ترجمة وتحرير نون بوست
تشهد منطقة القرن الأفريقي جفافا هو الأسوأ في تاريخها. وقد انطلقت موجة الجفاف منذ سنة 2011. وبحسب أرقام الأمم المتحدة، فإن ثلاثة ملايين شخص مهددون بالجوع، نظرا لشح المياه، وانتشار الأمراض، مما دفع الكثيرين للفرار نحو مناطق أخرى، ولكن حتى في هذه المناطق فإن الأوضاع ليست أقل سوءً. صوماليلاند، أو جمهورية أرض الصومال، هي منطقة حكم ذاتي لا تحظى باعتراف دولي، لذلك يعد حجم المساعدات الإنسانية الخارجية محدودا للغاية ولا تصل للمنطقة إلى بشق الأنفس.
هنا يمكنك أن تشتم رائحة الجوع. في وسط هذه المناطق النائية تصفعك فجأة رائحة مخيفة، حيث تختفي رائحة البحر فضلا عن اللون الأخضر الذي كان يغطي المكان. في المقابل، أصبحت رائحة جيف الحيوانات الميتة تغمر الشوارع، حيث ينتشر الماعز والخرفان والحمير وحتى الجمال النافقة، علما وأن بعض هذه الجيف تبدو هزيلة جدا لدرجة أنها بالكاد تظهر فوق الأرض، فيما تبدو الأخرى منتفخة بسبب الغازات المحبوسة داخلها نتيجة التحلل.
دأبت أسمهان على هذه الرائحة الكريهة المنتشرة في أرجاء المكان. كانت هذه الراعية المتنقلة، على غرار أسلافها النوميديين، تمتلك في الماضي ثمانين رأس غنم وماعز. ولكن، خلال السنتين المنقضيتين، لم تهطل الأمطار في صوماليلاند إلا في بعض المناسبات. ونتيجة لذلك، تحول لون الشجيرات إلى الرمادي وتشققت الأرض. ومنذ ذلك الحين وحيوانات أسمهان تموت الواحدة تلو الأخرى، ولم تبق إلى خمس عنزات لتلبي حاجيات أسمهان أحمد وأفراد عائلاتها. وفي هذا الصدد، صرحت أسمهان، “لم أشهد في حياتي جفافا مماثلا”.
هنا يمكنك أن تشتم رائحة الجوع. في وسط هذه المناطق النائية تصفعك فجأة رائحة مخيفة، حيث تختفي رائحة البحر فضلا عن اللون الأخضر الذي كان يغطي المكان
تغير المناخ يؤثر بشكل كبير على سكان صوماليلاند
في الواقع، تُعرف صوماليلاند، التي انفصلت عن الصومال منذ بداية التسعينات، بدرجات الحرارة المرتفعة للغاية منذ الصباح الباكر. وفي الوقت ذاته، تشكو المنطقة من شح الأمطار، إذ أنه وحتى في السنوات الجيدة، لا تهطل الأمطار سوى مرتين فقط ولفترة قصيرة في شهر نيسان/أبريل وتشرين الأول/أكتوبر. وقد تضرر سكان صوماليلاند، البالغ عددهم أربعة ملايين، بشكل كبير من هذه الظاهرة المناخية، نظرا لأن حوالي ثلاثة أرباع القاطنين في المنطقة يعيشون من تربية المواشي. وفي الأثناء، حاول المتساكنون التأقلم مع هذا الوضع، والبحث عن مراعي جديدة، وجمع مياه الأمطار الشحيحة في أحواض مخصصة لهذه العملية.
خلافا لذلك، تعمقت الأزمة أكثر خاصة في ظل انحباس الأمطار، حيث أثر تغير المناخ على سكان هذه المنطقة أكثر من أي مكان آخر في العالم. بالإضافة إلى ذلك، على عكس جنوب السودان أو اليمن، فإن صوماليلاند لا تحظى بالمساعدات الإنسانية الدولية، مما زاد في تأزم الوضع في المنطقة. وعلى الرغم من أن المجتمع الدولي لا يعترف باستقلال هذا البلد، إلا أن سكانها نجحوا خلال الستة وعشرين سنة الماضية في تأسيس دولة ونظام حكم ناجع نسبيا. فضلا عن ذلك، تتميز المنطقة بالسلام الذي يخيم على أرجائها، الأمر الذي تفتقر له الصومال. وتبقى المعضلة الأساسية تتمحور حول مشاكل المناخ الذي لم يكافئ سكان صوماليلاند بقدر نجاحهم، بل أصبح يشكل تهديدا لحياتهم.
