طلت علينا خلال الأيام الأخيرة الماضية أزمة صراع بين تركيا ودول أوروبية مارست من خلالها ازدواجية في التعامل مع بعض القضايا السياسية، كان على اثرها تعمد بعض الدول الأوروبية مثل، ألمانيا وهولندا والدنمارك …إلخ” إعاقة وإفشال بعض التجمعات الجماهيرية ضمن حملة الحكومة التركية بالتصويت على التعديلات الدستورية التي سوف يجري التصويت عليها 16 أبريل 2017 القادم.
تصاعدت وتيرة الصِدام السياسي بين الجانبين، إلى أن وصل إلى حد وصف بـ”الأزمة الدبلوماسية” واتجهت الأنظار إلى فرض بعض العقوبات من جانب واحد “تركيا” للرد على هذه الممارسات التي وصفت حينها بـ” الغير أخلاقية” الذي تعرض لها وزراء الدولة التركية من جانب رجالات السلطة الهولندية.
وفي هذا الخصوص ألقي الضوء من خلال هذه الأسطر بشيء من البسط للرد على بعض التساؤلات حول ارتفاع نبرة التصعيد التي وصلت إلى حداً بعيداً، ينذر بعواقب وخيمة على أطراف الأزمة، تاركة ورائها آثار سلبية على العلاقات بين الجانبين على المدى البعيد.
هل تصعيد تركيا محسوبا أم كان ردة فعل عشوائية؟!
أرى أن تركيا عمدت إلى هذا المستوى من التصعيد المتعمد، معتمدة على وجود “أوراق ضغط لديها” تخوّل لها رفع سقف التصعيد إلى هذا الحد، الذي وصلت فيه الأمور إلى درجة الاتهام بـ” الفاشية أو النازية” كما صرح بها الرئيس” أردوغان” في رده على ممارسات السلطات الهولندية مع وزير خارجيته “مولود جاويش أوغلو”، ومع وزيرة الأسرة التركية “فاطمة بتول قايا”، الأمر الذي ووصف “أردوغان” هولندا عقبها مباشرة بأن “هؤلاء لا يتقنون السياسة أو الدبلوماسية، إنهم جبناء إلى هذه الدرجة، هم بقايا النازية والفاشية ” الأمر الذي حدا ببعض الكُتّاب أن يدلوا تحليلاتهم وتوقعاتهم، حول مصير العلاقات التركية الأوروبية جراء هذه التصريحات.
تصاعدت وتيرة الصِدام السياسي بين الجانبين، إلى أن وصل إلى حد وصف بـ”الأزمة الدبلوماسية” واتجهت الأنظار إلى فرض بعض العقوبات من جانب واحد “تركيا” للرد على هذه الممارسات التي وصفت حينها بـ” الغير أخلاقية”
فالحدث بالفعل يحتاج لتعليق وتحليل واستنتاج وفك شفرات، هذا ما دعاني أن أتابع عن قرب، تصريحات الرئيس”أردوغان” والمسؤولين الأتراك وأتساءل:هل تصعيد تركيا محسوبا ام ردة فعل عشوائية؟!
وأجبت عن هذا التساؤل أني أعتقد أن تركيا تعي تماما مدى تأثير هذا التصعيد، ومدى خطورة “إيكال ” الاتهامات للجانب الأخر على العلاقات الثنائية بين الجانبين سواء أكان إيجابا أو سلباً، ومن ثم يعمل من خلالها مسؤولين في تركيا عن “إدارة الأزمات” إلى تحويلها إيجابية لصالح تركيا، لكسب نقاط سياسية جديدة، في بعض القضايا العالقة بين الجانبين.
