وجهت لمحاميتين في تونس، يوم الجمعة 29 سبتمبر/أيلول، دعوة للتحقيق بتهم النشر في قضية منع فيها النشر، وهي قضية التآمر على أمن الدولة، والمحاميتان من أعلى الأصوات ضد الانقلاب وأشدهم دفاعًا عن المعتقلين في القضية.
في الأثناء شرع المعتقل جوهر بن مبارك الناشط في جبهة الخلاص في إضراب جوع وحشي داخل المعتقل والتحق به راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة ورئيس البرلمان الشرعي.
الخبران يتكاملان لجهة تبيان الحالة السائدة في تونس، فمنع النشر والمحاسبة على انتهاكه كشف ضيق صدر الانقلاب وأجهزته بأصوات المعارضة وهو يوالي عمليات القمع والخنق لكل صوت ينشز، بينما يكشف لنا خبر إضراب الجوع وصول المعارضة إلى طريق مسدود مع الانقلاب ودخولها في معركة الأمعاء الخاوية وهي الطريقة الانتحارية المتبقية للرفض.
الانقلاب يمهد لمرحلة رئاسية ثانية
مؤشرات كثيرة تتوالى على شروع المنقلب في التحضير لمرحلة رئاسية ثانية، فقد والى الظهور العام وتحدث في هموم المواطنين، مبقيًا دومًا على عنصر التفسير الوحيد الذي يستعمله وهو المؤامرة على نظامه.
وقد استعرض سلامته الجسدية بمسيرة طويلة فاقت العشرة كيلومترات على قدميه وسط حراسه، ليدحض إشاعات كثيرة عن حالته الصحية، ويرسل رسائل للخارج الذي قد يفكر في استعمال ملفه الصحي ضد بقائه، إنه يقول “لا وجود لملف صحي وأنا بخير وقادر على البقاء والقيادة”.
هل لدى المعارضة خطة غير الأمعاء الخاوية؟ نرجح أنه لا توجد خطة، فهذا الصمت ليس تكتيكًا نضاليًا، بل أقرب إلى الاستسلام والتسليم للمنقلب
ونراه قد اتخذ خطوات جديدة في طريق بقائه، إذ ذهب وزير خارجيته ليعقد صفقة استيراد قمح من روسيا وقد عزّ القمح من مصادر أخرى، وهي خطوة جديدة في تاريخ الدبلوماسية التونسية، فعلاقة الدولة التونسية بروسيا الآن وبالاتحاد السوفيتي سابقًا كانت دومًا محسوبة بدقة وراعت فيها تونس أولًا الإبقاء على علاقاتها قوية مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة.
لذلك فإن هذه الخطوة تعتبر تحديًا لتلك الاتفاقات أو الأعراف غير المكتوبة التي صنفت تونس منذ استقلالها ضمن المعسكر الأمريكي، وحتى اللحظة لا يمكننا توقع رد الفعل الأمريكي على ما يمكن أن يكون تحولًا نحو المعسكر الشرقي.
لكننا نقرأ الخطوة كمناورة بقاء من أجل المدة الثانية عبر البحث عن سند من خارج القوى التي منعت القروض عن الانقلاب وجففت مصادره، فكم ستعطي روسيا من القمح؟ وبكم؟ وهل يكون هبة أو صفقة مدفوعة الثمن؟ الإجابة ستحدد الكثير وتكشف بعض من مصير الانقلاب.
المعارضة الصامتة
دخول المعتقلين في إضراب الجوع بدا لنا حركة يائسة من المعارضة التي لم تعتقل بعد حتى لا نقول الحرة، فكل ما أحاط بالاعتقالات يشي بفراغ الملفات وقد مضت أكثر من سبعة شهور دون أن يستكمل تحقيق واحد مع معتقل واحد، وهو أمر لم يحدث حتى إبان مجزرة الإسلاميين في عهد بن علي.
ففي الشهور السبع صمت الشارع المعارض ودخل في سبات صيفي، وها هو يستعد لسبات شتوي ويكتفي بنشر صور المضربين والدعاء لهما دون تحرك إسناد حقيقي من الخارج.