تُعرف صوماليلاند، التي انفصلت عن الصومال منذ بداية التسعينات، بدرجات الحرارة المرتفعة للغاية منذ الصباح الباكر
أسمهان وعائلتها يعيشون من صدقات القرويين
تمتاز أسمهان أحمد بالقوة، إذ تمتلك هذه المرأة البالغة من العمر 36 سنة صوتا جهوريا. ومنذ نعومة أظافرها، دأبت أسمهان على الذهاب صحبة الأغنام والماعز إلى الهضاب والسهول، باحثا عن المساحات الخضراء التي ينمو فيها العشب. في الحقيقة، تحب أسمهان التجوال، وتناول اللحم والحليب والزبدة التي تنتجها أغنامها. وفي السياق ذاته، أفادت أسمهان، أنه “في الماضي كنا نعتمد على أنفسنا لتوفير متطلبات عيشنا. ولكن، الآن نحن مضطرون للتسول حتى نحصل على المال والغذاء”.
وفي الأثناء، تجلس أسمهان متعبة قبالة إناء فارغ، وهي تضم رضيعها النائم، فيما تمر من حين إلى آخر إحدى العربات أمامها. قبل شهر من الآن، لم تعد أسمهان وزوجها قادران على تحمل مشقة الحياة أكثر والتعويل على مواردهم الشحيحة، خاصة وأن مواشيهم أصبحت غير قادرة على المشي، في حين كانت أسمهان حاملا بطفلها السادس. ونتيجة لذلك، اضطرت أسمهان وعائلتها إلى ترك المنزل، والانتقال إلى منزل جديد متنقل هو عبارة عن أربعة خيام مسيّجة بعصي خشبية، في قرية يوراوي المتواجدة في وسط صوماليلاند، أي أنهم أصبحوا يعيشون في الشارع.
باستثناء بعض العنزات، لم تعد تملك أسمهان شيئا. وبالتالي، توجب على أسمهان وعائلتها أن يعيشوا من الصدقات وما يعطف به عليهم القرويون. على العموم، لا تعتبر عائلة أسمهان الوحيدة التي فرت من براثن الجوع، إذ أن كثيرين يأتون كل يوم إلى القرية تاركين حياة الرعي والترحال. والجدير بالذكر أن هذه القرية كانت تضم حوالي 1300 عائلة في الماضي، قبل أن يتوافد عليها حوالي 500 عائلة في الأشهر القليلة الماضية بسبب الظروف المناخية والمجاعة المتفشية.
تعمقت الأزمة في ظل انحباس الأمطار، حيث أثر تغير المناخ على سكان هذه المنطقة أكثر من أي مكان آخر في العالم
المجاعة المتواصلة منذ 2011 عصفت بحياة مئات الآلاف
في شهر شباط/فبراير، قامت الأمم المتحدة بتصنيف المنطقة المحيطة بقرية يوراوي ضمن المناطق التي وصلت فيها حالة المجاعة إلى المستوى الثالث، حيث طغى اللون البرتقالي على المنطقة ضمن خرائط الأمم المتحدة، وهو ما يدل على أن الوضع أصبح يمثل أزمة حقيقية. في المقابل، يعد الوضع أكثر تأزما في منطقة شرق صوماليلاند التي يصعب الوصول إليها، إذ يطغى اللون الأحمر على المكان برمته، أي أنها بلغت المستوى الرابع من الخطورة وأصبحت تمثل حالة طارئة. وحسب ما ورد على لسان الأمم المتحدة، يواجه ثلاثة ملايين شخص في صوماليلاند خطر الموت جوعا. وفي الفترة الأخيرة، صدرت تقارير حكومية عن العاصمة مقديشو تفيد بتواتر حالات وفاة في صفوف المواطنين.
خلافا لذلك، نفى داوود حرسي، هذا الأمر، حيث أورد أنه “لا أحد توفي إلى حد الآن في منطقة يوراوي”. في الواقع، يعمل داوود حرسي ممرضا ويدير مشفى صغير في القرية، نظرا لعدم وجود طبيب في المنطقة. وأضاف حرسي، أنه “خلال الأسابيع الماضية، كنت شاهدا على العديد من الحالات التي أوشك فيها بعض الأطفال على الموت”. والجدير بالذكر أن جملة من الإحصائيات السنوية قد علقت على جدران المشفى، حيث يشير الممرضون باللون الأسود إلى عدد الأطفال الذين يستقبلهم المشفى وحالتهم الصحية.
وقد بينت هذه الإحصائيات أن حوالي 370 طفلا كانوا يعانون من سوء التغذية في سنة 2016. وخلال الشهرين الأولين من السنة الجارية، بلغ عدد الأطفال المصابين بسوء التغذية ما لا يقل عن 300 طفل. وفي هذا السياق، اقر حرسي، أن “الوضع الآن أشد سوءً مما كان عليه خلال سنة 2011. يعاني هؤلاء الأطفال الذين يأتون إلى مشفى داوود حرسي من سوء التغذية، فضلا عن أن الكثيرين منهم مصابون بالتهابات رئوية وأمراض جلدية كما أن البعض منهم يعاني من الإسهال”.