تركيا كغيرها من الدول
تركيا كغيرها من الدول، لها حساباتها ومصالحها الخاصة، مع باقي الدول، كما لها أيضاً أوراقها الخاصة، والتي تخوّلها الوقوف أمام التيار المخالف لسياساتها، الداخلية والخارجية على السواء، في الوقت المناسب. وبعد هذه المقدمة سنتعرف من خلال هذه الأسطر القادمة على بعض أدوات الضغط التركية أمام دول الاتحاد عامة والأزمة الهولندية خاصة فيما يلي:
الجالية التركية وتأثيرها في الداخل الأوروبي
الجالية التركية في أوروبا التي تقدر بالملايين، تعتبر ورقة من أوراق الضغط لصالح تركيا، لتقوم الأخيرة باستثمارها للمشاركة في الحالة السياسية الداخلية هناك، وصنع القرار داخل تلك الدول، هذا ما بدا واضحا في تصريحات السيد” أردوغان” السابقة على الانتخابات الهولندية، بتهديد بعض الأحزاب بمنع الجالية التركية (الأغلبية منها) التصويت لبعض هذه الأحزاب وخاصة حزب اليمين المتطرف أو الحزب الحاكم.
أظن أن التصعيد جاء مع هولندا “خاصة” في هذا التوقيت، والذي أصفه بـ”الحرج” قبيل الإنتخابات البرلمانية التي جرت في هولندا الاربعاء 15 آذار/مارس الجاري، ليفضح وهم “ديمقراطية” حزب اليمين المتطرف”الحزب من أجل الحرية” الذي يتزعمه “خيرت فيلدرز” أمام شعب هولندا، وأيضا الديمقراطية المزعومة للحزب الحاكم “حزب النداء الديمقراطي المسيحي ” الذي يتزعمه رئيس الوزراء “مارك روته” والذي كان له تأثير ومردود على نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت هناك.
عمدت تركيا إلى هذا المستوى من التصعيد المتعمد، معتمدة على وجود “أوراق ضغط لديها” تخوّل لها رفع سقف التصعيد إلى هذا الحد، الذي وصلت فيه الأمور إلى درجة الاتهام بـ” الفاشية أو النازية” كما صرح بها الرئيس” أردوغان”
هذا وقد أكد على ذلك رئيس الوزراء التركي “بن علي يلدرم” عقب إعلان النتائج الانتخابية “باتت أوروبا تبني سياستها وفقًا لتركيا.. انظروا إلى نتائج الانتخابات البرلمانية في هولندا كيف أثرت تركيا عليها وساهمت بفرملة العنصرية في أوروبا”.
قضية الهجرة ورفع التأشيرة
قضية الهجرة ما هي إلا ورقة لعب “ثمينة” للدولة التركية، واستطاعت بذكاء أن تجعلها محل اعتبار بالنسبة للدول الأوروبية والنظر في أزمة اللاجئين، والشراكة الحقيقية في إنهاء الحرب الدائرة في سوريا، فتركيا تعلم جيداً، أن أوروبا مجتمعة تؤرقها الهجرة إليها، ولا تستطيع منعها ولكن كل ما عليها فعله هو اتخاذ بعض الوسائل للحد منها وفقط.
ومن خلال هذه الورقة وغيرها يطالب “أردوغان” الاتحاد الأوروبي بدعم اللاجئين وتحمل أعباء البعض منهم باستضافتهم في دول الاتحاد وأخيرا الموافقة على رفع التأشيرة عن رعايا بلاده لدخول دول الاتحاد كإجراء سابق على خطوة الموافقة على انضمام بلاده لدول الاتحاد الأوروبي، وأرى أن هذه الأخيرة ما هي إلا مجرد لعبة سياسية ومراوغة منه ليس إلا.
خشية التقارب مع روسيا ومنظمة شنغهاي
تعتبر روسيا والصين هما المعسكر المقابل لأوروبا ومن ثم المحافظة على تركيا داخل منظومة حلف شمال الأطلسي “الناتو” حتى ولو على مضضّ فبات هذا الأمر ملحاً وضرورياً في ظل تصارع القوى العظمى الحالي.
