في أبريل/نيسان ٢٠٠٨، طلبت جورجيا من حلف الناتو في قمة العاصمة الرومانية بوخارست الإنضمام للحلف بعد سلسلة من التوترات بين تبليسي وموسكو حول الإقليمين الإنفصاليين أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. قررت موسكو آنذاك رفع عقوباتها عن إقليم أبخازيا واتباع سياسة جديدة تجاه الإقليمين، في خطوة تمهد للاعتراف بإستقلالهما رسمياً.
تلقى إنضمام جورجيا لحلف الناتو قبولاً في القمة ولكن بضغوط من قبل ألمانيا وفرنسا، لم يقدم الحلف لجورجيا خطة العمل التي تمهد لدخولها
وفقاً لجودي ديمبسي، زميلة باحثة بمعهد كارنيغي للسلام الدولي، تلقى إنضمام جورجيا لحلف الناتو قبولاً في القمة ولكن بضغوط من قبل ألمانيا وفرنسا، لم يقدم الحلف لجورجيا خطة العمل التي تمهد لدخولها، إذ لم يرغب البلدين في الدخول في مغامرة مع روسيا على حدودها الجنوبية. بعد ثلاثة أشهر من قمة الناتو، اندلعت حرب بين جورجيا من جهة وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية المدعومتين من روسيا، لتلقي الأولى هزيمة ساحقة من موسكو.
في حين كان الرئيس الأمريكي جورج بوش داعماً لإنضمام جورجيا للحلف، كان خليفته باراك أوباما غير متحمس لإنضمام جورجيا زأوكرانيا بوصف إنضمامهما “غير واقعي“. على خلاف تحمس الأول وفتور الثاني، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب غير مستعد للدفاع حتى عن شركائه الأوروبيين في حلف الناتو، دع عنك حلفاء واشنطن الراغبين في الإنضمام للحلف. في نفس الوقت يقل أهتمام شركاء جورجيا الأوروبيين تجاه إقليم القوقاز وسط تمزق يشهده الاتحاد الأوروبي وسط صعود قوى اليمين المتطرف بنزعته الإنكفائية. لم تحتاج موسكو إلى الكثير من الوقت لتأويل تصريحات واشنطن ونوايا قوى اليمين الأوروبية ككارت أخضر تستطيع على أساسه التوسع من جديد في إقليم القوقاز.
أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمراً لوزارتي الخارجية والدفاع لصياغة اتفاقية تقضي تخضع جيش إقليم أوسيتيا الجنوبية لقيادة اركان جيش روسيا الاتحادية. كما نقلت وكالة رويترز، يترتب على مسودة الاتفاق التي أمر الرئيس بوتين بتحضيرها تبني جيش أوسيتيا الجنوبية لإجراءات تشغيل جديدة توافق عليها موسكو (أي عملية إعادة هيكلة للجيش).
وسينتقل أفراد جيش أوسيتيا الجنوبية، على أساس الاتفاقية الجديدة، للعمل كجنود روس في قاعدة روسيا في الإقليم الإنفصالي. سيقلص جيش الإقليم الإنفصالي عدد أفراده ليقصره على أفراده العاملين بالقاعدة العسكرية. ففيما كانت روسيا تتعامل رسميا مع الإقليم الإنفصالي كإقليم مستقل على الأقل، سيصبخ الإقليم رسميا جزءاً من روسيا الاتحادية تبعا لهذا التحرك.
كانت الحكومات الجورجية السابقة تسعى بدرجات مختلفة (وفقاً لتوجهاتها السياسية وعلاقاتها بموسكو) إلى توثيق علاقات تبليسي بقوى الناتو لموازنة النفوذ الروسي
فيما كانت الحكومات الجورجية السابقة تسعى بدرجات مختلفة (وفقاً لتوجهاتها السياسية وعلاقاتها بموسكو) إلى توثيق علاقات تبليسي بقوى الناتو لموازنة النفوذ الروسي، جلبت جزء من هذه المساعي المزيد من المطامع، كما ترى شريحة من الجورجيين. في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، في سياق خطبته في مدينة ريزا التركية التي تحدث فيها عن الإمبراطورية العثمانية، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: “حدودنا المادية مختلفة عن تلك الحدود التي توجد في قلوبنا”.
لتوضيح معنى ما قاله ضرب مثال قائلاً: “هل يمكن فصل ريزا عن باتومي؟”. لم تمر هذه العبارة بسلام في تبليسي التي وضعت علامات استفاهم حول مراد الرئيس التركي في خطبته. فيما تشكل تركيا، ثاني أكبر جيش في حلف الناتو، قوة إقليمية مهمة لجورجيا، يبدو أن المخيال العثماني للمسئولين الأتراك بات يقلق تبليسي أكثر.
