تشهد دمشق اليوم إحدى أصعب أيامها منذ بداية العام ومنذ نحو عام تقريبًا بعدما أطلق الثوار في شرق دمشق معركة تهدف لربط الأحياء الدمشقية المحاصرة بحي جوبر المتصل بالغوطة الشرقية، لتهدد إحدى قلاع النظام في قلب دمشق؛ ملعب وساحة العباسيين.
حي جوبر في الواجهة
فاجأ الثوار النظام السوري في هذا الوقت بالذات بإطلاقهم معركة في جوبر، ومحاولة التقدم إلى شارع العباسيين وسط العاصمة دمشق ما قض مضجع النظام الذي كان صاحب المبادرة في الشهور الماضية سواء في القابون ومدن الغوطة الشرقية وكاد ينجح في إجبار السكان هناك على تسوية تفضي بخروج الأهالي والمسلحين من مناطقهم كما حصل في داريا وغيرها.
أهمية المعركة تكمن في الاقتراب أكثر من ساحة العباسيين في وسط دمشق ذو الأهمية الاستراتيجية العالية، لاحتوائها على مقر الاستخبارات الجوية وملعب العباسيين الذي حوله النظام السوري إلى ثكنة عسكرية منذ بداية الثورة، ولبسبب أهمية هذا المكان فإن المعركة على الثوار لن تكون يسيرة في هذا المربع المهم. أما في جوبر والتي تمكن ثوارها من الصمود خلال الأشهر والسنوات الماضية فيعد سر صمودهم هو اتباعهم لقتال الشوارع مع النظام من خلال أسلحة خفيفة بالإضافة إلى حفرهم أنفاق تغطي معظم مناطق سيطرتهم، مكنتهم من سهولة الحركة والصمود.
تمكنت قوات المعارضة التي أطلقت المعركة والمؤلفة من كل من فصيل فيلق الرحمن وحركة أحرار الشام الإسلامية وجيش الفسطاط، من السيطرة على قطاعات مهمة على محور جوير والقابون وربطهما ببعض، وهي خطوة مهمة جدًا على الصعيد السياسي والميداني أخلّت بالظروف التي كانت متوفرة للنظام والتي فرض فيها سياساته على المناطق المحاصرة وكادت أن تودي بسقوط العديد من الأحياء والمدن في مقدمتها القابون مرورًا بالغوطة الشرقية في دوما..إلخ.
الخريطة تبين مجريات المعركة في يوم الأخد 19 مارس/آذار
عنصر المفاجأة كان حاسمًا في هذه المعركة حيث تمكنت المعارضة منذ البداية من تفجير مفخختين استهدفت إحداهما غرفة عمليات النظام ما أسفر عن تدميرها ومقتل عدد كبير من الضباط والعناصر بداخلها، وضربت الثانية حاجز “سيرونيكس” في القابون، ما أسفر عن مقتل وجرح جميع عناصر الحاجز، ومن ثم اندلعت اشتباكات عنيفة أدت لسيطرة المعارضة على عدة مبان استراتيجية، تطل على أجزاء من حي العباسيين في دمشق وتمكنت بعد ساعات من الاشتباكات المتواصلة من ربط القابون بجوبر، وفك الحصار عن الأهالي في القابون، والسيطرة على 10 قطاعات في محوري القابون وكراجات العباسيين، وأسفرت المعركة الأولية عن قتل نحو 100 شخص من النظام وأسر 50 عنصرًا من قوات الأسد والميليشيات العراقية.
لف العملية تكتم شديد حول مجرياتها وأهدافها، كما ذكر الناشطون على جبهات المعركة، وانتشر أخبار بين السوريين أن الثوار سيتوجهون إلى قلب دمشق ويزحفون إلى ساحة العباسيين، ولكن تبين أن الهدف الرئيسي للمعركة كان قطع الطريق على الهجوم المتوقع الذي كان النظام السوري يعد له باتجاه الغوطة الشرقية، وفك الضغط على حيي تشرين والبرزة، ومحاولة وصل جوبر بالقابون، علمًا أن المسافة الفاصلة بين القابون وجوبر تعادل 5 كيلومترات تقريبًا يقع معظمها في البساتين.