الجالية التركية في أوروبا التي تقدر بالملايين، تعتبر ورقة من أوراق الضغط لصالح تركيا، لتقوم الأخيرة باستثمارها للمشاركة في الحالة السياسية الداخلية هناك، وصنع القرار داخل تلك الدول
وعقب الأزمة التركية مع هولندا مباشرة، ألمحت الصين على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية “هوا تشون ينغ” يوم الاثنين 13 آذار/ مارس الجاري، في موجزها الصحفي، بالعاصمة بكين، إلى إمكانية تعزيز علاقاتها مع تركيا في إطار منظمة “شنغهاي” للتعاون، مشيرة إلى أن تركيا بلد يمتلك ثقلاً كبيرًا في منطقتها.
الاقتصاد والتجارة المتبادلة
أما عن الإقتصاد والتجارة، فإن دول أوروبا لها رصيد تجاري لا يُستهان به على تركيا، لذا اعتبرتها في الوقت الحالي ورقة قوى بيد “الجانب الغربي” ومن المعلوم أن التبادل التجاري بين الجانبين على ذُروته وأن حجم الاستثمارات الهولندية فقط وكما أكده خبراء الإقتصاد “وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 6.1 مليار دولار في العام 2015، صدرت تركيا إلى هولندا في ذلك العام سلع بما يقدر بنحو 3.2 مليار دولار واستوردت منها 2.9 مليار دولار”
واستبعد الكاتب “مناف قومان” المتخصص في الاقتصاد على موقع نون بوست فرض عقوبات اقتصادية بين البلدين وقال في مقاله:” لا تعد العلاقات الاقتصادية ركيزة أساسية بين البلدين ليصاب أي من اقتصادها بأزمة أو تأثير سلبي كبير في حال فرض عقوبات ضد بعضهما البعض كما حصل في الأزمة بين روسيا وتركيا، فالأشياء التي يعتمد كل منهما على الآخر تعد ثانوية ومتوفرة في بلدان أخرى وبأسعار مقاربة أو منافسة، ومن جهة أخرى فإن الميزان التجاري بين البلدين متوازن نوعًا ما ولا يشكل أداة ضغط على الآخر كما في حالة روسيا وتركيا – ولهذا السبب فإنه من المستبعد أن يقوم أي من تركيا أو هولندا بفرض عقوبات اقتصادية على الآخر.
قضية الهجرة ما هي إلا ورقة لعب “ثمينة” للدولة التركية، واستطاعت بذكاء أن تجعلها محل اعتبار بالنسبة للدول الأوروبية والنظر في أزمة اللاجئين
وأشار “مناف” إلى أن الاقتصاد التركي لا يتحمل أي عقوبات اقتصادية الآن بسبب الظروف التي يمر فيها، لذا سيكون فرض عقوبات اقتصادية على هولندا بمثابة عقوبة للاقتصاد التركي نفسه، وهو تأكيد آخر على إمكانية عدم اتخاذ هكذا إجراءات من قبل الإدارة التركية. فتركيا منذ فترة تبحث عن إيجاد روافد اقتصادية أخرى كبدائل، تتمثل في التنمية الداخلية، وتوسيع السوق الخارجي.
عضوية حلف شمال الأطلسي(الناتو)
هذه النقطة تمثل ورقة ضغط متبادلة للجانبين، فمن جانب كونها ورقة ضغط لتركيا، فإن الأخيرة استطاعت أن تحتل مكانة متقدمة داخل هذا الحلف (حلف شمال الأطلسي “الناتو” ) إذ تعتبر القوة العسكرية الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية في أقوى تحالف عسكري في العالم والإستغناء عنها وخسارتها كحليف استراتيجي في الوقت الحالي، مع تصاعد التوترات بين القوى العظمى، أظن أن له مردود “سلبي” على التحالف ككل في مواجهة روسيا والصين.
وأما كون”عضوية الحلف”ورقة ضغط لأوروبا فإن الحلف، لثقله العسكري، يمكن تركيا أيضاً من مواجهة الأخطار هي الأخرى، فالمصلحة بين الجانبين أصبحت متلازمة إلا إذا أوجد الآخر بديلا عن هذا التلازم، وكان في دوام هذا الاقتران والتلازم، مفسدة أكبر.