تقع مدينة باتومي في جمهورية ادجارا الجورجية (تقع ضمن سيادة تبليسي). حكم العثمانيون الإقليم ولكنهم سلموا حكمه إلى روسيا القيصرية في عام ١٨٧٨. بعد أن استحوذ الأتراك على ادجارا مرة أخرى، سلموا الإقليم بعد فترة وجيزه ليستحوذ عليها السوفييت. ولكن ظل الإقليم، حتى بعد استقلال جورجيا عن موسكو، منطقة اهتمام ثقافي بالنسبة لأنقرة. تدفقت الإستثمارات التركية إلى إقليم ادجارا التي يشكل المسلمون ما يقارب من نصف تعداد سكانه منذ الألفية الجديدة.
يُشار إلى أن الإستثمارات التركية في الإقليم تشكل ما يقارب ٨٠ – ٩٠ في المائة من مجموع الإستثمارات الموجودة. ففيما تساهم هذه الإستثمارات في دعم إقليم ادجارا التي تعتمد على السياحة كمصدر دخل رئيسي، ستكون مساعي أنقرة لتعزيز نفوذها الثقافي/الديني في الإقليم مصدر لقلق صناع قرار تبليسي فيما يبدو.
لا تسهم هذه التطورات فقط في شعور جورجيا بإشتداد الضغط عليها من قبل فكي كماشة روسيا، إذ أن التوترات المتصاعدة بين الجارتين أذربيجان وأرمينيا، المجاورتين لجورجيا، تسهم في شعور جورجيا بحصار أكبر مع ازدياد قدرة روسيا على التحكم في جميع ملفات الإقليم. إذ جددت حرباً محدودة اندلعت بين باكو ويريفان في أبريل/نيسان الماضي الرغبة الروسية في حل نزاع نجورنو – قره باغ الذي بدأ في بداية تسعينيات القرن الماضي بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي. تمثلت الرغبة الروسية في حل الصراع في خطة مشهورة بأسم “خطة لافروف” (نسبة إلى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف).
الخطة ايجازاً بإنسحاب أرمينيا من بعض الأقاليم المحيطة بمنطقة الصراع لأذربيجان في مقابل نشر قوات حفظ سلام وتأجيل الاستفتاء على المنطقة المتنازع عليها لأجل غير مسمى
تقضي الخطة ايجازاً بإنسحاب أرمينيا من بعض الأقاليم المحيطة بمنطقة الصراع لأذربيجان في مقابل نشر قوات حفظ سلام وتأجيل الاستفتاء على المنطقة المتنازع عليها لأجل غير مسمى. يرى معهد ستراتفور الأمريكي، في تقرير نُشر في بداية مارس/آذار، أن هذا الحل لا يرضي أرمينيا ولكن قد تسمح موسكو بحرب تثيرها أذربيجان كي تصل إلى تسوية. وقد تضغط على يريفان من خلال نفوذها الاقتصادي ونفوذها في الدوائر السياسية للتوصل إلى حل.
سيناريو الحرب ليس مستبعد إذ يشير تقرير لمجلس العلاقات الخارجية (الأمريكي) إلى إحتمالية إندلاع حرب بين باكو ويريفان خلال الاثنتي عشر شهر القادمين. إحدى نتائج سيناريو خطة لافروف، إذا جاءت بعد حرب محدودة بين باكو ويريفان، ستكون تقارب أكبر بين أذربيجان (حليفة تركيا والغرب) وبين روسيا. وبالنظر إلى حالة التقارب غير المسبوقة بين تركيا وروسيا (في سياق التعاون في شمال سوريا وزيادة توترات أنقرة مع الاتحاد الأوروبي)، ستكون جورجيا في وضع أصعب سيضطرها للخضوع أكثر لموسكو.
ما الخطوة المقبلة لروسيا في جورجيا في حال تحقق هذا السيناريو؟ جاءت خطوة موسكو الأخيرة لدمج جيش أوسيتيا الجنوبية بعد شهر من تصريح وزير الخارجية الروسي في فبراير/شباط من العام الجاري يقول فيه “نحن سعداء بأن العلاقة بدأت تعود لطبيعتها، على الأقل تشهد التجارة نمواً”.
فيما تعد روسيا للتوسع بصورة أكبر في شرق أوروبا، ولا سيما في منطقة البلطيق وأوكرانيا، تحاول موسكو طوي ملفات القوقاز العالقة لغلق الباب في وجه أي دور غربي في الإقليم.