تمكن الثوار من ربط القابون بجوبر، وفك الحصار عن الأهالي في القابون، والسيطرة على 10 قطاعات في محوري القابون وكراجات العباسيين
ترددت الكثير من الأحاديث حول تشابه هذه المعركة مع معركة فك الحصار عن حلب فسرعان ما كان الثوار هناك يستعيدون زمام المبادرة ويفتحون الطريق إلى حلب، كان النظام وحلفاءه الروس والإيرانيون يفرضون سيطرتهم على المنطقة من جديد من خلال كثافة القصف والنيران بالشكل الذي يؤدي إلى إيقاف عمليات اقتحام الثوار وتمترسهم للحفاظ على المناطق المحررة ولكن سرعان ما كانت كفة النظام ترجح ويستعيد السيطرة على المناطق المحررة.
يتحوف الكثير من السوريون من تكرار نفس السيناريو في هذه المعركة فبعد هجوم الثوار تعرضت المنطقة لقصف شديد أجبرت الثوار على إيقاف تقدمهم بسبب كثافة النيران، إذ تعرض حي جوبر والقابون خلال ساعات الصباح الأولى لـ20 غارة جوية جوية، وفي هذه الأثناء لا يزال فيلق الرحمن المشارك الرئيسي في المعركة يفضل عدم إعلان أي معلومات عن تفاصيل هذا العمل العسكري.
اتفق العديد من الخبراء أن ما حصل حتى الآن يعد “خطوة بطولية” في ظل الضغط الكبير الذي مارسه النظام على تلك المناطق خلال الأشهر الماضية، واستبعد مراقبون أن يكون هدف الهجوم هو التسلل إلى دمشق أو أن المعركة مسيرة من الخارج من تركيا أو قطر أو اي بلد آخر بسبب ظروف الملف السوري الأخيرة، فالمعركة تعد معركة وجودية للذين كانوا سيُقتلعون من أرضهم في إشارة إلى القابون، وأنه لا يجب رفع سقف التوقعات من هذه المعركة بالدخول إلى قلب دمشق حتى الآن على الأقل.
يعد ربط القابون بجوبر خطوة بطولية في ظل الضغط الكبير الذي مارسه النظام على تلك المناطق خلال الأشهر الماضية
حاول النظام السوري بعد تكبده خسائر في جبهة جوبر من إيهام السكان في دمشق أن الوضع يسير على ما يرام والإدعاء أن الحياة طبيعية بالرغم أن النظام أوقف دوام المدارس لهذا اليوم، وأغلق كلية الزارعة القريبة من جبهة المعركة، وفرض حظرًا على التجوال في العديد من الأحياء وشدد الإجراءات الأمنية في أخرى، وصدّر النظام خرائط وأخبار تفيد أن النظام تمكن من استعادة المناطق التي خسرها.
استثمار المعركة سياسيًا
طغت معركة دمشق على أي أخبار أخرى تتعلق بالملف السوري السياسية، أو حتى الخروقات الأخيرة للأجواء السورية من الطيران الإسرائيلي، ومن المقرر أن ينعقد جنيف 5 في 23 الشهر الجاري وفي حال استمرت المعركة خلال الأيام المقبلة فإن النظام السوري القابع في تلة المزة في قصر الشعب غربي دمشق، سيسمع أصوات الاشتباكات والقصف بينما وفده يفاوض في جنيف، وهذا سيسبب له توتر وارتباك لعله ظهر أوله عندما ألغى زيارة للمبعوث الدولي ديمستورا كانت مقررة إلى دمشق أمس الأحد.
