هل سمعت من قبل عن مهرجان “صح/خطأ” للأفلام الوثائقية؟ يقام المهرجان سنويا منذ ١٤ عام بكولومبيا بولاية ميسوري الأمريكية. فكرة المهرجان هي محاولة الوصول لمفهوم منطقي عن طبيعة الأفلام الوثائقية، معظم الناس يصنفون الأفلام الوثائقية على أنها أفلام تعليمية ولكن المهرجان يبحث عن الأفلام الوثائقية الأكثر عمقا. الأفلام التي ترصد مشاكل حقيقية وواقعية بشكل موضوعي دون فرض توجه معين على المشاهد، لا تقول له ما هو الصواب أو الخطأ ولكن فقط تضع له الضوء بشكل واضح على المشكلة.
كل فيلم يعرض بالمهرجان هو فيلم وثائقي لأحداث حدثت وتم رصدها والتأكد منها بالفعل، تحدث بنفس العالم الذي نعيش به ولكنها لم تقع أمام أعيننا مباشرة لدرجة قد تصل بنا لإنكارها وعدم تصديقها لأن الإنسان عادة ما يلجأ لإنكار ما لا يصدقه عقله حتى ولو كان حقيقي وموثق، العالم معقد جدًا أكثر مما يظن الكثيرون.
في مهرجان هذا العام تناولت الأفلام مواضيع مهمة جدا مثل العدالة، العنصرية واللاجئين والثراء الفاحش للشباب الخليجي!
يعتقد القائمون على المهرجان أنك ستدخل قاعة السينما لتشاهد فيلًما حقيقيًا غالبا ما سيجعلك تخرج كشخص ذو قناعات مختلفة. فالمهرجان يتحدى جمهوره بأفلام تجعلهم يفكرون بحقائق العالم الذي يعيشون به، أفلام المهرجان تدور حول الأمور المسكوت عنها، ولا يتبع المهرجان أسلوب التلقين وتوجيه الجماهير بل يسعى لتوسيع رقعة مصادرهم بحقيقة الأمور.
في مهرجان هذا العام تناولت الأفلام مواضيع مهمة جدا مثل العدالة، العنصرية واللاجئين والثراء الفاحش للشباب الخليجي! وقام جمهور المهرجان بشراء أكثر من ٥٠ ألف تذكرة مشاهدة حتى الآن هذا العام.
وهذه نبذات عن بعض أفلام المهرجان هذا العام:
ربما ستبكي عندما تشاهد إعلان الفيلم الذي لا يتجاوز الدقيقتين، الإعلان الذي يظهر مسؤول حكومي أوروبي يحاور مجموعة من الغير أوروبيين ومنهم ذوي البشرة السمراء ومنهم السيدة المسلمة المحجبة. هم يطالبونه باللجوء وهو يشرح لهم إنه غير مسؤول عن إنهم ولدوا ببلاد أخرى وليس ذنبًا على بلده أن تمنحهم حياة وعمل وحقوق، يشرح لهم إن الحياة ليست عادلة وإنهم قد حولوا البحر الأوروبي لقبور جماعية وهو مستاء منهم.
الفيلم الهولندي الذي حاز على إعجاب الكثير من النقاد لا ينتهي بإجابة أو نهاية سعيدة، هو فقط يعرض مشكلة اللاجئين وما يتعرضون له في التحقيقات الأوروبية معهم ويظهر حقيقة أن الرحمة والعدالة والقانون بين البشر هي أشياء معقدة وقاسية وصعبة جدا.
ربما تتعاطف مع اللاجئين وربما تتعاطف مع المسؤل وربما تتعاطف مع الجانبين، القرار قرار المشاهد.
يناقش الفيلم قضية القوة والسلطة والفساد في قسم شرطة ولاية أوكلاند الأمريكية بعد أن تحول الضباط إلى ما يشبه بالتشكيل العصابي بعدما غرتهم أدوات القوة والصلاحيات التي أعطيت لهم. هل تضمن ألا تحولك القوة إن امتلكتها من إنسان مفترض أن يكون صالح إلى إنسان فاسد؟
وهل من الممكن أن تستعيد ثقة المواطنين بك مرة ثانية؟ يرصد الفيلم الفساد المتوغل الذي وصل إليه الضباط ويرصد عدم غفران المواطنين لهم وعدم نسيانهم لكل انتهاكاتهم ضدهم حتى بعد عامين من التأديب والإيقاف عن العمل والوضع تحت المراقبة.
