من مصر إلى تونس ومنها إلى الأردن والعراق والسودان ومن ثم إلى المغرب وبلدان أخرى تنتظر، تكاد جولات صندوق النقد الدولي لا تنتهي بين الدول العربية مسديًا النصيحة لحكوماتها بتعويم سعر صرف العملة المحلية وفرض ضرائب جديدة ورفع الأسعار والتخلي عن سياسة الدعم.
إذ سبق للصندوق حث المغرب للتوجه نحو سعر صرف مرن للدرهم من أجل دعم تنافسية الاقتصاد المحلي، وأكد نيكولا بلانشير رئيس البعثة الاستشارية للصندوق بالمغرب أن الصندوق سيواصل دعم المملكة في سعيها لتحقيق الانتقال لنظام صرف مرن.
المغرب نحو تعويم الدرهم
سيتم البدء بتعويم سعر صرف الدرهم المغربي بالتدريج ابتداءًا من النصف الثاني من العام الحالي 2017، بعد فترة قضتها مؤسسات الدولة وهي تعمل على تهيئة الأجواء المحلية لعملية تعويم سعر صرف الدرهم والدفاع عنها.
ففي المرحلة الأولى سيبقي البنك المركزي سيطرته على الدرهم بحيث يقوم بتحديد القيمة العليا والدنيا لسعر صرف الدرهم، وفي المرحلة الثانية التي تعقبها بأشهر والمتوقعه نهاية العام الحالي، سيتم الانتقال إلى التعويم الكامل ليخضع الدرهم لقانون العرض والطلب ولن يكون بإمكان المركزي تحديد سعر الصرف مجددًا.
بلغ معدل التضخم في المغرب في العام 2016 نحو 1.6%
لجأت الحكومة المغربية في الأعوام الماضية إلى صندوق النقد الدولي، وفتحت خط ائتمان معها بمليارات الدولارات لتحسين الأوضاع الاقتصادية والارتقاء بالقطاعات الإنتاجية علمًا أن الميزانية المغربية تعاني من عجز تجاري يقارب 16 مليار دولار.
اختلف المحللون بين متفائل ومتشائم من جدوى هذه الخطوة ومدى نجاحها في خدمة الاقتصاد الوطني، حيث رأت الحكومة أن الخطوة ضرورية لإصلاح سعر الصرف وتقول أنه سيكون بشكل تدريجي ومنظم، كما أن توقيت هذه الخطوة مناسبة بفضل نسبة التضخم التي تقدر بأقل من 2% وغياب شبه كلي للسوق السوداء، بالإضافة إلى توفر احتياطي ملائم من النقد الأجنبي يبلغ قرابة 25 مليار دولار، يكفي لشراء واردات البلاد من السلع والخدمات لمدة 7 أشهر، ومن المرتقب أن ترتفع إلى 7 أشهر و20 يومًا نهاية 2017، وفق البنك المركزي المغربي.
البنك المركزي المغربي: تعويم الدرهم خطوة مهمة لمواكبة انفتاح البلاد على الاقتصاد العالمي، وتحسين القدرة التنافسية للاقتصاد المغربي
يرى البنك المركزي أن هذه الخطوة مهمة لمواكبة انفتاح البلاد على الاقتصاد العالمي، وتحسين القدرة التنافسية للاقتصاد المغربي والمساهمة في تعزيزها وكذلك تخفيف الاختلالات والصدمات الخارجية، ومواكبة تطوير القطاع المالي، خصوصًا الدفع بمكانة المركز المالي للدار البيضاء، فضلًا عن الحد من الضغوط على احتياطات النقد وتجنب أزمات الصرف.
شبح التجربة المصرية
لا يمكن المقارنة بين الاقتصاد المغربي والاقتصاد المصري وقياس أي شيء تقوم به مصر على أي بلد آخر، فلكل بلد ظروفه الخاصة به فضلًا عن الأرقام الاقتصادية. على أن الاختلاف الأبرز بينهما هو الاستقرار السياسي، فالمغرب بلد مستقر سياسيًا على عكس مصر التي لا تتمتع منذ الانقلاب العسكري باستقرار سياسي والذي أثر بشكل كبير على الاقتصاد الوطني هناك.
بالنسبة لصندوق النقد الدولي فسيعمل بنفس الشروط التي فرضها على مصر في المغرب، لإنه يحاكي بهذا ايديولوجيته الاقتصادية التي تعتمد على السياسات الليبرالية الاقتصادية المحضة، لذلك من هذا الجانب يمكن القياس لإن الشروط نفسها والإملاءات نفسها.
ومن منطلق سياسة الصندوق وأفكاره الاقتصادية يرفض العديد من الاقتصاديين الرضوخ لإملاءاته واتباع سياساته، بذريعة أن البلد ومؤسساتها غير ملزمة بهذا مع وجود بدائل أخرى يمكن تطبيقها، ويرون أن صندوق النقد الدولي طرح هذا الموضوع على المغرب أكثر من مرة في الماضي، ويتعامل مع الآخر حسب ميزان القوة، “حين يحس بأنه الأقوى يدفع بقوة نحو فرض توصياته”.