بينما سيذهب وفد المعارضة السورية الذي أكد محمد علوش أن مسار المفاوضات مستمر ولا علاقة له بالتطورات الجارية في دمشق، حيث أكد علوش، أن اقتحام عدة فصائل من المعارضة، يوم أمس الأحد لأسوار دمشق، وسيطرتها على بعض المناطق الاستراتيجية بها، لا يعني أن كلمة النهاية قد كتبت في مسار الحل السياسي التفاوضي، أو أن الحسم العسكري قد صار خيارًا نهائيًا لدى المعارضة، وأضاف أنه في الأساس لا تزال المفاوضات حتى الآن خارج إطار البحث عن الحل الحقيقي والعادل، على كل حال فالمعارضة تولد لديها إدراك أن هذه المعركة تعد ورقة قوية بيده في المفاوضات السياسية القادمة.
مسار المفاوضات السياسية مستمر ولا علاقة له بالتطورات الجارية في دمشق
انتهاكات النظام المستمرة لأي حل سياسي عرقلت كل الاتفاقات السابقة، وآخرها وقف إطلاق النار في عموم سوريا المرعى من قبل روسيا وتركيا، وأكدت أن النظام ماض في سياسته العسكرية غير آبه بالجهود السياسية التي يبذلها المجتمع الدولي، في محاولة منه لإعادة إنتاج نفسه من جديد وإثبات الجميع أنه قادر على فرض السيطرة على كل المناطق الخارجة عن سيطرته.
وإن أراد النظام استثمار هذا الأمر في جنيف لصالحه فإن ما جرى هناك لا يقل أهمية عمّا جرى ويجري في أماكن أخرى في سوريا طوال السنوات الست الماضية، فعلى بعد كيلو مترات قليلة من جوبر لم يهدأ القصف في الغوطة الشرقية في محاولة لإخضاعهم لتسوية، وكانت تلك التسوية أن تمر في القابون لولا معركة جوبر، وفي الوعر بدأ النظام وبرعاية روسية بترحيل السكان من مناطقهم بعد مفاوضات طويلة خيروا فيها بين التهجير أو الموت بالقصف والبراميل، ولم تهدأ الجبهة في درعا وإدلب وحلب وحمص ومناطق أخرى.
من المقرر أن تصر المعارضة في جنيف 5 على التفاوض في السلال الأربعة المحددة وهي: الحكم والانتخابات والدستور والإرهاب، وعدم الخوض في أي شيء آخر سوى الانتقال السياسي للسلطة والقائم على تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات لايكون لبشار الأسد فيها أي دور أو وجود.
الثوار ذكروا النظام السوري وروسيا والعالم ومن في المفاوضات الدولية في جنيف وأستانا أن الثورة في عامها السادس مستمرة
وبينما لم يأتي ديمستروا بأي شيء جديد أثناء زيارته إلى وفد المعارضة في الرياض فيما يخص جدول الأعمال السياسية تتضاءل الآمال في تحقيق انفراج حقيقي في الجولة المقبلة من مفاوضات جنيف بين المعارضة السورية والنظام، في ظل الاختلاف الواضخ بين أولويات التفاوض بين النظام والمعارضة، وخصوصًا بعد اعتماد ديمستورا معادلة “لا اتفاق على شيء ما دام ليس هناك اتفاق على كل شيء” وحسب هذه المعادلة فإن المفاوضات تدور في حلقة مفرغة لا يمكن الخروج منها بسبب إصرار كل طرف على نقاطه.
قد لا يسيطر الثوار على دمشق في معركتهم التي أطلقوها، إلا أنهم ذكّروا النظام السوري وروسيا والمفاوضات في جنيف وأستانا أن الثورة في عامها السادس مستمرة وأنه سواءًا في المسار السياسي أو العسكري لا قبول ببشار الأسد وبنظامه، وإذا كان العالم لا يتحرك ضد عمليات التهجير في مناطق عديدة في سوريا فإن الثوار يتحركون ويقفون بوجه كل من يحاول اقتلاع جذورهم من أرضهم وأن الحرب جولات ولابد أن يأتي ذلك اليوم ويدخل فيه الثوار إلى دمشق محررين.