كنا نتوقع أن الإعلان عن إضراب الجوع هو مقدمة تحريضية لتحريك الشارع بعنوان الإسناد وتطوير/ تصعيد التحركات لإرباك تقدم الانقلاب نحو فترة رئاسية ثانية، لكن يوشك الأسبوع الأول أن ينقضي ولم تبدر من جبهة الخلاص أي علامات على تنسيق تحركات في المركز أو في الجهات.
لن نمل من ترديد الفكرة الأشد وضوحًا من كل المعطيات وهي أن الروح الاستئصالية الفاشية في النخب التونسية هي التي جلبت الانقلاب وهي من تمهد
هل لدى المعارضة خطة غير الأمعاء الخاوية؟ نرجح أنه لا توجد خطة، فهذا الصمت ليس تكتيكًا نضاليًا، بل أقرب إلى الاستسلام والتسليم للمنقلب، وربما الاكتفاء بتلك الجملة المنسوبة لنجيب الشابي: “دعوه يسقط وحده”، وهي جملة ظهرت واعدة في زمن نطقها بالنظر إلى الصعوبات التي يواجهها الانقلاب، لكن صمود الانقلاب وتقدمه لمدة رئاسية ثانية بين لنا أن المشاكل لم تعقه وأنه يصمد ويستمر بقطع النظر عن المعاناة اليومية التي يلقاها الناس في تدبر معاشهم، إذ يبدو غير مهتم بها رغم الظهور الإعلامي.
ماذا ستفعل المعارضة عندما يصل المضربان إلى آخر درجات الاحتمال (لم يتضامن معهما معتقلون آخرون حتى لحظة الكتابة)، فلا يغيب عن الأذهان أن الغنوشي الثمانيني لا يمكنه الصوم أكثر من ثلاثة أيام بما يجعل دعمه رمزيًا وسيتكفل إعلام الانقلاب بالسخرية من تضامنه المحدود.
من أي زاوية نظرنا وجدنا الانقلاب يتقدم والمعارضة جامدة، وهو مؤشر على استمرار الحالة إلى أجل غير معلوم، وللتذكير نعني بالمعارضة جبهة الخلاص وحزب النهضة ومن سار في خطهما، أما البقية فنراها جزءًا من الانقلاب، وقد توقفت حتى عن إصدار البيانات من صالوناتها المكيفة.
مقتضيات المرحلة؟
لست في موضع يحدد لأي كان ما يفعله، لكنني أعاين اللحظة فأجد الانقلاب في طريق مفتوح وأجد أن المعارضة ليست في مستوى التحديات التي أعلنتها عند سقوط الديمقراطية.
لقد انفرط عقد لم يمكن نظم خرزاته قبل الانقلاب، ولن نمل من ترديد الفكرة الأشد وضوحًا من كل المعطيات وهي أن الروح الاستئصالية الفاشية في النخب التونسية هي التي جلبت الانقلاب وهي من تمهد لبقائه وأيضًا تعيق المعارضة على التجمع والعمل.
ونرى أن بقاء الانقلاب الآن يستنزف هذه الروح الاستئصالية لأنها هي الحاكم الفعلي وهي من تتحمل كلفة الضنك الذي يعانيه الناس، فنحن لم نعد تحت حكم النهضة (في الحقيقة لم نكن يومًا)، نحن تحت حكم اليسار الاستئصالي والقوميين المساند الفعلي للانقلاب، وهذه نتائج حكمهم وعلى من يعارض الانقلاب أن يسميهم بأسمائهم وأن يحملهم مسؤولية ما يجري وأن يحاسبهم بصندوق انتخابي لم نفقد أبدًا الأمل في عودته وإن كنا نؤجل الفرح باستعادته حتى تستنزف المرحلة من يحكم وتعريه أخلاقيًا وسياسيًا أمام الناس.
هل نساند إضراب الجوع؟ لن يخرج المعتقلون قبل أن يتمكن المنقلب من فترة رئاسية ثانية، فالذين شاهدوا محمد مرسي يموت في معتقله هم من يحكمون تونس الآن.