فيلم “هل تتسائل من الذي أطلق الرصاص؟”
هذا الفيلم لا يعتبر فيلما وثائقيا بالشكل المألوف، فمخرج الفيلم “ترافيس ولكرسون” هو حفيد القاتل المقصود في عنوان الفيلم! هذا النوع من الأفلام الوثائقية يسمى الفيلم الوثائقي الحي، حيث يقوم راوي القصة- وهو هنا المخرج حفيد القاتل- بسرد القصة وورائه شاشات عرض يعرض عليها الأدلة على كلامه. يأتي المخرج من أسرة عنصرية وقام جده الأكبر بقتل رجل أسمر البشرة في عام ١٩٤٦.
يحكي “ويلكرسون” القصة وهو جالس على خشبة صالة العرض وهو يشعر بالخزى والعار والإنكسار مع عرض مجموعة من المقابلات مع شهود عيان وبعض الصور. الفيلم لن يعرض بشكل رسمي على أي جهة إلا على الموقع الشخصي للمخرج لمن يود مشاهدته أو مشاهدة أعماله السابقة.
“أولا” هو اسم فتاة تبلغ من العمر ١٤ عام، يحكي الفيلم قصة رعايتها لأسرتها المكونة من أخوها الأصغر منها بعام واحد المريض بالتوحد ووالدها مدمن الكحول بعد أن قامت والدتها بالهرب.
الفيلم أقرب للفيلم الروائي ربما لكثرة المشاهد التمثيلية، ولكنه يصور بطريقة واقعية معاناة الأسر التي يكون الكبار فيها غير مسؤولين ولا يقدرون حجم الخطر والعبء الذي يتحمله الصغار في محاولة تربية أنفسهم والاعتناء ببعضهم كإخوة.
سمع مخرج الأفلام الوثائقية الايطالي “يوري آنكاراني“ عن نقل مجموعة من الصقور والطيور الجارحة على متن طائرات خاصة تتنقل بين دول الخليج للمنافسة في بطولات بين الشباب الخليجي. وقرر متابعة القصة في فيلمه الذي تعدى السبعين دقيقة رصد كل فنون صيد الصقور بين شباب الخليج العربي والطاقم الطبي المرافق لكل صقر وخدم الصقور الذين يقومون بتهذيب ريش الصقور والاعتناء بمخالبهم وبرد مناقيرهم!
ولكنه على الجانب الآخر يرصد الحياة الأرستقراطية ذات الثراء الفاحش التي يعيش بها هؤلاء الشباب. رصد سياراتهم الحديثة جدًا وحيواناتهم الأليفة والمتوحشة التي وصلت للفهود والنمور التي يتباهون بها ويأخذونها معهم في جولات بالسيارات! الفيلم مجرد توثيق لحالة الشباب الخليجي وكمية الأموال التي يصرفونها على هواياتهم الغريبة والغير مألوفة لمعظم شباب العالم في نفس أعمارهم والذين غالبا ما يكونوا في مرحلة صراع لتكوين أنفسهم ماديًا وتوفير متطلباتهم الأساسية فقط.
يعتقد القائمون على المهرجان أنك ستدخل قاعة السينما لتشاهد فيلًما حقيقيًا غالبا ما سيجعلك تخرج كشخص ذو قناعات مختلفة
بدأ المهرجان في بداية شهر مارس من هذا العام وحتى الآن لا يزال يعرض الأفلام الوثائقية ذات الطابع المختلف ولا تزال التذاكر تباع ولا يزال التوثيق يغير في فكر الجماهير التي تبحث عن الحقيقة.
الإعلام عموما لم ولن يكون أبدا محايدًا، فلكل جهة أو منظمة معاييرها الخاصة، وأعتقد أن سر نجاح هذا المهرجان للدرجة التي جعلته مهرجان مربح ماديًا هو أن القائمين على المهرجان يعرضون الحقيقة فقط دون تحيز -على حد قولهم- مما يعطي المشاهد انطباع أنه أخيرًا له حق اختيار قراره!