تواجه قرى صوماليلاند وضعية مأساوية للغاية، فعلى الرغم من أن السكان يحصلون على مساعدات يومية، إلا أنها شحيحة
أزمات أخرى تحظى بكل الاهتمام
في الحقيقة، تنتشر في هذه المنطقة العديد من الأمراض المرتبطة بنقص المياه، وغياب شروط النظافة وكثرة الغبار. ولعل أفضل دليل على ذلك، الوضع الصحي لأطفال أسمهان، حيث تضررت بشرتهم في حين ظهرت فوقها طبقة رمادية اللون. وفي هذا الإطار، أوضحت أسمهان، أنه “عندما أذهب إلى مشفى القرية حتى يخضع أطفالي للفحص، يخبروني أن سبب وراء ذلك يكمن في نقص الغذاء والماء الذي يعانون منه”.
دخلت أسمهان رفقة رضيعها إلى إحدى الخيمات، بينما خرجت من الخيمة الأخرى طفلتها الثانية، وهي ترتدي نعلا مطاطيا لا يناسب مقاس ساقيها الصغيرتين. ومن الملفت للنظر أن هذه الطفلة، البالغة من العمر سنة ونصف، لا ترتدي شيئا سوى قميص وردي اللون، في حين بقيت ساقاها عاريتان. وقد ظهرت بعض الحروق بارزة على ساقيها، حيث انسكب عليها شاي ساخن. ورغم الحالة الصحية السيئة التي تشكو منها هذه الطفلة، إلا أن أسمهان لا تملك أي دواء لمعالجة جروح ابنتها.
علاوة على ذلك، لا يمكن لأسمهان حتى توفير بعض المياه النظيفة لتطهير الجرح. ونتيجة لذلك، تكتفي أسمهان بمشاهدة طفلتها في صمت بينما تنتظر أن تلتئم جروح طفلتها من تلقاء نفسها وتشفى بشكل طبيعي، على الرغم من كثرة الغبار والأوساخ في هذا المكان. وفي الأثناء، كانت الفتاة الصغيرة تلعب في أرجاء المكان في حين تتعالى ضحكاتها هنا وهناك. ولكن، عندما تضطر هذه الطفلة البريئة لقضاء حاجتها ينتابها شعور أليم بالحرقة مما يدفعها للبكاء. وفي الوقت نفسه، يسارع والدها، وهو رجل يتسم باللطف والهدوء، لأخذها لخيمتها وإبعاد الذباب عن جراحها.
بينت الإحصائيات أن حوالي 370 طفلا كانوا يعانون من سوء التغذية في سنة 2016. وخلال الشهرين الأولين من السنة الجارية، بلغ عدد الأطفال المصابين بسوء التغذية ما لا يقل عن 300 طفل
مساعدات بسيطة وليست كافية
تواجه قرى صوماليلاند على غرار قرية يوراوي وضعية مأساوية للغاية، فعلى الرغم من أن السكان يحصلون على مساعدات يومية، إلا أنها شحيحة. فضلا عن ذلك، لا تصل مساعدات من خارج البلاد للمنطقة، مما يعمق الأزمة أكثر. خلافا لذلك، يقوم الأثرياء في المدن المزدهرة في صوماليلاند بجمع التبرعات وإرسال شاحنات محملة بالمياه والأرز والدقيق إلى هذه القرى. بيد أن هذه المساعدات ليست كافية، بالإضافة إلى أنها تستغرق وقتا طويلا حتى تصل لهذه القرى، علما وأن الوقت ليس في صالح هؤلاء السكان.
من جانب آخر، بادر بعض عمال الإغاثة المحترفين بالتدخل في هذه القرى، خاصة الجمعيات المحلية التي تهتم بتوزيع الماء والغذاء على المحتاجين، والتي تتلقى تمويلا من مانحين دوليين. في المقابل، لا تكفي هذه المساعدات لتلبية حاجيات كل المتساكنين. وفي هذا الصدد، أقر عبد الرزاق بشير، رئيس مؤسسة ضوء الشمعة التي تعد أكبر منظمة خيرية في البلاد، أنه “في الماضي كنا نحصل على مساعدات كبيرة وكافية من الخارج. ولكن اختلفت الأمور الآن، إذ أن شركائنا باتوا يتململون ويدعون قلة مواردهم المالية، نظرا لأن هناك أزمات أخرى في العالم استأثرت باهتمامهم”.