قرار الحكومة بقبول توصيات صندوق النقد، يدخل الاقتصاد المغربي في دوامة الاقتصاد الدولي
لذلك فإن من يتخوف من هذه الخطوة ومن تكرار التجربة المصرية، يرى موضوع التعويم سواء في المغرب أو بلد آخر من ناحية فكرية، فالاقتصاد المغربي فيه سياسات ضابطة للسوق بيد الحكومة بفضلها حافظت الأسعار على استقرار معدل التضخم عند نسبة أقل من 2% وحافظت على القوة الشرائية للعملة، وكل السياسات المالية نابعة من مصلحة وطنية محضة لتخدم المواطن ولا علاقة لها بأي مؤسسة دولية، بينما عندما قررت الحكومة الذهاب مع توصيات صندوق النقد، هي ضمنيًا أدخلت الاقتصاد المغربي في دوامة الاقتصاد الدولي الذي يعاني من أزمات ومشاكل قد تنعكس على الاقتصاد المغربي وتعرضه لصدمات هو في غنى عنها.
ويرى مراقبون أنه كان الأجدى بالحكومة عوض التوجه نحو صندوق النقد، إصلاح الهيكلية الاقتصادية بتوجيه الأموال نحو الزراعة والصناعة بشكل أكبر وتحرير السياسات الاستثمارية لتشجيع المستثمرين للقدوم والاستثمار في المغرب، فبهذا تتمكن من رفع معدلات النمو الاقتصادي بدون أن تعرض القوة الشرائية للدرهم لأي خسارة، وإن امتلاك احتياطي لا يكفي لـ7 أشهر لا يعني أن البلد بوضع قوي يسمح لها لخوض مغامرة باتباع سياسات ليبرالية قد لا ترحم الاقتصاد والمواطن.
يبلغ احتياطي المغرب من النقد الأجنبي 25 مليار دولار
في حين يرى آخرون أن الخطوة قد تكون مجدية فعلًا، بل أصبحت “لا مفر منها” بالنظر إلى التزامات المغرب مع صندوق النقد الدولي، ويؤكدون أن إجراء تعويم العملة مهم للاقتصاد المغربي شريطة أن يواكب العملية إجراءات أخرى منها الشفافية وضمان المنافسة وتوفير قضاء عادل ونزيه.
واستغرب خبراء من اتخاذ مثل هذا القرار في مرحلة حكومة تصريف الأعمال في انتظار تشكيل حكومة جديدة، ورأوا أن هذه المرحلة غير مناسبة للقيام بهكذا خطوة إذ قد تؤدي إلى الإضرار بسعر صرف الدرهم في سوق العملات ويفاقم عجز الميزان التجاري، وأن يفلت معدل التضخم عن السيطرة.
من حيث الأرقام هناك فارق كبير بين مصر والمغرب فمعدل التضخم في المغرب في العام 2016 بلغ نحو 1.6% وتوقع البنك المركزي أواخر العام الماضي أن يتراجع إلى 1.2% في العام 2017. ولكن هل يمكن أن تكون هذه النسبة حقيقية فعلا بعد تعويم الدرهم! خصوصًا وأن المغرب يستورد أكثر مما يصدر!.
محافظ البنك المركزي المغربي عبد الرفيع الجواهري
في ظل الاستراتيجية التي سيتبعها المركزي بالتعويم المتدرج؛ قد يخفف هذا من الصدمة ويسمح للمركزي بمساحة وهامش مراوحة يمكنه من التصدي لأي هجمة تضخمية، وربما تعتبر هذه الفترة اختبار للمركزي والحكومة لقياس مدى قدرة الحكومة على التحمل في ظل سياسة الصرف الجديدة.
إجراء تعويم العملة مهم للاقتصاد المغربي شريطة أن يواكب العملية إجراءات أخرى منها الشفافية وضمان المنافسة وتوفير قضاء عادل ونزيه.
بلغ معدل التضخم في مصر في سبتمبر/أيلول العام الماضي -أي قبل عملية تعويم الجنيه- نحو 14.6%، وصل بعد تعويم الجنيه إلى أكثر من 30% ليكون أعلى معدل تضخم منذ 30 عامًا، رفع فيها أسعار الغذاء بنسبة عالية لامست الـ50%، والسبب يعود إلى صدمة التعويم الكامل للعملة بالإضافة إلى وجود سوق سوداء كبيرة فضلا عن عدم الاستقرار العام في المناخ الاستثماري في مصر وغياب مولدات العملة الأجنبية عن العمل وأبرزها السياحة.
كما كان سعر صرف الجنيه قبل التعويم عند 8.90 جنيه مقابل الدولار في حين يقف الآن عند 19 جنيه للدولار، ويتوقع خبراء أن يقفز سعر صرف الدرهم المغربي بعد التعويم إلى 15 درهم للدولار مرتفعًا من 10 دراهم، والقول أن التعويم لن يؤدي إلى انخفاض في قيمة العملة وارتفاع في الأسعار ومعدل التضخم – كما ترى بعثة صندوق النقد – ضرب من الخيال، والمواطن المغربي سيتأثر بلا شك بهذه الخطوة، فمواد الطاقة ومعظم الحاجات يستوردها المغرب من الخارج وفي ظل آلية سعر الصرف الجديدة سينتقل العبء من الحكومة إلى جيب المواطن.
وعلى المواطن أن يتجهز لتلقي أي صدمات خارجية كارتفاع في أسعار الطاقة والأغذية العالمية، في حين كانت البلاد تعتمد منذ عقود على نظام سعر الصرف الثابت الذي خفف كثيرًا من وطأة تلك الصدمات الخارجية على المواطن. هذه الآثار لا تكون موجودة في اقتصاد يتمتع بقوة تصديرية كبيرة ويمتلك قطاع مصرفي قوي لأنه هو من يدير مخاطر الصرف، ولدى المركزي احتياطي نقدي مريح، وهذه المعطيات غير متوفرة في المغرب حتى يدرء من مخاطر التعويم.