أدوات ضغط أخرى
وعلى مدى زمن ليس بالطويل من العلاقات التركية مع دول الاتحاد الأوروبي، استطاعت تركيا أن تخلق لنفسها تواجد بين تلك الدول، في شتى المجالات، حتى صار بينهما علاقات وطيدة ومصالح مشتركة من الصعب الانفكاك عنها بكل سهولة، لقد عمدت تركيا على هذه التوأمة، خلال الفترة الزمنية الماضي، بصنع روابط قوية داخل هذه المجتمعات تبلورت في صياغة اتفاقيات بين الجانبين.
ومن بين تلك الروابط عقدت تركيا عدة اتفاقيات سياسية واستخباراتية، مع هولندا كبقية دول الاتحاد التي قد تخولها الآن بفرض عقوبات عليها، بتوقيف هذه الاتفاقيات، هذا وقد أعلنت عنه بعض الصحف المحلية التركية في أن الحكومة التركية تنوي فرض حزمة من العقوبات السياسية على الحكومة الهولندية ومن بين تلك العقوبات التي أشارت إليها صحيفة “ملييت” التركية؛ قطع العلاقات الاستخباراتية بين البلدين والتي توصف بأنها قوية للغاية، وتعليق زيارات القادة العسكريين إلى القاعدة العسكرية في “أضنة” وكذلك إغلاق الأجواء التركية أمام كافة الطائرات العسكرية وطائرات الـ”في ي بي”.
وأخيراً أرى أنه سوف يتم استثمار الحدث لاكتساب شعبية، سواء في الداخل أو الخارج لمواجهة التحديات الحالية المتمثلة في محاولة اضعاف وإعاقة تركيا وتهميشها عن المشاركة في المعادلة السياسية الجارية في المنطقة وايضا حتى لا تكون عقبة في طريقه خطة التقسيم والتبعية.
على مدى زمن ليس بالطويل من العلاقات التركية مع دول الاتحاد الأوروبي، استطاعت تركيا أن تخلق لنفسها تواجد بين تلك الدول، في شتى المجالات، حتى صار بينهما علاقات وطيدة ومصالح مشتركة من الصعب الانفكاك عنها بكل سهولة
تتعامل أوروبا مع الحدث بواقع من المصالح المشتركة مع تركيا ولن تقدم مساندة حقيقية لهولندا، وكل ما عليها محاولته لرأب الصدع هو تلطيف الأجواء من جانبها، وهذا ما ورد على لسان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الثلاثاء بتصريحاته حول الأزمة المتفاقمة بين تركيا وهولندا “إن بلاده بحاجة إلى أوروبا وتركيا، وينبغي تشجيع الحوار في هذا الخصوص”.
ولفت دومينيك توماس، الباحث في جامعة لوس أنجلوس في كاليفورنيا، قسم الدراسات الفرنسية، حسب ما ورد في موقع CNN إلى تباين في المواقف الأوروبية إذ قال: “الأمر اللافت للنظر هو أن فرنسا سمحت لوزير الخارجية التركي بالتحدث أمام الأتراك على أراضيها في تجمع حصل شرق فرنسا قبل أيام، وهذا يوضح أن الموقف الأوروبي ليس موحدا باستثناء إدانة استخدام تركيا لأوصاف مثل النازية والفاشية.”
وأزعم أن هولندا ستتعامل مع الحدث بصورة منفردة، وإضافة على ذلك، ستضغط بعض الدول الأوروبية بتخفيف حدة التصعيد من ناحيتها، ويبقى كل ما عليها في هذه الفترة، الشجب والإستنكار، ولن تستطيع خسارة تركيا في الوقت الراهن لضعف موقفها في الأزمة الحالية، وتلتزم الحيطة والحذر، إلى حين تهيئة السياسة الداخلية بعد الانتخابات التي جرت وتشكيل حكومة ائتلافية. أما أوروبا فسوف تستمر في التعامل مع تركيا “بازدواجية” داعمة في ذلك لكل ما يهدد أمن واستقرار تركيا.