وفي شأن ذي صلة، تلقت هذه المؤسسة مساعدات من مؤسسة ألمانية لإغاثة الأطفال، تم تخصيصها لتلبية حاجيات عشرة قرى لمدة. ومن المفترض أن توظف هذه المساعدات لتوفير الدقيق والأرز والحليب والتور للأطفال، بالإضافة إلى المياه الصالحة للشرب علما وأنها أكثر شيء هم في حاجة ماسة له. في الوقت ذاته، استجابت مؤسسة ثانية لنداءات هذه المؤسسة ومدت يد العون لسكان هذه القرى، في حين أبى بقية الشركاء الدوليين المساعدة.
صوماليلاند ليست معترف بها كدولة، والمساعدات تأتي بصفة غير مباشر
ولسائل أن يسأل أين حكومة صوماليلاند من كل هذا؟ وفي هذا الصدد، صرحت وزيرة البيئة، بنداري شكري، “نحن نبذل قصارى جهدنا، ونقوم بكل ما في وسعنا”. في الواقع، أقبلت شكري، التي كانت ترتدي حجابا أبيض، للتو من اجتماع مع اللجنة الوطنية لمكافحة الجفاف. وقد كانت تخاطبنا في الساحة الأمامية لوزارتها في عاصمة صوماليلاند هرجيسا. وأردفت بنداري، أن “الحكومة أرسلت الكثير من الماء والغذاء إلى سكان هذه القرى، بقيمة جمليّة تبلغ 2 مليون دولار، منذ شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. في الحقيقة، يعد هذا المبلغ ضخما بالنسبة لإمكانيات هذا البلد”.
بادر بعض عمال الإغاثة المحترفين بالتدخل في هذه القرى، خاصة الجمعيات المحلية التي تهتم بتوزيع الماء والغذاء على المحتاجين، والتي تتلقى تمويلا من مانحين دوليين
والجدير بالذكر أن الحكومة بدورها تعاني من مشاكل مالية، إذ أن صوماليلاند ليس معترفا بها على أنها دولة مستقلة، ولذلك لا تتلقى مساعدات مباشرة من قبل الدول الأخرى والمنظمات الأجنبية، في حين لا تصل المساعدات والتمويلات إلا بصفة غير مباشرة عن طريق منظمات محلية على غرار منظمة ضوء الشمعة. وفي هذا الإطار، أفادت بنداري شكري أن “هذا الوضع صعب للغاية، خاصة وأن هذا البلد ليس له وجود في نظر العالم. وما يزيد الطين بلة، أن العالم أصبح يعول على المنظمات غير الحكومية للاضطلاع بالمهام الإنسانية”. ومن هذا المنطلق، دعت شكري المجتمع الدولي إلى ترك المسائل السياسية جانبا والاهتمام بمعاناة شعب صوماليلاند لأن الأمر يتعلق بإنقاذ حياة الناس هناك وليس بالحسابات السياسية.
لو كنت أملك المال لاشتريت لهم كراسات وأقلام
امتدت مخلفات حالة الجفاف لتشمل البلاد بأكملها، خاصة وأن رعاة الغنم المتنقلين يعتمدون على قطعان الماشية لتلبية مستلزمات العيش. وفي الوقت ذاته، تعتمد الحكومة على صادرات اللحوم للحصول على أموال الضرائب، علما وأن حوالي 75 بالمائة من موارد الدولة تعتمد على قطاع تربية الحيوانات في البلاد. في الوقت الراهن، يدرك السكان في صوماليلاند بأن عليهم تغيير النشاطات الاقتصادية في بلادهم، إذ أن الكثير من المواطنين في حالة تبعية لقطاع الأغنام، علما وأن هذا القطاع يعتبر هشا للغاية ويتأثر كثيرا بانحباس الأمطار.
وفي هذا الإطار، أورد عبد الرزاق بشير، أنه “لمواجهة المشاكل المتفشية في البلاد، نحن نحاول نشر التعليم في المنطقة”. ومن الملفت للنظر أن هذه المؤسسة الخيرية تسعى لإقناع الأطفال، الذين أقبل أهلهم من رعاة الأغنام للعيش في القرى، بالذهاب إلى المدارس، حتى يحصلوا على التعليم. في المقابل، لا يمكن أن يتحقق ذلك دون الحصول على دعم خارجي. فعلى سبيل المثال، تأمل أسمهان أحمد في أن ترسل أبناءها إلى المدرسة، ولكنها لا تملك المال اللازم لذلك، فهي لم تعد تملك شيء سوى خمس عنزات هزيلات وبعض المساعدات الخيرية. وفي هذا الصدد، قالت أسمهان، “لو كنت أملك المال لاشتريت لهم كراسات وأقلام”.
المصدر: زود دويتشه تسايتونغ