من خلاله المجموعة العربية المسلمة بفرنسا عن مطالبها المستحقة، في فضاء يسمح بحرية العمل الحزبي ويشجع الممارسة السياسية، ويقطع مع أساليب القمع والتضييق التي اعتادت عليها هذه الجالية.